كنتُ جالسة في قاعة انتظار لمطار سان فرانسيسكو الدولي بالقرب من عائلة مكوّنة من أم و أب و أربعة اطفال ثلاث بنات وولد، كانت عائلة عربية لفت انتباهي اسم (غريب) كانت العائلة تلهج به، كان الولد اسمه (غريب) فشغلني أمر هذا الاسم و رحت أنظر للولد الذي يبلغ من العمر ستة أعوام و أتساءل: هل نفدت الاسماء؟ أم إنها غالية الثمن؟ حتى يضعون هكذا اسم لهذا الولد الجميل الصورة، الحسن المظهر، فسألت والده عن سبب تسمية ولده بهذا الاسم رغم إن هناك الكثير من الأسماء الجميلة، لماذا يبخس حق ولده ويضع له هكذا اسم، فمن أبسط حقوق الولد على الوالد هو أن يُحسن تسميته.
وراء اسمه حكاية مؤلمة، التمعت عيناه و احتبست دمعات من أثر حزن عميق مرّ عليه أعوام عديدة، حين سألته عن سبب تسمية ولده (غريب)..
كانت ليلة شديدة البرد وكان الظلام حالكا، امتلأت السماء بغيوم رمادية وبدأت أصوات البرق تتعالى، وتلتمع السماء بين الحين والآخر بضوء فضي يعلن عن سيل غزير من الامطار، كنت قد احضرت الخبز باكراً ماجعلني أطمئن إن بُنياتي سينمنّ وبطونهنّ ملئى بالطعام.
وضعت والدتهن ابريق الشاي على المدفئة لعشائنا المعتاد، وجلسنا حول المدفئة منتظرين الشاي مستمتعين بالدفئ نتبادل الحديث، لم يتصاعد بخار الابريق بعد إلا وقد بدأت السماء ترسل حبات المطر واحدة تلوى الاخرى، و أخذ المطر يتسابق لإطفاء نار المدفئة، ويبلل ملابسنا وكل شيء من حولنا.
كُنَّ بُنياتي الثلاثة صغيرات لايعرفن معنى انّ السقف لا يحجب عنهن ماء المطر ولكن بدت الدهشة واضحة على وجوههن وبدأن يلحظن ملامح الخوف والقلق التي بدت واضحة على وجهينا أنا و والدتهن أيضا.
أما زوجتي فلم تستطع تحمل الموقف فقلبها الحنون على بناتها وقلقها عليهن من انهيار السقف، جعل من جسدها النحيل يرتعش، كانت تبحث عن مكان لم يصل إليه ماء المطر لتُجلس بُنياتها الصغيرات، ولكن دون جدوى فسقف بيتنا المكون من غرفة وحمام كغربال لايلبث الماء على سطحه وسرعان ماينزل على روؤسنا كشلالات.
ازدادت حسرتي عليهن و أخذت أفكر ماذا عساي أن أفعل والمطر يتساقط بغزارة لامثيل لها، دمعت عيناي، وشعرت بالغربة و بألم يعتصر قلبي، ولكن ليس بيدي حيلة أن أنقذ بناتي وأمهنّ من الامطار التي حولت تلك الغرفة التي نسكنها إلى بركة ماء.
وبعد ساعة وجدت زوجتي متمددة على الارض يعتصرها ألم المخاض!! لم تحن أيام ولادتها بعد، فهي في بداية الشهر التاسع ولكن شاءت الاقدار أن تلد في تلك الليلة.
المستشفى بعيد جداً ونحن في منطقة نائية.
خرجت في تلك الليلة أبحث عن سيارة أُسعف بها زوجتي إلى المستشفى، ولكن الجو ممطر والبرد شديد والليل قد انتصف فرحت أركض كالمجنون أبحث و أبحث، كنت اركض وشريط حياة البؤس والفقر والشقاء يمر أمام عيني، صور يوم تخرجي من الجامعة وحصولي على شهادة البكالوريوس أنا و زوجتي وصور زواجي منها وكيف دخلنا الحياة الزوجية وكلنا أمل أن نحصل على عمل، صور تتوالى وتتزاحم أمام عيني تكاد تخنقني ألماً، جعلت صوتي يعلو ببكاء ملؤه الأسف فمنذ تخرجنا من الجامعة و إلى هذه اللحظة لم يحصل كلانا أو حتى أحدنا على وظيفة، فاضطررت أن أعمل كعامل بناء ونسيت تلك الشهادة التي قضى عليها ماء المطر في تلك الليلة.
شعرت بألم لم أشعر بمثيله في حياتي، وصلت الى الشارع العام حيث مرور السيارات وقلبي يكاد يتقطع ألماً على زوجتي وبناتي، كنت قلق بشأنهن فسقف البيت أصبح يهدد حياتهن..
وقفت في منتصف الشارع أرجو أن تمر سيارة، ولكن المارّة يظنون إنني مجنون لخروجي بهكذا طقس ووقوفي في الشارع، وبعد أن مر الكثير من الوقت رجعت إلى زوجتي وكنت أدعوا بصوت عال أن يُيسر ولادتها، كنت محطماً باكياً وحزينا، شعور بالغربة والوحدة يكبس على صدري، تأخرت كثيراً حتى توقفت احدى سيارات الشرطة، رجعت الى زوجتي التي تركتها تتلوّى من ألم المخاض، وعند دخولي بشرّتني جارتنا التي كنت قد رجوتها أن تكون عند زوجتي وبناتي إلى حين عودتي، إنها ولدت مولوداً ذكرا.
أن منّ عليّ ورزقني بمولود ذكر، ويسّر ولادة زوجتي حينها أطلقت على ولدي اسم (غريب) لشعوري بالغربة والوحدة من شدة فقري وقلة حيلتي و أنا في وطني.
إنّ شعور الغربة على المغتربين الذين ابتعدوا عن الوطن مؤلم جدا،ً ولكن الأقسى منه بكثير، و الأشد ألماً هو أن يعيش الانسان حالة الغربة في وطنه بسبب الفقر وعدم المساواة بين المواطنين.
وهو الغنى والفقر فحيث يتحقق الغنى يتحقق الوطن وحيث يعم الفقر فلا وطن للانسان.