في سنة 8هـ= 629م قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتجهيز ثلاثة آلاف مقاتل لمواجهة جيش الرومان في غزوة مؤتة، ولم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة أميرًا واحدًا، بل عين ثلاثة من الأمراء، وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وقال صلى الله عليه وسلم " إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ"[1]، وقد أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الجيش البطل الإسلامي الفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولم يكن مر على إسلامه إلا ثلاثة أشهر فقط، وخرج الرسول بنفسه لتوديع الجيش، وحرص على ألا تخرج الحرب الإسلامية عن ضوابطها الشرعية، وأن يلتزم المسلمون تمامًا بأخلاقهم حتى في أشد حروبهم، حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا»[2].
بعد أن وصل الجيش الإسلامي إلى مؤتة وجد أن الدولة الرومانية أعدت جيشًا هائلًا عدده مائة ألف مقاتل، وأعد العرب النصارى الموالين للرومان مائة ألف مقاتل أيضًا، فصار مجموع جيوش العدو مائتي ألف مقاتل، ومع هذا العدد الكبير رأى المسلمون أن القتال أمر ممكن، وأن النصر أمر محتمل، يقول الله عز وجل في كتابه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
وذكر سبحانه وتعالى أيضًا في سورة الأنفال: أن الجيش المؤمن قادر على مواجهة عشرة أضعافه إن كان قوي الإيمان حقاً، قال سبحانه وتعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65].

زيد بن حارثة
اقتربت ساعة الصفر وبدأت معركة مؤتة، وهي بحق أشرس موقعة في السيرة النبوية، أمواج بشرية هائلة من الرومان ونصارى العرب تنساق إلى أرض مؤتة، ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في واجهة أقوى قوة في العالم آنذاك، وارتفعت صيحات التكبير من المسلمين، وحمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى إشارة البدء لأصحابه واندفع كالسهم رضي الله عنه وأرضاه صوب الجيوش الرومانية، ومع ارتفاع الغبار في أرض المعركة، وارتفاع أصوات السيوف وصرخات الألم سقط أول شهداء المسلمين والبطل الإسلامي العظيم والقائد المجاهد زيد بن حارثة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط مقبلًا غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة جدًا، حيث كان رضي الله عنه من أقدم الصحابة إسلامًا، فقد كان صغيرًا في الجاهلية، واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوجها، فتبناه النبي قبل الإسلام وأعتقه واستمر الناس يسمونه زيد بن محمد حتى نزلت آية {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يبعثه في سرية إلا جعله أميرًا عليها وكان يحبه ويقدمه حتى اُستشهد.

جعفر بن أبي طالب
هو أخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويقال له جعفر الطيار، وهو من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، فلم يزل هنالك إلى سنة 7هـ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وحمل الراية في مؤتة بعد استشهاد زيد بن حارثة وكان عمره عندئذ أربعين سنة، ونزل عن فرسه وقاتل قتالًا لم ير مثله، حيث تقدم صفوف المسلمين وأكثر الطعن في الرومان فتكالبوا عليه وقطعوا يمينه فحمل الراية بشماله لكيلا تسقط فقطعوا شماله أيضًا، فاحتضن الراية إلى صدره، وصبر حتى وقع شهيدًا وفي جسمه نحو تسعين طعنة ورمية، فقيل: إن الله عوضه عن يديه جناحين في الجنة، فروى البخاري: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا حيا ابن جعفر رضي الله عنه قال: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ"[3]، كما جاء في البخاري أيضًا: أن عبد الله بن عمر قال" أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ" أي: ليس منها شيء في ظهره[4]، فهو لم يفر ولو للحظة واحدة رضي الله عنه وأرضاه، بل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها بل يطير، روى الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت جعفر بن أبي طالب، ملكًا يطير في الجنة»[5].

عبد الله بن رواحة
حمل الراية بعد جعفر بن أبي طالب بطل ثالث ألا وهو عبد الله بن رواحة، ذلك المجاهد الشاب الذي شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الاثني عشر وشهد بدر وأحد والخندق والحديبية، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى غزواته، وصحبه في عمرة القضاء، حمل الراية رضي الله عنه، وكان يدفع الناس دفعًا للقتال ويحمس المسلمين على طلب الشهادة وكان يتمنى ألا يعود إلى المدينة، بل يقتل شهيدًا في أرض المعركة، وقاتل عبد الله بن رواحة قتالًا عظيمًا مجيدًا حتى قُتل رضي الله عنه، فأخذ الراية رجل من الأنصار ومشى بها إلى خالد بن الوليد، فقال له خالد: لا آخذها منك أنت أحقّ بها فقال الأنصاري والله ما أخذتها إلا لك.

خالد بن الوليد
لما حمل خالد بن الوليد الراية نجح في التراجع بالجيش تدريجيًا حتى سحب الجيش بكامله وعاد به إلى المدينة المنورة سالمـًا، وسمّي هذا نصرًا وفتحا باعتبار أنهم تخلصوا من أيدي الروم الذين كانوا مائتي ألف والمسلمون ثلاثة آلاف فقط، وروى النسائي أنه لما أخذ الراية خالد بن الوليد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعيه ثم قال اللهم إنه سيف من سيوفك فانتصر به[6]، فمن يومئذ سمّي خالد بن الوليد سيف الله، وكان خالد بن الوليد من أشراف قريش في الجاهلية، وشهد مع مشركيهم حروب الإسلام إلى عمرة الحديبية، وأسلم قبل فتح مكة سنة 7هـ ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبو بكر الصديق كان له صولات وجولات في قيادة الجيش[7].


[1] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، (4013).
[2] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها (1731).
[3] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه (3506).
[4] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4012).
[5] الطبراني في المعجم الكبير (1468).
[6] النسائي: كتاب المناقب، عبد الله بن رواحة رضي الله عنه (8249).
[7] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وراغب السرجاني: السيرة النبوية.
قصة الإسلام