التعجل مشكلة خطيرة الآثار ، وحياة الناس ملأى بالأمثلة عليها .
وأعظم النتائج في حياتنا ، قد تتوقف على دقائق معدودة من الصبر ، لكن
الذي يسبب خسارتنا لها هو تعجلنا ومللنا عن المقدمات ونزوعنا إلى القريب
الصغير من المنافع دون البعيد الكبير منها .
والصبر المطلوب في نظر الإسلام كما قسمته أحاديث السنة الشريفة ثلاثة
أقسام :
الصبر على المصائب ، وهي ألوان الخسارات التي يتعرض لها الإنسان في
أحبائه وأمواله وآماله . فهو بحاجة لأن يمسك عندها نفسه ويستنقذها من
براثن اليأس والغم والألم ، ويركز فيها مفهوم الإسلام عن المكاسب والخسائر .
والصبر عن المعاصي ، وهي أنواع المحرمات التي تتراءى للإنسان نافعة
محببة بينما هي سيئة الآثار وخيمة العواقب . فهو بحاجة لأن يمسك عنها
نوازعه ويركز في نفسه زيف إغرائها ويربيها على الابتعاد عنها .
والصبر على الطاعات ، وهي أنواع الطاعات التي تتراءى للإنسان ثقيلة
باهظة بينما هي عظيمة النتائج رائعة العواقب . فهو بحاجة لأن يمسك عليها
نفسه ويركز فيها عظيم منافعها ويربيها على القيام بها والانتفاع منها .
ومن أول ما يلزم للصبر على الطاعة أن أفهم طبيعة الطاعة ، طبيعة
الواجبات السلوكية التي فرضها الإسلام :
فمن ملامح الطاعة أنها تكليف الله لي بصفتي فردا وبصفتي جزءا من
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 90 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أمة الفرائض الشخصية والاجتماعية وإنه لشرف عظيم أن يجعلني الله عز
وجل أهلا للمخاطبة والتكليف فيطلب مني القيام بأعمال معينة والالتزام
بسلوك محدود ويندبني إلى إجابة أمره المقدس المطاع .
ومن ملامح الطاعة أنها ضرورة تكفل لي الحياة السعيدة : الاطمئنان في
النفس والنور في القلب والبلاغة في الشخصية ، والمركز الثابت في الأرض وفي
الكون ، لي وللجماعة التي أنتمي إليها وأتحمل معها أداء طاعة الله وتطبيق
دينه .
ومن ملامح الطاعة أنها عما قليل تمنحني العيش الخالد في بيت أفضل من
بيتي وصحة أقوى من صحتي وسعادة أوسع وأروع من سعادتي ، تؤهلني لأن
أستقبل لدى مغادرتي استقبال الأبطال وأزف إلى الخلود زفاف الأبرار . إن عملا
هذه طبيعته ونتائجه لهو عمل يحرص عليه ويصبر عليه وينهض بتكاليفه
بسخاء .
والصلاة واحدة من نوع هذا العمل ومن أهم التكاليف التي شرفنا الله
عز وجل بها وجعل علينا عهدتها ، وحدد لنا صيغتها وأوقاتها .
والصبر على الصلاة من أول الصبر على الطاعات . وهو يتألف من لونين
من الصبر ، صبر على أدائها ، وصبر على الاستفادة منها .
فما دمت أفهم طبيعة هذه الطاعة وأؤمن بضرورتها لوجودي ، فلماذا لا
أصبر نفسي على أدائها في مختلف الظروف ، لم لا أحرص عليها كما أحرص
على غذائي ؟ .
إني أعجب للمصلي الذي ( ( يتنازل ! ) عن صلاته في بعض الحالات بحجة
ظروف السفر أو المشاكل أو المرض أو المعارضة والاستهزاء من أغبياء حوله .
كيف لا يدرك أن الصلاة في هذه الحالات تتأكد ضرورتها للشخصية لأنها
تتعاظم فائدتها للنفس وراحتها للضمير .
هل ظروف السفر والحضر والشدة والرخاء والصحة والمرض والتأييد
والمعارضة مانعة لي من طلب الغذاء ؟ فكيف تكون مانعة لي عن أداء الصلاة ؟ .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 91 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بل إن من يصبر نفسه على أداء الصلاة في مختلف الظروف التي يلاقيها
من داخل نفسه ومن خارجها سيجد لصلاته طعوما جديدة .
فهي في السفر تشعره بالمواطنة من أرض الله . وفي الشدة هي المنفذ
للفرج والصلة بمن يملك الأسباب ، وفي المرض هي الدعاء العميق وصحة
النفس التي تنعكس على الجسد ، وفي حالات المعارضة والاستهزاء هي الثقة
بالشخصية والإشفاق على المستهزئين الخاسرين . وفي كل ذلك هي الثبات على
خط الرسالة ، والاعتزاز بالعقائدية في السلوك ، والإصرار على الظروف كي
تخضع هي لإرادة الإيمان ويستعلي الإيمان على ضغوطها .
والأرقى من الصبر على أداء الصلاة الصبر على الاستفادة منها .
ومنشأ الحاجة إلى هذا اللون من الصبر ، وهو طبيعة الحس البشري :
إن أروع المناظر الطبيعية هي في معرض أن تتحول لديك إلى أمور عادية
إذا تكررت مشاهدتك لها ، وكذلك كل معنى بديع وشعور جميل ونعمة
سابغة .
ألا ترى الذين يعيشون وسط مناظر الطبيعة الجميلة من غير ذوي
الاحساس المرهف لا يثير وجدانهم الجمالي جبل تشتبك خضرته بأشعة
الشمس عند الأصيل وتتراقص أطياره على خرير واديه وتبعث أزاهيره عطاءها
في نسيمة العليل . حتى أن حسهم لا يكاد يفرق بين هذا الجمال الباذخ
وبين قاع بلقع وواد يابس !
ألا ترى الأغنياء وأبناء الأغنياء من غير دوي الاحساس المرهف كيف
يفقدون الاحساس بالغنى والمال والجمال .
وقراء القرآن ذوي الإيمان الخافت قد حرموا من مروج القرآن وينابيعه
وسخائه . ذلك أن النفس البشرية يطرأ عليها التلبد إذا تكرر عليها الشئ
الجميل ما لم تعط لذاتها على الدوام دفعة الحيوية اللازمة من أجل الحفاظ
على حدة إحساسها وإرهافه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 92 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والصلاة بأوضاعها ومحتواها لوحة غنية بالعطاء والجمال ، ولكن ضرورة
تكرارها اليومي تجعلها في معرض أن تتحول إلى عمل شكلي يتبلد إحساس
النفس به وتنغلق عن روعته وعطائه . ولذلك كانت هذه الفريضة بحاجة
إلى لون آخر من الصبر يتمثل في تفتيح العقل والشعور عليها والعودة على
الحيوية في أدائها .
بحاجة كي لا تخسر جمال صلاتك وعطاءها لأن تجدد في نفسك معنى
صلاتك ، معنى إيمانك بالله وخشوعك بين يديه ، معنى انحنائك ، ومعنى
استلامك الأرض تعف بها جبينك ، ومعنى جثوك على ركبتيك تسجل الشهادة
على نفسك لله سبحانه بالوحدانية ولعبده محمد صلى الله عليه وآله بتبليغ الرسالة .
والصلاة غنية بما يجدد الحيوية ويضمن إرهاف الذهن والشعور حتى
يصبح هذا الإرهاف العقلي والعاطفي ملكة راسخة . ولكن مفتاح ذلك هو
عزمة الجد والخشوع التي تبدأ فيها صلاتك وتعود إليها كلما سرحت عنها
فتصبر نفسك في حقل الصلاة الثري تجني من مفاهيمه وتتروى من مشاعره .
هذان المعنيان للصبر تقصدهما آيات الصبر والمحافظة على الصلاة كقوله
عز وجل : ( وأمر أهلك بالصلاة ، واصطبر عليها ) 132 ) طه .
( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه )
28 الكهف .
( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وقوموا لله قانتين ) 238
البقرة . ( قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم على
صلواتهم يحافظون ) 1 2 9 المؤمنون .
( يا أيها الذين آمنوا : لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ، ومن
يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) 9 المنافقون .
ومما يلفت في التعبير القرآني جمال كلمة : واصطبر عليها بدل كلمة :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 93 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
واصبر فإنها توحي بلزوم دفعات متكررة من الصبر ، لأن اصطبر بمعنى تصبر
أي تكلف الصبر ، وكذلك هو الصبر على الصلاة دفعات من الجد تمسك بها
نفسك فتتغلب على المعوقات عن أدائها والمشوشات عن عطائها .
ومما يلفت في آيات المحافظة على الصلاة تخصيص صلاة الظهر بالتأكيد
نظرا لما يحتاجه المرء في وسط النهار من حزم لانتشال نفسه من العمل وحزم
للتغلب على مشاغل النفس وتوجيه الفكر والشعور نحو الله عز وجل .
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لأبي ذر رحمة الله : " يا أبا ذر : ركعتان مقتصدتان
في تفكير خير من قيام ليلة والقلب لاه " رواه في الوسائل ج 3 ص 54 .
وعنه صلى الله عليه وآله أنه دخل المسجد وفيه أناس من أصحابه فقال :
" تدرون ما قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : إن ربكم
يقول : إن هذه الصلوات الخمس المفروضات من صلاهن لوقتهن وحافظ
عليهن لقيني يوم القيامة وله عهد عندي أدخله به الجنة " الوسائل ج 3 ص 80 .
وعنه صلى الله عليه وآله قال " لكل شئ وجه ووجه دينكم الصلاة ، فلا يشينن
أحدكم وجه دينه " الوسائل ج 3 ص 16 .