يواجه الباحث اليوم صعوبات كثيرة في مجال البحث العلمي؛ ومن أهم هذه الصعوبات ما يعرف بمشكلة المصطلح الذي خصصت له مجموعة من الدراسات حيزا هاما، تناولت فيه أهم المشاكل النظرية والتطبيقية. إلا أن المشكلة ظلت معقدة تعقيدا بارزا، بالنظر إلى صعوبتها وصلابتها، والجهد الحثيث الذي تتطلبه.مما أسهم في إحداث اختلالات كبيرة في كثير من الأبحاث، وهو ما يتجسد في استعمال مصطلحات غير دقيقة، مما يحدث تشويشا لدى المتلقي؛ أي غياب الوضوح الذي يقتضي ضبط المصطلح والتحكم في استعمالاته للوصول إلى نتائج علمية جيدة تتبع المنهج العلمي. من هذا المنطلق جاءت فكرتنا المرتبطة بتناول مفهوم الابستيمولوجية.

فما هي الابستمولوجية؟
يرى جميل صليتا في معجمه الفلسفي (1982) الجزء الأول، أن الابستومولوجيا هي نظرية العلوم، أو فلسفة العلوم؛ ويعني ذلك، دراسة مبادئ العلوم، وفرضياتها، ونتائجها، دراسة نقدية تمكن من أبراز أصلها المنطقي، وقيمتها الموضوعية. وهذه الدلالة مرتبطة بالمعنى الاشتقاقي للكلمة. وهي دلالة تحتلف عن المعنى الذي أسنده فوكو- حسب حسن كركي - الذي يؤشر على العقلية المعرفية لعصر من العصور.
إنه بالرغم من التعريفات التي يمكن أن تعطى للابستومولوجيا، فإنها تظل ملازمة للعلم. والعلم، هنا، هو مختلف الأنسقة المعرفية، لذلك نجد مجموعة من الأدبيات تتحدث عن الابستومولوجيا اللسانية، والأدبية، والجغرافية...إلخ.إنها كل الأعمال المعرفية مُرصَدة في خضم التطور الفكري والعلمي، والفلسفي. وهي بذلك ترصد العلاقة بين الذات والموضوع، باعتبارهما يشكلان المعرفة، وهذا ما يدل على ارتباط الابستومولوجيا بالعلوم المعرفية، أولا، وتمايزها عنها، ثانيا، فهي مرتبطة بالمنطق من حيث، إنها تدرس شروط المعرفة الصحيحة، وتختلف عنها لأنها تهتم بصورة المعرفة ومادتها معا، بينما يهتم المنطق بصورة المعرفة فقط؛ يدرس قوانين التفكير الأساسية، بصرف النظر عن مادة هذا التفكير أو موضوعه، فهو معني بصحة الاستدلال وسلامة الانتقال من المقدمات إلى النتائج، ولا شأن له بالحكم بانطباقها أو عدم انطباقها على الواقع، إنه معني بالصحة وليس معنيا بالصدق.كما يدرس التصورات والمفاهيم، لا في علاقتها بالعالم الخارجي، بل في علاقتها الداخلية بمبادئ التفكير المنطقي، وببعضها واتساقها معا.
هكذا، نسجل أن الابستمولوجية علم مستقل يهتم بالبحث في طرق وأسس بناء المعرفة بمختلف أنساقها، وشروطها الصحيحة التي تجعل منها معرفة نظرية قابلة التحقق في الواقع

ما الإبستمولوجيا..؟
من المفردات أو المصطلحات التي ترد معنا كثيراً لفظة "الإبستمولوجيا"..
فماذا تعني..؟ , وما دلالة هذا المصطلح..؟ وهل نكتفي بالقول: إنها ما يقابل علم الحفريات..؟
في محاولة للإجابة على سؤال عن هذا المنحى جاءت إجابتي وفق ما يلي
الإبستمولوجيا هي ما يتمثل بالأدوات المنتجة للأفكار.. لا الأفكار ذاتها..
على أن هناك تداخلا بين الفكر بوصفه أداةً لإنتاج الأفكار والفكر بوصفه مجموع تلك الأفكار.. كما يقول الجابري في مقدمة تكوين العقل العربي..؛ فليس هناك قوة مدرِكة معزولة عن مدرَكاتها
والجابري كما يعبر في مقدمة كتابه ذاك يخطو خطوة بالانتقال من مجال التحليل الإيديولوجي إلى مجال البحث الإبستمولوجي..؛ فقد استبعد مضمون الفكر العربي -الآراء والنظريات والمذاهب وبعبارة عامة الإيديولوجيا- عن مجال اهتمامه..؛ فحصر محاولته في تحليل وفحص الفكر العربي بوصفه أداةً للإنتاج النظري.. لا الإنتاج نفسه وهناك تفريقٌ قد يسهم في توضيح هذه الدقائق يتمثل في التفريق بين العقل المكوِّن ، أو الفاعل والعقل المكوَّن أو السائد.. ؛ فإذا كان الأول يعني النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة من خلال صياغة المفاهيم وتقرير المبادئ.. ؛ فإن الثاني ( العقل المكوَّن ) يعني مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في الاستدلال.. ويلي هاتين المرحلتين مرحلةٌ ثالثة وأخيره تتمثل في النتاج أو المنجز النهائي..وبذا يفترض أن تتجه جهودُنا في التغيير والنهوض إلى إنشاء وصياغة مبادئ وقواعد جديدة محلَّ القديمة؛ ليسودعقلٌ جديد.. أما محاولة التغيير من خلال ذلك المنتوج فلا تقدم حلولاً ناجعة..ويفترض أن نمارس عملية النقد هذه داخل ذلك العقل نفسه باستخدام آلياته ذاتها مع الاستعانة بمستفِّزات وآليات من خارجه _ بتعبير الجابري _ وكما عبّر أدونيس في مقطع سابق من تلك الوقفات المطوَّلة..
وإذا كانت الإبستمولوجيا تقوم على التعرف إلى آليات تكوين العلم الحديث وأسسه وأبعاده المعرفية والقيمية..؛ فإن هناك تداخلاً بين الإبستمولوجيا وعلم المناهج والعلوم الانسانية.. كما أن هناك صلاتٍ ضمنيةً أو صريحة تربطها بالفلسفة كما يقول (روبار بلانشاي) في كتابه عن الإبستمولوجيا..
ولأن الإبستمولوجيا تفكيرٌ بالعلم؛ فإنها تدخل في"ما بعد العلم" وربما كانت علاقة الإبستمولوجيا بنظرية المعرفة _ مبدئياً _ علاقة نوع بجنس؛ إذ تقتصر الإبستمولوجيا على المعرفة العلمية وحدها..
وربما أفلتت شيئاً فشيئاً من الفلاسفة؛ لتصبح في أيدي العلماء.. وربما امتدت في منطقة وسطى بين العلم والفلسفة متوسعةً على الجانبين؛ فهي ـ أساسا ـ دراسةٌ عقدية لمبادئ مختلف العلماء وفرضياتها ونتائجها وبقدر ما يتولد التفكير الإبستمولوجي من عوائق العمل العلمي؛ فإنه يظل قريباً من هذا العمل بما فيه من خصوصية..
وربما انشطرت الإبستمولوجيا علميةً و فلسفيةً وداخليةً وخارجيةً..؛ فإذا كانت الداخلية تأتي تحت أقدام العالِم نتيجةَ مشكلاتٍ تُطرَح داخل علمه بالذات؛ فإن الخارجية تأتي غايةً حاكمة لا محكومة تكتسب أهمية نظرية باعتبارها غاية، وليست مجرد وسيلة؛ لتقترب من الفلسفة أكثر..
الاعتراف بوجود علاقة ماثلة بين العقل والواقع، بين الفكر النقدي والفضاء الإنساني، لصياغة الوجود بشروط عقلانية من اجل حياة أفضل، إحد التحديات النقدية التي قدمت لها "مدرسة فرانكفورت" منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
لقد وجدت "الثقافة" نفسها للمرة الأولى وإثناء جدلها العتيد مع العصر في مواجهة خيارات لم تألفها سابقا، بأسباب تحولات حضارية عميقة بات يحياها. وهو الدافع الذي جعلها تخوض نزاعا، وتؤسس لموقف مناهض بالضد من تصورات وممارسات شاملة، تسعى لتأليه الوقائع والتقنيات،باعتبارهما حقائق بامتياز. وبأثر النجاح الحاسم الذي تحقق مع اكتشافات العلوم الطبيعية عند بدايات ذلك القرن.
إن مفاهيم مثل "التشيؤ"، "العقل الاداتي"، "صناعة الثقافة"، التي ابتكرها مفكرو تلك المدرسة والأسئلة التي طرحتها ما زالت تحتفظ براهنيتها، وما زال المعنى الذي كشفت عنه يحتفظ بالكثير مما يخبرنا به.
خاصة في ظل "ثقافة" معاصرة، أصبح الكثير من نتاجها وطبيعته خاضعا لخلاصات الحس التقني الاداتي المهيمن في حياتنا. بل يمكن القول ان السلوك الاستهلاكي لها، تحول الى ان يكون ميلا تاريخيا لهذا العصر.
كانت الأطروحة النقدية لـ" مدرسة فرانكفورت " مسعى فكريا مثابرا لتجاوز الحيادية التي اكتنفت "الثقافة " في مضمونها السابق. بوصفها نشاطا فكريا وروحيا متعاليا، أو نتاجا لملكات فردية خلاقة. سواء كانت ممارسة معرفية فكرية أو جمالية متخيلة. لتعيين مضمون آخر لها ، شديد الحيوية، يفترض لها دورا أكثر تمثيلية للواقع وأشد نقدا لحاضره في دعوة إلى الملاءمة والتميز، ما يمنحها أهمية متواصلة كمجال للتأثير والنفوذ القابل والجدير بالتحليل، إذ لايمكن اعتبار ما هو مختص بالمعنى الروحي والفكري والجمالي للإنسان والعالم، شيئا معدا للاستهلاك.
رؤية مغايرة كهذه، كانت موجهة ضد عالم بات يتخطى "الثقافة"، كنتاج تأملي وتعبير إنساني حي وحيوي، إلى نتاج يتم تمثيله ضمن حدود الفرجة المشهدية والإشهار. وبأثر هيمنة "الموضة"، "الإعلان"، "الصورة"، "الميديا". ومن ثم اشاعة الأنظمة الافتراضية، تكنولوجيا الاتصال، الوسائطية المتعددة بطابعها الالكتروني. ما يؤسس لحضور عنيد للإثارة، وصناعة استجابة آلية للمتلقي، تشكل جميعها ما يسمى "أيديولوجيا الحاجة الزائفة". بمعنى، ما يفرض علينا من الخارج كضرورة تحقق عملية الاستهلاك، بوفرة كثيرة تستدعي نفسها دائما لتلبي استحسان الجمهور وقبوله. وهو الأمر الذي يجعلها في وضع تكون خلاله خاضعة للتلاعب والخداع. مادام وهم الفرادة بديلا عن الفرادة ذاتها التي غابت في صخب المجتمع، والأصيل غدا لا يحتفظ إلا بتفاصيل عابرة. فـ "الثقافة" لم تعد انفتاحا على معانٍ مبتكرة في الحياة..!. لقد أصبحت واقعة الاستهلاك ممارسة تعادل الحرية أو تجاور حدودها.
إن التوجه الذي بدا يجتاح العصر ومجتمعاته المدنية، في بعده السياسي، الفكري، الاقتصادي. يمضي إلى دمج وتوحيد أشكال العيش والمعارف والثقافات في العالم. وتجاوز الخصوصيات وكافة الفروق في سبيل جعله مكانا واحدا، وعبر عملية تنميط كوني تدعو إلى تسوية شاملة في جميع مناحي الحياة. من التسلية الحديثة حتى المنتجات والسلع الأنيقة، مرورا بالفن والفكر إلى العمارة وتصميم المدن.
وعلى الرغم من أن الثقافة في أحد أوجهها هي الكيفية التي نكون عليها، ولكن يبدو أن معناها وغاياتها هما اللذان تبدلا. جراء تأثير إجراءات مفهومية شديدة التعقيد والالتباس، مثل "ما بعد الحداثة"، "العولمة"، كمجموعة علاقات، استبدلت منظومة نظام عام، أو ما سمي بالسرديات الكبرى بوصفها تفسيرا كليا ونظريا شاملا، والتي أضفت قدرا من المعنى الثابت على ما هو وجودي ومعرفي. بأنظمة فرعية، أو سرديات جزئية، مستقلة، ذاتية التوجيه، تلفت النظر إليها كأثر قابل على الاستهلاك بأشكال معينة. وتؤشر أغراضا عملية، تدفع للتكيف مع الأشياء.
انتقالة جعلت من " الثقافة " تفصح عن رغبة في الانطواء على نفسها، والتمركز على بنية طروحاتها الخاصة. وغض النظر عن مباد ىء كانت تعتبر دعامات مؤسسة للحداثة، مثل، التقدم، الحرية، العقل،الإنسان. خاصة، بعدما تغيرت أطروحة الذات العارفة، والتي كانت تعد شيئا متعاليا وجوهريا بالنسبة للوجود البشري، وكياناً فاعلاً مرتبطاً بشرطه الاجتماعي والواقعي، لقدرته على تحقيق ما هو أكثر عدلا ومصيرية. إلى ذات مغتربة، متعددة، فاقدة مركزيتها، متأثرة بحقبتها. وفي التحول الذي أصاب موضوع المعرفة باختزاله إلى معنى غير ثابت، تأسس له اللغة عبر علاقاتها ببعضها البعض. معنى لا يشير إلى حقيقته قدر ما هو نتاج علاقة بين الكلمات، ولا يرتبط بمعان أخرى إلا بأشكال طارئة. انه معولم عابر لحدود ثقافته.
ان "الثقافة" ضمن هذا المجال، غدت تعيش تطورا غير متكافىء. ينطوي على إشكالية تعززها أساليب الإنتاج السريع، سواء في الأفكار أو المفاهيم. شانها يشابه الحياة المعاصرة تماما، والذي يسعى كل ما فيها، كي يكون موضة، تستهلك وتتلاشى. إنها جديدة فقط. تهمل الماضي وتخفي صلتها بالأفكار السابقة. بل تجعلنا نخوض التعامل مع العالم، بأسباب غياب البعد التاريخي بذريعة الاهتمام بأحداث الحاضر. فالأطروحة الثقافية المعاصرة، أصبحت طاردة، تقصي المجادلات والأسئلة السابقة. لافتراض مجال وحيد لها هو الجديد، المتعلق بالراهن الذي لا ينتج سوى المظاهر. وكأن جميع الأفكار والتجارب باتت تأتي من مكان غير متعين لتذهب إلى آخر غير معروف. ان سعرها هو ثمن تخطيها وغيابها.
بأسباب هذه التوصيفات، اخذ العديد من النقاد يشير إلى تشكل "ثقافة" نرجسية في محتواها. بدواعي شكليتها وتأنقها وسعيها للنجاح والاهتمام بالشهرة. وكذلك وقائيتها وحذرها و تماهيها مع نفسها وادائيتها الخاصة. تحدوها رغبة ملحة في إعادة إنتاج ذاتها من خلال فرديتها ومحتواها المناور واللانقدي.
من هنا تبدو أهمية الأفق النقدي في أطروحة "مدرسة فرانكفورت"، للكشف عن وعي يؤطر "ثقافة " مستقلة، والتفكير بإمكانيات أخرى لها في هذا المجتمع العالمي الكبير. محاولة لإدراك طبيعة مغايرة قائمة على مراجعة دائمة وناقدة لوظيفتها. خاصة،ضد طروحات أخرى، تدعو للاحتفاض بتعاطف سري مع فكرة تصنيع وتسليع ما هو ثقافي وتشيؤه بشكل مجرد.
في عصر يحيا هذا التقارب المتشابك، بين التحولات التي تصيب الاجتماعي والمتغيرات التي تطال الثقافي، والذي لايمكن خلاله فهم طبيعة الأول دون قراءة نقدية لوظيفة الثاني. كما في التهيئة لمجتمع مختلف ومعرفة مغايرة، يفترضان وجودا لم تتضح معالمه بعد. لابد من أسئلة تسعى لتأسيس مجال نقدي جديد وأفكار أكثر معاصرة.