"أنا مدين للزهور بكوني أصبحت رسّامًا" بتلك العبارة لخّص الفرنسي كلود مونيه علاقته الحميميّة بالزهور، والذي يعد واحدا مِن أهم تشكيليي القرن الماضي.
مونيه (1840-1926) عاش ومات في أحضان الطبيعةِ الغنّاء في بيته الشهير في جيفرني بفرنسا تاركا إرثًا رائعًا من اللوحات الزيتية التي تتناول الزهور والمناظر الطبيعيّة الخلابة التي كان يستمتع بها ليل نهار.
يعتبر مؤسس المذهب الانطباعي الذي اهتم برسم المشهد حسب انطباع الرسام عنه وليس بشكل واقعي محض. واعتمد الانطباعيون على مشاهد الحياة اليومية كمصدر للإلهام، مثل الزهور والبحار والطُرق، عوضًا عن الأساطير والروايات التاريخية.
وبرزت الانطباعيّة في فرنسا أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين. وسُميت بهذا الاسم تيمُنًا بلوحة "انطباع شروق الشمس Soleil Levant" لمونيه نفسه الذي ما لبث يُثبت يومًا بعد يوم أن الحياة جميلة ومُمتعة بطبيعتها وزهورها الحسناء.حصدت لوحات الزهور لمونيه شهرة شعبية واسعة النطاق، وخرجت من حدود فرنسا وامتدت حول العالم.
مونيه مؤسس المذهب الانطباعي الذي يهتم برسم المشهد حسب انطباع الرسام عنه (الأوروبية)
وموضوع تلك اللوحات رغم بساطته أعطى للمُشاهد وجهة نظر جديدة حول معنى المُتعة والسعادة والتي لا يشترط لها بالضرورة المال الوفير بل تتطلب عينًا حسّاسة تجاه الجمال.
حياة لطيفة
عندما انكبَ على رسم الزهور، خاصة سلسلة "زنابق الماء" (water lilies) عام 1914، كان عمره قد تجاوز 74 خريفًا، وبدأ بصره يضعف يومًا تلو الآخر. وقد فارقه مُعظم أحبته وعلى رأسهم ابنه، وصديقاه ومواطناه الرسّامان بيير أوجست رينوار وبول سيزان. هذا غير زوجتيه، ففي تلك الفترة كان قد أصبح أرمل مرتين. أضف لذلك أنّ الحرب العالمية الأولى كانت قد اندلعت، ووصلت أخبار المذابح من كل حدبٍ وصوب.
ومع ذلك، كان يجلس وسط حديقة منزله في جيفرني يرسم الزهور دون كلل أو ملل. حسناوات يتمايلن تحت ظلال الشجر. أو زنابقٌ تفتحت في الربيع وسط الماء. لا يرنو إلى شيء إلا أن يستمتع بالهواء الطلق، والزهور البديعة، والشاي الدافئ.
فلا هو يحتاج لثروة ولا لشباب ولا أنّ يعود به الزمان للخلف ليكون سعيدًا. وكان في سنه هذه آخر انطباعي على قيد الحياة. ومع ذلك لم تعقه مشاكله الصحية ولا الحرب الكونية ولا فقدان الأحبة والأصدقاء معن أنّ ينعم بحياة هادئة بل وينشرها للعالم.
ففي صباح 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، أرسل مونيه لرئيس الوزراء آنذاك جورج كليمنصو -والذي كان على علاقة جيدة به- قائلا "أنا على وشك الانتهاء من لوحتين ضخمتين أريد توقيعهما وإهداءهما للدولة في يوم النصر. وأكتب إليك لأسألك إن كنت تريد أنّ تكون الوسيط بيني والدولة؟".
يُذكر أنّ مونيه كتب تلك الرسالة بعد يوم واحد من توقيع هدنة كومبين يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1918 بين الحلفاء وألمانيا، والتي أنهت الحرب. ويقصد بيوم النصر انتصار الحلفاء -ومنهم فرنسا- على دول المحور. فقد أراد أن يهدي الأمة الفرنسية نصبًا من الزهور تعبيرًا عن السلام.
هديته لبلده عُرضت بشكل نهائي عام 1926، في غرفة بيضاوية في متحف أورنجري / Musée de l'Orangerie في باريس، وفق ما أراد مونيه. أيّ بحجمها الحقيقي في الطبيعة، بنفس المقاسات في الطبيعة وبنفس مقاسات اللوحات في المتحف.
بقع على القماش
يرى عدد من مؤرخي الفنّ أنّ مونيه كان يرسم لوحاته كما رآها في الطبيعة بل وحتى بنفس الحجم لينقل للناس جمال الطبيعة النقي كما استقر في ذهنه كذكرى. لذلك، كان يُجيد العمل على نفس المناظر الطبيعية في الأستديو مثل الهواء الطلق.
واعتمد أسلوبه على ضربات حادة ومتقطعة للفرشاة. كما أن لطخات الفرشاة على القماش كانت عبارة عن ألوان مخلوطة غير صريحة في محاولة لنقل درجات الألوان كما هي في الطبيعة. على سبيل المثال، في سلسلة زنابق الماء استخدم درجات مختلفة من نفس اللون لإظهار أثر الظل والنور في تغيير اللون. وقد كانت تلك طريقته في نقل، ليس فقط نقاء الطبيعة، بل شعوره بها أيضًا.
ومع أن مونيه رسم أكثر من أربعمئة لوحة عن الزهور فلم تكن تلك الرسومات مجرد لوحات من رجل أرستقراطي يعيش في حديقته الغناء ولا يعرف شيئا عن كدر العيش. بل العكس، كان قد فقد ابنه الأكبر وزوجتيه وأقرب أصدقائه وطعن في السن وحيدًا ببصر ضعيف لكن ببصيرة حسّاسة تجاه الجمال.