بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الله عز وجل في محكم كتابه الكريم:
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ أَنْ ءَامِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَـعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(112) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّـهِدِينَ(113)قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تكُونُ لَنَا عِيداً لاَِّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(114) قَالَ اللهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَـلَمِينَ(115)سورة المائدة
ورد في سورة آل عمران قوله تعالى:
(فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ ءَامنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ (53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ (54))سورة آل عمران
في قوله تعالى: { وإذ أوحيت إلى الحواريين } الآية، الآية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله:
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون }
ومن هنا يظهر أن هذا الإِيمان الذي ذكره في الآية بقوله: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا } الآية، غير إيمانهم الأول به عليه السلام فإن ظاهر قوله في آية آل عمران: { فلما أحس عيسى منهم الكفر } أنه كان في أواخر أيام دعوته وقد كان الحواريون وهم السابقون الأولون في الإِيمان به ملازمين له.
على أن ظاهر قوله في آية آل عمران: { قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } أن الدعوة إنما سيقت لأخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الإِيمان بالله، ولذلك ختم الآية بقولهم: { واشهد بأنا مسلمون } وهو التسليم لأمر الله بإقامة دعوته وتحمل الأذى في جنبه، وكل ذلك بعد أصل الإِيمان بالله طبعاً.
فتبين أن المراد بقوله: { وإذ أوحيت إلى الحواريين } الخ، قصة أخذ الميثاق من الحواريين
ـ من هم الحواريون ؟
«حواريّون» جمع حوري من مادة «حَوَر» بمعنى الغسل والتبييض، وقد تطلق على الشيء الأبيض. لذلك يطلق العرب على الطعام الأبيض «الحواري». و«حور» جمع حوراء وهي البيضاء البشرة.
أمّا سبب تسمية تلامذة المسيح بالحواريّين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة، ولكن الأقرب إلى الذهن، وهو الوارد في أحاديث أئمّة الدين، هو لأنّهم فضلاً عن طهارة قلوبهم وصفاء أرواحهم، كانوا دائبي السعي في تطهير الناس وتنوير أفكارهم وغسلهم من أدران الذنوب.
وهذا ما أكّده حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) في «عيون أخبار الرضا»..؟ !
كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح بموجب ما بشّرهم به موسى، قبل أن يولد. ولكنّه عندما ظهر، وتعرّضت مصالح جمع من الظالمين والمنحرفين من بني إسرائيل للخطر، لم يبق معه إلاَّ نفر قليل، بينما تركه الذين احتملوا أن يؤدّي قبولهم دعوة المسيح والتقيّد بالقوانين الإلهية إلى ضياع مصالحهم.
بعد أن أعلن عيسى دعوته وأثبتها بالأدلّة الكافية، أدرك أنّ جمعاً من بني إسرائيل يصرّون على المعارضة والعصيان ولا يتركون المعاندة والإنحراف (فلمّاأحسّ(1) عيسى منهم الكفر)، فنادى في أصحابه و (قال مَن أنصاري إلى الله)فاستجاب لندائه نفر قليل. كانوا أطهاراً سمّاهم القرآن بـ «الحواريّين». لبّوا نداء المسيح ولم يبخلوا بشيء في سبيل نشر أهدافه المقدّسة.
أعلن الحواريُون استعدادهم لتقديم كلّ عون للمسيح، وقالوا : (نحن أنصار الله آمنّا بالله واشهد بأنّا مسلمون).
لاحظ أنّ الحواريين لم يقولوا : نحن أنصارك. بل لكي يعربوا عن منتهى إيمانهم بالتوحيد وليؤكّدوا إخلاصهم، ولكن لا يشمّ من كلامهم أيّ رائحة للشرك، قالوا : نحن أنصار الله، ننصر دينه، ونريدك شاهداً على هذه الحقيقة، لعلّهم قد شمّوا منذ ذلك اليوم رائحة الإنحراف في المستقبل وأنّ هناك من يستدعي الوهيّة عيسى من بعده، فسعوا ألاَّ يكون في كلامهم ما يمكن أن يتذرّعوا به. ضمناً نلاحظ أن الحواريين عبّروا في كلامهم عن كونهم مسلمين، وهذا يدلّ على أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء (عليهم السلام).
وهنا ميّز المسيح (عليه السلام) أتباعه المخلصين من الأعداء والمنافقين كيما يضع لدعوته برنامجاً دقيقاً وخطة مدروسة
وبعدأن قبل الحواريّون دعوة المسيح إلى التعاون معه وأتّخاذه شاهداً عليهم في إيمانهم، أتّجهوا إلى الله يعرضون عليه إيمانهم قائلين : (ربّنا آمنّا بما أنزلت).
ولكن لمّا كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها، فقد اتّبعوا ذلك بقيامهم بتنفيذ أوامر الله واتّباع رسوله المسيح، وقالوا مؤكّدين : (واتّبعنا الرسول).
عندما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لابدّ أن ينعكس ذلك على عمله، فبدون العمل يكون ادّعاؤه الإيمان تقوّلاً، لا إيماناً حقيقياً.
بعد ذلك طلبوا من الله قائلين (فاكتبنا مع الشاهدين). والشاهدون هم أُولئك الذين لهم صفة قيادة الأُمم، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيّئة.
وبعد أن انتهى الحواريّون من شرح إيمانهم، أشاروا إلى خطط اليهود الشيطانية، وقالوا : إنّ هؤلاء ـ لكي يقضوا على المسيح، وعلى دعوته، ويصدّوا انتشار دينه ـ وضعوا الخطط الماكرة. إلاَّ أن ما رسمه الله من مكر فاق مكرهم وكان أشدّ تأثيراً (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).
تكلّم القرآن على الحواريّين في سورة الصف، الآية 14، مشيراً إلى إيمانهم. ولكن يتبيّن ممّا نقرأه في الإنجيل بشأن الحواريّين أنّهم جميعاً ارتكبوا بعض الزلل بالنسبة للمسيح.
أمّا أسماؤهم كما جاءت في إنجيل متّى ولوقا، الباب السادس، فهي :
1 ـ بطرس،2 ـ اندرياس، 3 ـ يعقوب، 4 ـ يوحنّا، 5 ـ فيلوبس، 6 ـ برتولولما، 7 ـ توما، 8 ـ متّى، 9 ـ يعقوب بن حلفا، 10 ـ شمعون «الغيور»، 11 ـ يهوذا أخو يعقوب، 12 ـ يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح
يذكر المفسّر المعروف المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» أنّ الحواريّين كانوا يرافقون المسيح في رحلاته. كلّما عطشوا أو جاعوا رأوا الماء والطعام مهيّأً أمامهم بأمر الله، فكانوا يرون في ذلك فخراً لهم أيّ فخر، وسألوا المسيح : أهناك من هو أفضل منّا ؟ فقال : نعم، أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه.
وعلى أثر ذلك اشتغلوا بغسل الملابس للناس لقاء أجر، وانشغلوا بذلك; فكان ذلك درساً عملياً للناس بأنّ العمل ليس عيباً أو عاراً
تعقيباً على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على المسيح(عليه السلام) وأُمّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين، أي أصحاب المسيح(عليه السلام).
ففي البداية تشير الآية إِلى ما أوحي إِلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله المسيح(عليه السلام) فاستجابوا (وإِذ أوحيت إِلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمناوأشهد بأنّنا مسلمون).
إن للوحي في القرآن معنى واسعاً لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء، بل أن الإِلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضاً، لذلك جاء هذا المعنى في الآية (7) من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي إليها كما ورد في قوله تعالى: (وأوحينا إِلى أُم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم...).
بل إن الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان، كالنحل.
وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإِيحاء الذي كان يلقيه المسيح(عليه السلام)بواسطة المعاجز في نفوسهم..
ثمّ تذكر الآية نزول المائدة من السماء: (إِذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا من السماء).
«المائدة» تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والإِهتزاز، ولعل سبب إِطلاق لفظة المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.
شعر المسيح(عليه السلام) بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم و(قال اتقوا الله إِن كنتم مؤمنين).
ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيح(عليه السلام) أن هدفهم برىء، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها (مضافاً إِلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الانسان) (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين).
فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإِلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.
ولمّا أدرك عيسى(عليه السلام) حسن نيّتهم في طلبهم ذاك، عرض الأمر على الله: (قال عيسى ابن مريم اللّهم ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين).
من الواضح هنا أنّ الأُسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.
فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإِخلاص، (قال الله إِني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذاباً لا اُعذبه أحداً من العالمين).
فبعد نزول المائدة تزداد مسؤوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضاً في حالة الكفر والإِنحراف.
لاشك أنّ الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصد سيء في طلبهم هذا، ولا هم كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الإِطمئنان الأقوى وإِبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم، فكثيراً ما يحدث أنّ انساناً يتأكد من أمر بالمنطق وحتى بالتجربة، ولكن إِذا كان الأمر مهماً جدّاً فإنّ بقايا من الشك والتردد تظل في ثنايا قلبه، لذلك فهو شديد الرغبة في أن تتكرر تجاربه واختباراته، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إِلى مشاهدات عينية تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس، ولهذا نرى إِبراهيم(عليه السلام)، على ما كان عليه من مقام ويقين يسأل الله أن يرى المعاد رأي
العين لكي يتبدل إِيمانه العلمي إِلى «عين اليقين» وإِلى «شهود».
ولكن اُسلوب طلب الحواريين تميز بشيء من الفضاضة لذلك ظن عيسى(عليه السلام)أنّهم بصدد البحث عن الأعذار والحجج، فاعترضهم وبعد أن شرحوا له حقيقة موقفهم وافق على طلبهم.
في الميزان ذكر أن الذي يفيده ظاهر قوله تعالى: { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة } أنهم اقترحوا على المسيح عليه السلام أن يريهم آية خاصة وهم حواريوه المختصون به وقد رأوا تلك الآيات الباهرة والكرامات الظاهرة فإنه عليه السلام لم يرسل إلى قومه إلا بالآيات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى:
{ ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله }
[آل عمران: 49] الخ.
وكيف يتصور في من آمن بالمسيح عليه السلام أن لا يعثر منه على آية وهو عليه السلام بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب وأيده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلاً ولم يزل مكرماً بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه وختم أمره بأعجب آية.
فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية وقد ركبوا أمراً عظيماً ولذلك وبخهم عيسى عليه السلام بقوله: { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين }.
ولذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه وفسروا قولهم ثانياً بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، ويزيل عنه تلك الحدة فقالوا: { نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } فضموا إلى غرض الأكل أغراضاً أُخر يوجه اقتراحهم، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالأُمور العجيبة والعبث بآيات الإِلهية بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم وإزالة خطرات السوء من قلوبهم وشهادتهم عليها.
في قوله تعالى (هل يستطيع ربك) ظاهر هذا الكلام يوحي بأنّ الحواريين كانوا يشكون في قدرة الله على إِنزال مائدة، إِلاّ أنّ المفسّرين المسلمين لهم آراء أُخرى في تفسيرها، منها أنّ هذا الطلب وقع في بداية أمرهم وقبل أن يتعرفوا على جميع صفات الله.
ورأي آخر يقول: إِنّ سؤالهم يعني: هل يرى الله أن من المصلحة أن ينزل عليهم مائدة من السماء؟ كأن يقول شخص: لا أستطيع أن أعهد إِلى فلان بكل ثروتي، ولا يعني أنّه ليس بقادر على ذلك، بل يعني أنّه لا يرى مصلحة في الأمر.
ورأي ثالث يقول: أن «يستطيع» تعني «يستجيب» لأن مادة (طوع) تعني الإِنقياد، فإِذا وردت من باب (الإِستفعال) فيمكن أن تفيد المعنى نفسه، فيكون المعنى: هل يستجيب الله لطلبنا بشأن إِنزال مائدة من السماء؟
في المجمع في قوله تعالى: { هل يستطيع ربك } عن أبي عبد الله عليه السلام قال: معنى الآية هل تستطيع أن تدعو ربك
ما هي تلك المائدة السماوية؟
لم يذكر القرآن شيئاً عن محتوياتها، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث، وخاصة الحديث المروي عن الإِمام الباقر(عليه السلام)، أن تلك المائدة كانت تحوي أرغفة من الخبز ومقداراً من السمك، ولعل سبب طلب هذه المعجزة كان ما سمعوه عن المائدة السماوية التي نزلت على بني إِسرائيل باعجاز من موسى(عليه السلام) فطلبوا هم أيضاً من عيسى(عليه السلام) مثل ذلك.
وفي تفسير العياشي عن عيسى العلوي عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: المائدة التي نزلت بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة وتسعة أرغفة
رغم أنّ الآيات المذكورة تكاد تصرح بنزول المائدة، فالله لا يخلف وعده، ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين يشكون في نزول المائدة، ويقولون: أنّ الحواريين حين عرفوا عظم المسؤولية التي سوف تقع عليهم بعد نزول المائدة،
تخلوا عن طلبهم، ولكن الواقع أنّ المائدة قد نزلت فعلا. وهي وإن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الآية الأخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد وقد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد..
ـ ما العيد؟
«العيد» في اللغة من «العود» أي الرجوع، لذلك فذكرى الأيّام التي تنداح فيها المشاكل عن قوم أو مجتمع وتعود أيام الفوز والهناء الأوّل تكون عيداً. كذلك هي الأعياد الإِسلامية فبعد شهر من طاعة الله في صوم رمضان، أو بعد أداء فريضة الحج العظيمة، يعود إِلى النفس طهرها وصفاؤها الأولين الفطريين، ويزول التلوث عن الفطرة، فيكون العيد، ولما كان يوم نزول المائدة يوم العودة إِلى الفوز والطهارة والإِيمان بالله، فقد سمّاه المسيح(عليه السلام) عيداً.
وقد ورد في الأخبار أنّ نزول المائدة كان في يوم الأحد، ولعل هذا هو سبب الإِحترام الذي يكنه المسيحيون لهذا اليوم.
إِنّنا نقرأ لأمير المؤمنين علي(عليه السلام) قوله: «وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد»(1).
وفي هذا إِشارة إِلى الموضوع نفسه، لأنّ يوم ترك المعصية هو يوم فوز وطهارة وعودة إِلى الفطرة الاُولى.
وقد ذكر عليه السلام المائدة النازلة هو الغرض له ولأصحابه من سؤال نزولها وهو أن تنزل فتكون عيداً له ولجميع أُمته، ولم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيداً يخصون به لكنه عليه السلام عنون ما سأله بعنوان عام وقلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالاً للآية مع وجود آيات كبرى إلهية بين أيديهم وتحت مشاهدتهم، ويكون سؤالاً مرضياً عند الله غير مصادم لمقام العزة والكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، ويجدد حياة الملة، وينشط نفوس العائدين، ويعلن كلما عاد عظمة الدين.
ولذلك قال: { عيداً لأولنا وآخرنا } أي أول جماعتنا من الأُمة وآخر من يلحق بهم - على ما يدل عليه السياق - فإن العيد من العود ولا يكون عيداً إلا إذا عاد حيناً بعد حين، وفي الخلف بعد السلف من غير تحديد.
لماذا العقاب الشديد؟
هنا أمر مهم ينبغي ألا نغفل عنه، وذلك أنّه عندما يبلغ الإِيمان مرحلة الشهود وعين اليقين أي عندما ترى الحقيقة رأي العين، ولا يبقى مكان لأي شك أو تردد، فإنّ مسؤولية المرء تزداد وتثقل، لأنّ هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه الوساوس والشكوك من قبل، بل هو امرؤ ورد مرحلة جديدة من الإِيمان وتحمل المسؤولية، فأقل تقصير أو غفلة من جانبه يستدعي العقاب الشديد، ولهذا فإنّ مسؤولية الأنبياء وأولياء الله أشد وأثقل، بحيث أنّهم كانوا في خشية دائمة منها، إِننا في الحياة اليومية نصادف نماذج من هذا القبيل أيضاً، فمثلا يعلم كل شخص أنّ في بلده أو مدينته جياعاً يتحمل مسؤوليتهم، ولكنه عندما يرى بعينيه انساناً
بريئاً يتضور جوعاً ويتألم سغباً، فلا شك أنّ درجة مسؤوليته تكون عندئذ أعلى.
************************************************** ************************************************** ** *********
تفسير الأمثل في سورتي
أل عمران والمائدة
تفسير الميزان