الفصل الثالث الرواية الاناقة تحت الشمس
وبعدما وضعت لورا السماعه , ظلت جالسة مطولاً أمام المكتب , منغمسة في أفكارها .
أطلقت زفرة عميقة ثم نهض وخرجت من المحل الفارغ وأقفلت الباب وراءها .
الشقة الصغيرة المريحة التي تسكن فيها لورا خلال إقامتها في أكابولكو تقع في الطابق الرابع من فندق بانوراما , حث يقع المحل الجديد أيضاً . تطل الشقة على خليج صغير .
ولا مرة سئمت لورا هذا المنظر المطل على البحر الذي يبدو في النهار وكأنه يعكس بريق الحجارة النادرة . وفي الليل تحت سماء مخملية حافلة بالنجوم .
ومن الشرفة كانت تشاهد الرياضيين يمارسون هواية الهبوط بالمظلات فوق المياه الزرقاء ,
وفي الليل كانت تصغي الى الموسيقى التي يعزفها المكسيكيون على القيثارة والتي يتخللها رقصة الفولادور حيث الرجال يتعلقون بالحبال على عمود متين موضوع في وسط القاعه ويحومون حوله في دوائر تعلو مع ايقاع الموسيقى الصاخبة .
ومن وقت الى وقت يعلو نصفيق حماسي من القاعه إعجاباً وتشجيعاً .
وبلا وعي عمدت لورا الى إغلاق باب الشرفة والنافذة , فصوت الابواق بدأ يزعجها . لماذا هذه الموسيقى الشعبية البدائية تخلق فيها هذا الشعور بالوحدة الكئيبة ؟
ولماذا تذكرها خاصة بالسينيور دييغو راميريز . هذا المكسيكي المتعجرف الزاثق من نفسه ؟
وبعد أن ألقت نظرة سريعة على محتوى برادها في المطبخ الصغير , قررت لورا أن تتوجه الة مطعم الفندق لتتناول طعام العشاء ,
فاخذت حماماً سريعاً ثم ارتدت فستاناً طويلاً معرفاً بالاخضر الذي يشبه لون عينيها . ثم وضعت القليل من مساحيق الزينة على وجهها , الكحل الاخضر على الجفن و أحمر الشفاه بلون المرجان ومسحة بودرة على انفها الصغير و جبينها الناعم .
ولما ظهرت في بهو المطعم , راح بعض السياح يصفرون . وشقت لورا طريقها وسط هؤلاء السياح عندما شعرت بيد قاسية تتأبط ذراعها وصوت عرفته في الحال يهمس في أذنيها .
" كنت في إتظارك . اتريدين تناول العشاء هنا ,أو تفضلين مكاناً حميماً ؟".
وبينما هو يتكلم أبعدها عن المعجبين فقالت بصوت بارد وهي تتخلص من قبضته :
" لا تقلق عليّ سينيور راميريز ,إني قادرة على ان اتولى أموري بنفسي ".
" هل انتِ على موعد مع احد ما ؟".
بدأت لورا تتكلم وهي تخفض رموشها الطويلة : " كلا , كنت ... كنت أتوجه الى فندق المطعم لتناول العشاء . فالجميع تعودوا رؤيتي وحيدة ".
قدّم لها ذراعه في لياقة , مما جعلها تتأبطه بعد لحظة تردد .
استقبلهما مدير التشريفات في الفندق وقال بعدما عرف باستغراب رفيقة السينيور : " آه سينيوريتا ترانت ! ".
ثم أضاف باحترام كبير : " مساء الخير , سينيور راميريز !".
" كيف حالك , يا توماس ؟".
" حسناً , شكراً سأقدم لكما طاولة جيدة ".
قال السينيور وعلى وجهه امارات الأسف :
" لا يمكنني أن أتناول طعام العشاء مع السينيورا هذا المساء , إني مدعو ولا يمكنني أن أرفض هذه الدعوة بالذات ".
أجابت لورا في مرح : " لا داعي للاعتذار , سينيور راميريز . أريد تناول العشاء وحيدة ".
بريق غريب ظهر في الوجه الاسمر والتفت دييغو راميريز نحو مدير التشريفات وتحدث اليه باللغة الاسبانية . وادركت لورا أنها فهمت انه يتكلم عن السينيورا راميريز وعيد ميلادها .
وبعدما اجلسها أمام طاولة تطل على منظر رائع , علىالخليج المضاء , شرح لها توماس أن هذا العيد سيتم الاحتفال به في غرفة الطعام التابعه للفندق .
فقالت لتوماس الذي بدا عليه الانهماك و العجلة :
" كنت أفضل ان اجلس أمام طاولتي العادية ".
اجابها من دون إخفاء شعوره الفضولي :
" إن السينيور راميريز يصرّ على أن اخصص لكِ هذه المائدة , من الآن فصاعداً . لا شك أنه سوف يتناول معكِ العشاء في معظم الاوقات ".!!
فردّت لورا في لهجة لا يمكن مناقشتها :
" طبعاً لا .. هل بإمكاني الحصول على قائمة الطعام من فضلك ؟".
كلمته في هدوء تام , لكنها كانت تغلي في الداخل , وبينما كانت ترمق مدير التشريفات بنظرة عندما كان يعطي اوامره الى الخادم ,
فهمت من دون صعوبة ماذا كان يقول : " ان السينيورا الجالسة وراء الطاولة رقم 14 هي الرفيقة الجديدة للسينيور راميريز , اهتم بها جيداً ".
كانت لورا تود من كل قلبها أن ترفض العشاء وتعود الى شقتها ,
لكنها كانت تخشى إثارة مشاكل جديدة , فاكتفت بان تختار الوجبة البسيطة . لكنها صرخت عندما رات الخادم يجلب لها المشروب المثلج في زجاجة على رأسها وردة حمراء :
"لكن انا لم أطلب ذلك المشروب !!".
" انها اوامر السينيور راميريز ".
" لا أريد أن أشرب شيئاً . أعدها من فضلك ! ".
كانت طاولة السينيور راميريز التي تحتل وسط غرفة الطعام تضم أفراد المجتمع المكسيكي الرفيع .
وكان يترأس الطاولة دييغو راميريز وزوجته التي كانت تشع جمالاً في فستانها المطرز المصنوع من القطن الأبيض وكانت تبدو سعيدة لأن تكون هدف نظرات الإعجاب كلها .
وعندما رفع دييغو كأسه ليشرب في صحة السينيورا وهو ينظر اليها في حنان , وضعت لورا منشفتها وخرجت بسرعه من المطعم . كيف يمكن لرجل يحب زوجته لهذه الدرجة ان يمهد لإقامة علاقة مع امراة اخرى .
ليس في الكون رجل يشبه الرجل اللا تيني الذي يفرض على زوجته القيود .
ويطلق لنفسه العنان في اقامة اية علاقه يريد مع النساء !.
2- كذبة بيضاء .......اسودّت ..
مرّ اسبوع بكامله , لم تتبادل لورا خلاله الحديث مع دييغو رايمريز ,
ومع ذلك , فقد ظلت تعي وجوده في قربها , وعندما كانت تهتم بزبائنها ,
غالباً ما كانت تلاحظ شبح السينيور الممشوق يقف امام الواجهه .
وكلما ذهبت لتبتاع لنفسها شيئاً من المحلات , تراه هناك ,
على بعد أمتار قليلة منها .
حتى في الكنيسة حيث تذهب من وقت الى اخر لتبحث عن الهدوء ,
والصفاء اللذين شعرت بهما خلال السنوات التي عاشتها في دير الراهبات في لوس انجلوس ,
حيث امضت كل سنواتها الدراسية , كانت تلمحه من بعيد مستنداً الى احد عواميد البناء .
وكلما راته تشعر بتوتر مفاجئ ,
الى درجة انها بدأت تبحث عنه بنظراتها في أي مكان كانت تذهب اليه .
واذا لم تره صدفة , كانت تشعر بقلق غريب , كالاحساس بالفراغ .
" يا لحماقتها "!
كانت توبخ نفسها وهي ممدة على الشاطئ الرملي المحرق ,
امام الفندق . لن تذهب بعيداً الى الشعور بالقلق تجاه الاهتمام الودي الذي يظهره لها لاتيني يكرس حياته لامراة اخرى مرتبط بها وهي زوجته .
تربيتها الصارمة تفرض عليها الابتعاد عن رجل متزوج ,
مهما كان جذاباً وانيقاً وصاحب نفوذ . والسينيور دييغو راميريز هو كذلك حقاً !
إن رؤيته وحدها تكفي لإثارة لورا وتشويش أفكارها .
على بعد منها , على الشاطئ , كان يجلس شاب مكسيكي ,
يرتدي زي السباحة يظهر اسمرار جسمه النحيف , وقد نجح في جذب سائحة امريكية في سن متقدمة ...
وهي من تلك النساء الوحيدات , الثريات ,اللواتي جئن الى الريفيرا المكسيكية للبحث عن اللهو و كسر روتين حياتهن الرزينة .
ومنذ ان وصلت لورا الى الاكابولكو وهي ترى مثل هذا المشهد يتكرر يومياًَ ,
مما يزعجها و يجرح إحساسها التقليدي .
الشمس القوية ارغمتها على إغماض عينيها .
فهي لا تخاف هؤلاء الرجال . إنهم يعرفون أنها ليست غنية ولا تبحث عن مغامرة عاطفية ,
لذلك لا يضيّعون وقتهم في ملاحقتها بحضورهم المتواصل . ووراء جفنيها المغمضين ,
شعرت بظلٍ ينعكس على وجهها . فتحت عينيها قليلاً ,
وفوجئت بنظرات دييغو راميريز الحارة تحدّق فيها .
كان يرتدي زي سباحة أبيض . ولثوان عديدة تبادلا النظرات .
كأنهما يلتقيان للمرة الأولى .
قالت لورا بعد جهد :
" ماذا تفعل هنا " ؟.
"اني هنا مثلما انتِ هنا , للسبب نفسه ... كي أستحم , هذا مسموح , اليس كذلك ؟".!!
همست لورا بسخرية وهي تجلس :
" لا تريد إقناعي بانك لا تمتلك شاطئاً خاصاً بك ".
جلس دييغو قرب لورا التي تناولت نظارتيها من حقيبة يدها ووضعتها على عينيها بسرعة .
" ليس في المكسيك شواطئ خاصة . اني املك فيلا في الجنوب على بعد بضعة كيلومترات من هنا و لحسن الحظ أن السياح يفضلون اكابولكو ولا يذهبون بعيداً حتى هناك ".
قالت لورا بسخرية وهي تدع الرمل ينزلق بين أصابعها :
" ما اروع ان يملك المرء مالاً كثيراً يتيح له أن يتمتع بحياته الخاصة ".
فأجاب معترفاً :
" هذه حسنات المال , لكن ينبغي ألا تنسي ما يفرضه من أعباء ومسؤوليات ".
تردد عندما لفظ الكلمة الاخيرة , فنظرت اليه لورا في حيرة وارتباك .
ذكرتها كلمة المسؤوليات بزوجته التي احتفل بعيد ميلادها بطريقة ودية في الاسبوع الماضي ..
سالته ...
" هل لديك اولاد ؟!".
" كلا لسوء الحظ , لكن ذلك وارد ضمن مشاريعي المستقبلية ".
وبينما كانت لورا تتأمل السباحين يغطسون في البحر , ارتسسمت على وجهها ابتسامة ساخرة وقالت :
" أعتقد بان هدف الرجل اللاتيني , عندما يتزوج , هو أن يظهر رجولته ويفرض على زوجته انت نجب له ولداً بعد أقل من سنة ".
سكتت لحظة وتسائلت في نفسها , هل هو حقاً الحديث الذي يجب ان اتبادله مع انسان مجهول ؟
قال في مرح وهو يحدّق في عينيها :
"لا تنسي يا عزيزتي ان النساء اللاتينيات لا يعترضن على ذلك ".
ثم سالها فجاة :
" هل لديكِ صديق ؟".
" ماذ تعني ؟".
" غريب حقاً أن تجلس امراة جميلة على شاطئ البحر بدون شخص يحميها من نظرات الرجال الذين بيحثون عن طريدة جميلة مثلك ؟".
وبحركة من يده أشار ليس فقط الى الرجال المكسيكيين ,
بل الى السيّاح الامريكيين الذين لم يكفوا منذ أن وصلت الى الشاطئ , عن التحديق فيها .
قالت :
" سبق لي وقلت انني في سن ناضجة تسمح لي بالاتكال على نفسي .
اما الجواب عن سؤالك فهو نعم . لدي صديق وهو خطيبي , لكنه حالياً في لوس انجلوس ".
اطلق صفيراً مصحوباً بالدهشة ,
فقالت لورا لنفسها في غيظ .. كل الرجال وقحون ...
لا يتورعون عن سجن زوجاتهم ويعتبرون عدم اخلاص المراة للزوج او الخطيب شتيمة أو عار ..
قال في سخرية :
" لكنك لا تضعين خاتم الخطبة ".
" انني اضعه باستمرار , لكنني خلعته لانني أخاف ان يسقط مني في الماء أ, في ......"
"واظن انكِ تخشين ايضاً ان تفقديه خلال العمل ".
رمقته لورا بنظرة ساخطة و قالت :
"" اثناء عرض الازياء لا تضع العارضة سوى المجوهرات التابعه للمؤسسة التي تعمل فيها .
والآن يا سينيور , أرجو أن تعذرني لانني مضطرة الى الذهاب لأدعك تستمتع بالسباحة ".
قال ويهز كتفيه : " هذا غير مهم في الوقت الحاضر ".
نهض و أصر على أن يرافقها الى الفندق , وبرغم انزعاجها فانها لم تستطع أن تتجاهل نظرات النساء تلاحق السينيور في تحركاته .
فتح باب الفندق و ابتعد عنه ليدعها تدخل الى البهو المكيف وتبعها حتى المصعد .
سألها في لا مبالاة وهو يتكئ على الحائط :
" هل تحبين أن تتناولي طعام العشاء معي مساء اليوم . إن اكابولكو ليست المكان المناسب لامراة وحيدة ".
"أفضل أن اتتناول طعام العشاء وحدي .
على ان اكون مع رجل معروف جداً , فضلاً عن انه متزوج ".
صمتت لحظة ثم قالت وهي تشير في اتجاه الباب الزجاجي الذي يطل على الخليج :
" على الشاطئ عدد كبير من النساء اللواتي يسرهن قبول دعوتك الى العشاء ".
تنهد وهو يبتسم وقال :
" أعرف ذلك جيداً , ولكنني أحب أن العب دور الصياد , لا دور الطريدة ".
ارتعشت لورا بالرغم منها . ليس من الصعب تصوّر هذا الوع من الرجال ,
وهم يلاحقون الطريدة و يتمسكون بها الى أن تستسلم .
قالت :
" لا أرى مانعاً بان تلعب دور الصياد , شرط ألاّ أكون من بين الطرائد ".
قال وهو يتبعها بنظراته , وهي تدخل الى المصعد :
" انك تطلبين مني الكثير يا لورا . الى اللقاء ".
على مدى أسبوع اختفى السينيور دييغو رايميريز من اكابولكو .
وقد حاولت لورا اقناع نفسها بانها تشعر بارتياح بغيابه ,
لكن الحقيقة كانت عكس ذلك , فقد شعرت بشوق كبير اليه .
نادتها سكرتيرة المحل للرد على الهاتف .
وعندما تعرفت الى صوت دييغو . فقالت له في جفاء :
" هل تتكرم بالأ تضايقني بعد الآن ؟ اذا كنت مصراً على ازعاجي ,
فسأضطر الى الاستعانة بحارس خاص ".
لكن هذا التهديد لم يؤثر فيه فقال وهو يطلق ضحكة صغيرة :
" استغرب كيف ان امراة في مثل جمالك البارد تتصرف بهذا الغليان والتوتر ! لا أنوي ازعاجك .
أريد فقط أن أجدد لكِ دعوتي للعشاء ".
" هذا ما اعتبره ازعاجاً للناس يا سينيور . كم مرة ينبغي ان أقول إن دعوتك هذه لا تهمني أبداً ."
" لورا , بامكانك ان تؤدي لي خدمة كبيرة .
عليّ ان استقبل رجل أعمال وزوجته وهو مثلك امريكي الجنسية ,
و أفضل ألا اكون وحيداً من دون رفيقة ".
" هذا مستحيل يا سينيور , لانني ساتعشى مع خطيبي ".
ران صمت قصير قطعه السينيور قائلاً في جفاء :
" فهمت . ينبغي أن أبحث عن رفيقة اخرى ".
قالت في لهجة ثاقبة قبل ان تضع سماعة الهاتف بخشونة :
"سبق وقلت لك , انك لن تجد صعوبة في العثور على رفيقة ".
وبعد انتهاء المحادثة بقيت لورا تحدق في الهاتف في امعان وهي تعض على شفتيها بتوتر .
ان دييغو راميريز هو الذي سبب كل هذا التوتر .
فهي لا تحب الكذب . كما انها ستكون وحيدة هذه الليلة كالعاادة . بينما لو كانت رفقته لأمضت سهرة ممتعة . ليست في حاجه الى مخيلة واسعه لتدرك أنه فارس الاحلام الذي تتمنى كل امراة ان تكون رفيقة سهراته .
ولما دخلت الى شقتها , سمت رنين الهاتف , فتسائلت :
" يا الهي , ربما هذا دييغو راميريز الذي اكتشف ان خطيبها على بعد الف ميل من هنا .
لكنها عندما عرفت الصوت نسيت في الحال الرجلين وصرخت :
" ابي ! أين انت ؟
تتبع
رابط الجزء الرابع
https://www.dorar-aliraq.net/showthread.php?t=994651