بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين بقيادة السلطان محمد الفاتح سنة 857هـ= 1453م، كانت القوى التي قرر السلطان محمد الفاتح مواجهتها بعد ذلك هي قوة المجر وكانت ساحة الصدام معها على أرض صربيا حيث كان الهدف الاستراتيجي الأكبر للسلطان محمد الفاتح هو الوصول إلى مدينة بلجراد التي كانت مفتاح صربيا والمجر، وفي أوائل صيف 1456م خرج السلطان محمد الفاتح بجيشه من أدرنة متجهًا إلى الأراضي الصربية لفتح مدينة بلجراد، وتختلف الروايات في عدد الجيش العثماني إلى عدة أقوال أقربها إلى الصواب أنه كان ستين ألف مقاتل، إضافة إلى ذلك كان مع الجيش العثماني اثنان وعشرون مدفعًا كبيرًا وثلاثمائة مدفع صغير، ومائتي سفينة حربية.
كانت مدينة بلجراد في هذه الفترة تحت سيطرة المجريين وكانت من أحصن المدن الأوروبية، وكان يتولى الدفاع عنها الحاكم المجري هونيادي بحكم وصايته على ملك بلجراد الصغير الذي كان لا يزال في السادسة عشرة من عمره، وعلى الرغم من حماسة البابا كاليكستوس الثالث لقتال المسلمين لم يستطع إقناع الأمراء والزعماء الأوروبيين لمساعدة هونيادي، وكان من الممكن أن تكون الصورة قاتمة جدًا للمجر وزعيمها هونيادي في تصديه للجيش العثماني لولا ظهور قسًا إيطاليًا يدعى چون كابسترانو الذي أخذ يجمع الصليبيين من الفلاحين والعمال ورجال الدين من كل دول أووبا، وعلى الرغم من كون هؤلاء غير محترفين في القتال وغير مجهزين بأسلحة عسكرية إلا أنهم كانوا متحمسين للغاية، ومقبلين على القتال بروح معنوية عالية.
وصل محمد الفاتح بجيشه إلى بلجراد يوم 3 يوليو 1456م، وضرب الحصار حولها من البر والبحر معًا، ثم بدأ القصف المكثف على المدينة، وكانت قوَّات هونيادي وچون كابسترانو تبلغ في مجموعها ثمانية عشر ألف مقاتل تقريبًا ومعظمهم غير محترفين وغير مجهزين للقتال، وفي جنح الظلام في يوم الحادي والعشرين من يوليو نجح حوالي سبعمائة جندي عثماني في دخول بلجراد عبر بعض الثغرات التي حدثت في أسوار المدينة، ولكن القائد المجري هونيادي أمر جنوده بالاختفاء تمامًا من أمام الجيش العثماني، فلم يجد العثمانيون أمامهم جنودًا يقاتلونهم، واعتقدوا أنَّ أهل المدينة هربوا منها، وظنَّ الجميع أنَّ المدينة قد سقطت.
فجأة أمر هونيادي فرقةً من جيشه بالانطلاق نحو الثغرات المفتوحة في الأسوار، وألقوا عليها أخشابًا كثيفة مدهونة بالكبريت، وقاموا بإشعال النيران فيها، وفي لحظات حِيلَ بين الجنود العثمانيين الذين دخلوا المدينة وبقيَّة الجيش العثماني خارج الأسوار، وعند هذه اللحظة خرج الجيش المجري من مخابئه، وقاموا بذبح كل أفرد الجيش العثماني داخل المدينة، وعلى الرغم من هذا النجاح المجري إلَّا أنَّ هونيادي لم يندفع بتهور لقتال العثمانيين، بل أمر كل من في المدينة بعدم الخروج مطلقًا إلى الخارج.
ولكن في اليوم التالي أي في يوم 22 يوليو 1456م= 19شعبان 860هـ، وفي منتصف النهار تقريبًا حدث تطور مفاجئ للجميع ومفاجأة لم يتوقعها السلطان محمد الفاتح ولا القائد المجري هونيادي، لقد خرج من داخل المدينة ومن خلال الثغرات في الأسوار، عدد صغير من الفلاحين الصليبيين في اتجاه الجيش العثماني، ولم يلبث العدد الصغير أن صار ألفًا ثم ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف، ولم تُفلح جهود هونيادي في منعهم، إذ إنهم فضلًا عن قلة عددهم فإنهم لا يملكون الخبرة القتاليَّة الكافية لمواجهة جيشٍ نظامي محترف كالجيش العثماني، وارتطم هؤلاء الفلاحين بمقدمة الجيش العثماني، وخلافًا لكل توقع، وبعيدًا عن أي حسابات منطقية أصابت الجيش العثماني حالة عجيبة من التسمُّر، ورعب كبير جعلهم ينهارون إزاء هذه الهجمة المباغتة.
ولم يقف الأمر عند حدوث هزيمة الصف الأول من الجيش العثماني، بل اخترق هؤلاء الفلاحون الصف الثاني والثالث حتى وصلوا إلى خيمة السلطان محمد الفاتح الذي نزل بنفسه إلى ساحة القتال، ولكن سرعان ما أُصيب في فخذه بسهم فسقط مغشيًّا عليه، فأحاط به الجنود وسحبوه فورًا خارج أرض المعركة، وأصيب الجيش العثماني بحالة من الهلع والفوضى وبدأ الجنود من فورهم في فرار غير منظم، وتركوا كل شيءٍ وراء ظهورهم، وفي مساء ذلك اليوم -22 يوليو 1456م- كان الجيش العثماني قد اختفى بكامله من حول أسوار بلجراد، منسحبًا بسرعةٍ إلى أدرنة.
تذكر بعض المصادر أنَّ قتلى الجيش العثماني في المعركة يُقدَّرون بأربعة وعشرين ألف جندي، ويرتفع بهم بعضهم إلى ثلاثين ألف قتيل، وهناك قول ثالث يرى أنَّ قتلى العثمانيِّين في هذه المعركة كانوا ثلاثة عشر ألف جندي، وهو الأقرب إلى الصواب، وبالإضافة إلى هؤلاء القتلى تذكر بعض المصادر أنَّ هناك أربعة آلاف أسير عثماني، وما يقرب من مائة عربة محمَّلة بالجرحى، وقد وصف أحد المؤرخين الإنجليز هذا النصر بأنه أعظم انتصارات النصارى على الأتراك في القرن الخامس عشر، ولما لا وقد أمَّنت هذه الموقعة المجر ووسط أوروبا لمدَّة سبعين سنةً كاملة، فلم يتم غزوها بشكل رسمي ممنهج إلَّا في عام 1526م في عهد سليمان القَانوني.
وصل خبر انتصار المجر على العثمانيين إلى روما في 6 أغسطس 1456م، أي بعد الموقعة بأسبوعين تقريبًا، ومن فوره قام البابا كاليكستوس الثالث يخطب في الجموع النصرانيَّة يُبشِّرهم بالنصر، وذكر في خطبته أنَّ هونيادي من أفضل النصارى الذين وُلِدوا في آخر ثلاثة قرون، وأنعم البابا على هونيادي بلقب "درع النصرانيَّة" وهو لقب لا يُعطى إلَّا قليلًا، ولا بُدَّ لمن يناله أن يكون قد قدَّم للنصرانيَّة خدمةً استثنائيَّةً لا تتكرَّر كثيرًا، ولم يكتفِ البابا بإعطاء الشرف لهونيادي فقط، بل أعطاه للمجر كلِّها، عندما أطلق على الدولة هي الأخرى لقب درع النصرانية.
كان البابا كاليكستوس الثالث بطبعه شديد الحماسة لقتال العثمانيين، وكان قد أصدر قبل الحصار بخمسة أيَّامٍ منشورًا باباويًّا يدعو فيه النصارى في كل أوروبا للصلاة من أجل انتصار الصليبيين على المسلمين في بلجراد، وأمر بأن تُدقَّ أجراس الكنائس عند الظهيرة تمامًا لتذكير النصارى بهذه الصلاة الخاصَّة، ولذلك يُعْرَف هذا الجرس في التاريخ بجرس الظهيرة (Noon bell)، وقد أُرسل هذا المنشور إلى كافة الكنائس في أوروبا، والعجيب أنَّ هذه العادة ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا في كنائس أوروبا الكاثوليكية، وبعض الكنائس القديمة للبروتستانت، ممَّا يكشف عن مدى عمق هذا النصر في تاريخ أوروبا.
هذا ولم يقف مجد هونيادي عند زمانه فقط، بل اعتبره المجريون بطلًا قوميًّا تاريخيًّا، وبعد خروج المجر من الشيوعيَّة، وبدايةً من عام 2011م، وبعد السماح بالاحتفالات الدينيَّة، اعتُبر يوم 22 يوليو الذي حدث فيه النصر في بلجراد على العثمانيين هو يومًا تذكاريًّا تحتفل به الدولة والشعب، وهو يُعتبر من جملة الأعياد الدينيَّة النصرانيَّة التي ينبغي ألَّا تُمحَى من ذاكرة الأمَّة.
هذه هي قصَّة حصار بلجراد التي تُعد حلقة من حلقات الصدام بين المسلمين وأعدائهم؛ فالمألوف أنَّ النصر يأتي في أيَّام، وتأتي الهزيمة في أخرى، وهذه هي سُنَّة الله في أرضه. قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، وللأسف فإنَّ المصادر الإسلامية والتركية تتجاهل الحديث عن هذه المعركة، وكأنهم لا يُريدون الحديث بشكلٍ سلبي عن قائد هو من أعظم قادة المسلمين في كل تاريخهم، ومَنْ هو هذا القائد الذي لم ينسحب قط في حياته العسكرية؟! لقد انسحب خالد بن الوليد في مؤتة، وانسحب صلاح الدين الأيوبي من عكا، بل انسحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحُد، لقد قاد محمد الفاتح بنفسه خمسة وعشرين حملة عسكرية على مدار الثلاثين سنة التي حكم فيها، هذا غير المعارك التي خرج فيها قبل ولايته أيام أبيه، وهذا غير الجيوش التي سيَّرها شرقًا وغربًا ولم يخرج فيها؛ إنَّما خطَّط لها وتابع، فما الضير أن تكون هناك عدَّة هزائم في سجل طويل حافل بالانتصارات؟[1].
[1] دكتور راغب السرجاني: السلطان محمد الفاتح .