TODAY - September 23, 2010
أم عامر ونحن ايضا : “ ملـّينة ”
عبدالمنعم الأعسم
من على شاشة فضائية الفيحاء تظهر “ام عامر” يوميا، إعلانا عن تحقيق تلفزيوني يتناول مكابدات المواطنين، وهي تطلق شكوى مدوية تفرّ من روحها المكلومة بعنوان “مليـّنه” تكررها بين جملة واخرى، واحيانا تتوقف قليلا وكأنها تنتظر مسموع كلامها الوجيز على المشاهدين، بل انها (احيانا) تخاطب ضمائر مسؤولين ميتة، واحيانا اخرى تخاطب الله شاهدا على هذا الذي يحصل لها ولغيرها من المهمشين والفقراء والنساء الارامل على يد اصحاب الـ (ok) الكبار وفضلاتهم في مرافق الدولة واقنية العيش والطبابات ومكاتب الحصة التموينية، ثم تبكي وهي تكرر.. ملـّينه.. والله ملـّينه، وفي ضمن ذلك اشارة الى الدوامة السياسية الناشئة عن كوميديا تشكيل الوزارة لستة شهور عجاف.
ام عامر امرأة من البصرة، سقط الخوف من قلبها، وتماهت السلطة في محنتها، فهي لا تملك ما تخاف عليه، والحق انها لا تملك شيئا لما تبقى من حياتها، بعد ان فقدت زوجها وقضت شهورا مديدة في المطاردة المضنية لامراضها وتدبيرات معيشة الايتام ولمعاملة تقاعد الزوج، وتلوح بالوريقات و”الراتشيتات” التي تحملها من دائرة الى اخرى، ومن مشفى الى آخر، وتحمل على ظهرها كومة من الـ ok يات المهينة والاستهلاكية من هذا المسؤول او الموظف او المرجع، ولا تخشى ان تخبرنا، بالصوت والصورة، ان الغلاء يطحن الفقراء، وان الجبابرة يسرقون قوت الشعب، واخذونا رهائن لاحتياجاتنا المعيشية غدرا.
لا احد يعرف من اين جاءت ام عامر بهذه الشكيمة المنيعة وبمعزّة الحياة الكريمة، وبالقدرة على النفاذ من الشاشة الملونة الى الضمائر، ومن منحدرات الاحوال الى الاسئلة. اغلب الظن انها لم تفكر طويلا، وكانت تلقائية في التعبير عن صراخها الدفين لكي تلخص هذا الاحتجاج بكلمات مكثفة، مرة في صيغة تقرير “ يوميّة يجينا واحد ok” ومرة اخرى في صيغة سؤال مدوٍ بليغ ومُلغـّز: “هيّه ولية غـُمّان يو زينين؟” بمعناها الفصيح: هل هي قبضة جبناء ام فرسان؟ ومرة ثالثة بصيغة المدافع الباسل عن حقه في الحياة “نريد نفرح نريد نـْعـيش”.
هتاف ام عامر النبيل “ملـّينه” هو مشروع الاحتجاج السلمي النزيه للملايين التي تدوسها يوميا عجلات العوز والمهانة، لكنه مكتوب، لا في قاعات الفنادق والعواصم وغرف البالتوك، بل في منازل الطين والصفيح والتجاوز، إذ يفتقد السكان المنسيون هناك الكهرباء وماء الشرب والمدارس والطبابات، وتفتقد حياتهم ملازم المدنية واحقر شروطها. مشروع غير صالح لاناقة الجمل الرنانة عن المستقبل وخطط الانماء والتعمير، فان الحاضر يسدّ منافذ الضوء على الكائنات النبيلة التي قذفت بها الانواء الى هذه الاقدار، كما لا يصلح لتبرير النهب وتطييب خواطر النهابين.
ملـّينه ام عامر يمكن ان تتحول الى حركة.. وكل اقدار التاريخ المشرقة، والبديلة، بدأت حين كف الناس عن ان يتحملوا المزيد من الذل.
لنعلن جميعا " ملـّينة "