البنية العميقة ومكانتها عند النحاة العرب
البِنْيَةُ: يذكر علماء اللغة العربية من أصحاب المعاجم أن بنية الشيء :”الهيئة التي بني عليها”(1)و البنية ما بنيته؛ وهو البنى والبنى، وأنشد الفارسي عن أبي الحسن : أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى”(2). و«البنية» شبكة العلاقات القائمة في الواقع التي قد يعقلها الإنسان ويجردها بعد ملاحظته للواقع في كل علاقاته المتشابكة، ويرى أنها تربط بين عناصر الكـل الواقعـي أو تجْمع أجزاءه ، وأنها القانون الذي يضبط هذه العلاقات ، ولكنه قد لا يدركها على الإطلاق. ومن ثم فالبنية، كما تتبدَّى في عقل الإنسان ، ليست ذاتية ولا موضوعية تماماً.
هذا لا يعني أن البنية مجرد “إدراك” لشبكة العلاقات ونموذج عقلي يجرده الإنسان ، وإنما هي كل من “الإدراك” (الذاتي) و”الشبكة” (الموضوعية) ؛ أي أن البنية ، إلى جانب وجودها الذاتي في العقل ، لها وجود موضوعي في الواقع ، قد يدرك الإنسان معظم أو بعض جوانبه، وقد لا يدرك أياً منها . والبنية في الدرس اللغوي لها نوعان : البنية السطحية ، والبنية العميقة ؛ البنية السطحية (surface structure) :البنية السطحية هي كل هيكل الشيء ووحدته المادية الظاهرة. أمَّا البنية العميقة (deep structure) : فهي كامنة في صميم الشيء، وهي التي تمنح الظاهرة هويتها وتضفي عليها خصوصيتها. وعادة ما يعي المرء إدراك البنية السطحية المادية المباشرة، فإدراكها أمر متيسر، أما إدراك البنية الكامنة فهو أمر أكثر صعوبة، يتطلب استخدام الحواس وإعمال العقل والخيال والحدس. لذا عادة ما يعيش البشر داخل بُني اجتماعية وتاريخية واقتصادية يستنبطونها فتؤثر في سلوكهم وتشكيل رؤيتهم للكون وتحدد خطابهم الحضاري دون وعي منهم .
وقد يمكننا التعبير عن البنية السطحية والعميقة بقولنا: (الظاهر والباطن) ـ كما يرى كثير من النحاة ـ “وهذا الظاهر مماس لذلك الباطن كل جزء منه منطو عليه ومحيط به”(3)؛ ” لأن حسن الظاهر يدل على حسن الباطن”(4).ويمكن تشبيه العلاقة بين التركيب الباطني (البنية العميقة) والتركيب الظاهري (البنية السطحية) بالعلاقة ” بين مدخول التفاعل الكيماوي ومنتوجه، فالتركيب الباطني في اللغة يشبه مدخول التفاعل الكيماوي ؛ أي : أنه يشبه المواد الداخلة في التفاعل الكيماوي، والتركيب الظاهري في اللغة يشبه منتوج التفاعل الكيماوي ؛ أي : أنه يشبه المواد الناتجة من التفاعل الكيماوي “(5) .
وهذا الترابط غير المنكر بين البنية السطحية والبنية العميقة لا يمنع وجود فروق أو سمات تنماز بها البنية السطحية عن العميقة أو العكس، فإن كانتا متطابقتين فلا داعي للفصل بينهما باسمين أو مصطلحين متغايرين .
* السِّمات المميزة للبنية السطحيَّـة:تنمـاز البنية السطحية بكثير من السِّمات؛ من أهمها ما يأتي:
1ـ هي البنية المنطوقة والمسموعة أو المكتوبة فعلاً لا تصورًا أو تخيلاً .
2ـ الاختصار؛ لأن المتكلم يعمد إلى ما يريد بأقل العبارات أو الجمل المتعارف عليها ، لذلك فهو يغفل في منتجه اللغوي النهائي (السطحية) كل ما يراه أو يتصور أنه غير مفيد .
3ـ السهولة والوضوح في المعنى والبعد عن التعقيدات اللفظية ما أمكن ، فالاهتمام باللفظ يحتل مكانة عظيمة عند المتعاملين مع البنية السطحية .
4ـ الإعراب؛لأن هذه البنية يجب أن تطبق القواعد اللغوية والنحوية ،فما صِيْغَ على كلام العرب هو من كلام العرب.
* السِّمات المميزة للبنية العميقـة: تنمـاز البنية العميقة بكثير من السمات، من أهمها ما يأتي:
1ـ صعوبة تحديدها؛ لأنها تعتمد على إعمال الفكر والحدس والتخمين . وذلك لأن التوهم ” حالة نفسية يتصور الإنسان معها تصورات قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة”(6).
2ـ ليس لها شكل معين أو صياغة واحدة؛ فهي تختلف باختلاف المتصور لها .
3ـ تعتمد على المعنى أكثر من اعتمادها على اللفظ؛ فهو محورها ومناط اهتمام الباحثين عن البنية العميقة.
4ـ أقـدم من السطحية نشأةً في تصور أكثر العلماء؛ لذا فهي مصدر أو مرجع البنية السطحية.