الناس أبناء أب واحد وعباد رب واحد ومصيرهم واحد ورسالتهم
واحدة . فكم يناسب أن يكون لهم مركز واحد يتجهون إليه في صلواتهم من
وراء البحار ومن خلف الجبال وفي امتداد السهول . وكل مكان ينتشرون
عليه في الأرض .
إن المسجد الحرام يمثل في الشريعة الإسلامية المسجد الأب الذي تتجه
إليه مساجد العالم ، ومركز التوجه الذي تلتقي عليه من جوانبه قلوب البشر
وأنظارهم .
والوحدة في شريعة الإسلام ظاهرة أصلية لا نستغرب عليها أن تمتد إلى
وحدة الناس في المركز والتطلع .
والذي يعمق من هذه الوحدة في الاتجاه : قداسة مركز الاتجاه وما أعرق
هذه القداسة وأرفع شأنها .
فالبيت الحرام والمسجد الحرام : أول بيت وضع للناس ، مهبط آدم ،
ومقام إبراهيم ، ومنزل إسماعيل ، ومحج الأنبياء ، ومتنزل الملائكة ، ومنبثق
الإسلام . شاء الله أن يكون هذا الشرف الرفيع لهذه البقعة العتيقة عن
الخضرة والنضرة وأسباب الرفاه وأطماع الناس .
بقعة متواضعة في واد متواضع ، كم انشقت من فوقها السماء فتنزلت فيها
الملائكة . وكم حفل ثراها وروابيها بأنبياء الله وعبادة المؤمنين وكم غمرها جلال
الله ونوره ورحمته ، وكم سيمتد هذا الشرف في مستقبل التاريخ .
يقول على أمير المؤمنين ( ع ) :
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 80 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
" ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه
وسلامه إلى الآخرين من هذا العالم . بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا
تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما ، ثم وضعه بأوعر بقاع
الأرض حجرا وأقل نتائق الأرض مدرا ، وأضيق بطون الأدوية قطرا ، بين
جبال خشنة ، ورمال دمئة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف
ولا حافر ولا ظلف ، ثم أمر أدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة
لمنتجع أسفارهم وغاية لملتقى رحالهم . تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز
قفار سحيقة ومهاوي فجاج عميقة وجزائر بحار منقطعة . حتى يهزوا
مناكبهم ذللا يهللون الله حوله ، ويرحلون على أقدامهم شعثا غبرا له ، قد
نبذوا السرابيل وراء ظهورهم وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم . ابتلاء
عظيما وامتحانا شديدا واختبارا مبينا وتمحيصا بليغا ، جعله الله سببا إلى رحمته
ووصلة إلى جنته . .
ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات
وأنهار ، وسهل وقرار ، جم الأشجار ، داني الثمار ، ملتف البنى ، متصل
القرى . . بين برة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة
ورياض ناظرة ، وطرق عامرة . لكان صغر قد الجزاء على حسب ضعيف
البلاء . .
ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء ،
وياقوتة حمراء ونور وضياء . لخفف ذلك من مسارعة الشك في الصدور ،
ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الريب عن الناس .
ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم
بضروب المكاره ، إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل من نفوسهم ،
وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله وأسبابا ذللا لعفوه . " نهج البلاغة ،
تعليق محمد عبده ج 2 ص 170 .
كل شئ في مكة يثير العقل والقلب : موقعها الجغرافي بين آسيا وأفريقيا ،
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 81 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
و تركيبها الجيولوجي من رمال وجبال داكنة أشبعتها نضجا شمس القرون .
وموقعها الكوني حذو الضراح الذي في السماء والذي هو البيت المعمور
الكافي ج 4 ص 188 . وتاريخها الضارب بجذوره إلى بدء تكوين اليابسة
وبدء سكنى الإنسان الأرض ، والممتد مع تاريخ البشر وأمجاد النبوات .
قال الله عز وجل ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى
للعالمين ، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا . ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا . ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )
96 97 آل عمران .
وعن الإمام الباقر ( ع ) : " لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن
وجه الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت
ثم جعله جبلا واحدا من زبد ثم دحى الأرض من تحته وهو قول الله عز
وجل ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا . ) . " الوسائل ج 9
ص 348 .
وقال الله عز وجل : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت : ألا تشرك بي
شيئا وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والرجع السجود . وأذن في الناس بالحج
يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) 27 - 28 الحج .
وعن الإمام الصادق ( ع ) : " لما ولد إسماعيل حمله إبراهيم وأمه وأقبل
مع جبريل عليهم السلام حتى وضعه في موضع الحجر ومعه شئ من زاد
وسقاء فيه شئ من ماء ، والبيت يومئذ ربوة حمراء من مدر ، فقال إبراهيم
لجبريل عليهما السلام : هاهنا أمرت ؟ قال : نعم ، قال ومكة يومئذ سلم
وسمر نوعان من الشجر وحول مكة يومئذ ناس من العماليق " الكافي ج 4
ص 201
وعن الإمام الباقر ( ع ) : " صلى في مسجد الخيف سبع مئة نبي ، وأن
ما بين الركن والمقام لمشحون من قبور الأنبياء عليهم السلام " الكافي ج 4
ص 214 .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 82 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وعنه ( ع ) : " لم يزل بنو إسماعيل ولاة البيت يقيمون للناس حجهم وأمر
دينهم يتوارثونه كابرا عن كابر حتى كان زمن عدنان من أدد فطال عليهم الأمد
فقست قلوبهم وأفسدوا وأحدثوا في دينهم . وكان فيما بين إسماعيل وعدنان
بن أدد موسى عليه السلام " الكافي ج 4 ص 210
كل شئ في مكة يثير العقل والقلب : مسجدها حرم الله ومسكن أبوينا
البرين الطاهرين ، وكعبتها بيت الله ومثابته لأحبائه بني آدم ، وبئرها سقيا الله
لآبائنا وأنبيائنا ، وحجرها الأسود الملك الكريم الذي شهد على أبينا آدم بميثاقه
في توحيد الله فحوله الله مادة نلمسها بأيدينا ونشمها ونستشهدها على
ميثاقنا . ! ومقام أبينا إبراهيم فتى بابل العظيم وأبي النبوات والبشر ، وحجر
إسماعيل غرسة الله عند بيته الحرام . . ناهيك عن تاريخها الحديث المزدان
بنشأة الرسول صلى الله عليه وآله وبعثته وجهاده ، حيث تلقى في مكة نور السماء وأفاضه
منها على العالم فخط الخلود على روابيها وبيوتها وساحاتها وأعطاها أمجادا إلى
أمجاد .
هاهنا ولد سيد البشر . وهاهنا درج ونشأ . وهاهنا تلقى الوحي في
البيت والمسجد والربوة والوادي . وهاهنا وقف خاشعا يصلي ودموعه تفيض
على هذا التراب ، وهاهنا وقف يفيض من قلبه على الناس يدعوهم إلى الله .
جميع هذه الأمجاد والأشياء تتصل بكل إنسان وتثير في أعماقه الحنين
والحنان ، وتجعله يحس وهو يتجه إليها في صلاته أنه يتجه إلى وطنه الأول ،
ومنابعه المباركة الصافية . إلى روافد رسالة الله أشرقت بها الأرض وانهمرت
بها السماء هدى للعالمين ، وإلى فوارها الخالد يبعث تياره كبير الرسل وسيد
البشر صلى الله عليه وآله .
إن من الطبيعي لمكة وهي تحفل بما تحفل به أن تكون للناس جميعا ما
دامت تتصل بهم جميعا بهذا العمق من الاتصال . ومن الطبيعي لكعبتها أن
تكون عتيقة طليقة حرة من النسبة إلى شخص أو قوم أو عنصر أو إقليم .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 83 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سئل الإمام الباقر ( ع ) : لم سمي البيت عتيقا ؟ فقال " هو بيت حر عتيق
من الناس لم يملكه لأحد " الكافي ج 4 ص 189 .
ومن الطبيعي أيضا للرسالة الإلهية الخاتمة أن ترشد الناس للتوجه إلى هذا
البيت ما دام هو المنطلق أولا والمنطلق أخيرا والملتقى فيها بين ذلك .
كذلك شاء المخطط الإلهي للرسالة أن تتجمع روافدها من أرض كنعان
وبابل والخليل والقدس وسيناء وبيت لحم ونينوى . . في هذا المركز العتيق
المقدس والمنبع الأول والأخير ليكون قبلة المراكز كما كان محج الأنبياء .
ولأسباب اختبارية صرفة لم يفرض الله عز وجل التوجه إلى مكة في أول
فرائض الإسلام ، بل أمر الرسول صلى الله عليه وآله والمسلمين وهم في مكة أن يتجهوا
إلى بيت المقدس ، فكان الرسول وهو في مكة يجمع بين الاتجاهين فيصلي قبالة
المسجد والقدس معا . وكان هذا الأمر الإلهي في التوجه إلى القدس الشريفة
اختبارا للمشركين المكيين الذين يعتبرون البيت العتيق مجدا عنصريا وإقليميا
ويأنفون أن يعترفوا بالقداسة لبقعة أخرى من الأرض . ثم كان اختبارا
لليهود والنصارى في المدينة وما حولها عند ما نزل الوحي بتحويل القبلة عن
القدس التي يعتبرونها بدورهم مجدا عنصريا وإقليميا ويرفضون الاعتراف بهذه
القداسة لبقعة أخرى من الأرض .
يصف لنا الله عز وجل حالة الرسول صلى الله عليه وآله حينما كثرت أقاويل اليهود
ولغطهم بأن محمدا ما دام تابعا ( لقبلتهم ) فما عليه إلا أن يتبع ( دينهم )
وكيف توجه الرسول في هذه الفتنة إلى الله عز وجل وأخذ يقلب وجهه في
السماء منتظرا وعده السابق بتحويل القبلة ومتفكرا أتكون القبلة التي يختارها
عز وجل مكة ؟ أم بقعة أخرى يشاؤها سبحانه ؟ فيأتي الوحي حكيما حاسما :
( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . قل : لله
المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وكذلك جعلناكم أمة
وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا
القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وإن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 84 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كانت كبيرة إلا على الذين هدى الله ، وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله
بالناس رؤوف رحيم .
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر
المسجد الحرام وأينما كنتم فولوا وجوهكم شطره . وأن الذين أوتوا الكتاب
ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ! ولئن أتيت الذين
أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم
بتابع قبلة بعض . . ! ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم .
إنك إذن لمن الظالمين . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم !
وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ! الحق من ربك فلا تكن من
الممترين .
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، أينما تكونوا يأت بكم الله
جميعا ، إن الله على كل شئ قدير ) 142 148 سورة البقرة .
هذه الآيات الحكيمة الحاسمة تقرر وسطية الاتجاه إلى مكة بسبب ما تحفل
به من عراقة في تاريخ الإنسان والرسالات الإلهية .
ثم أنظر إلى التأكيد على الاتجاه الفكري في الآية الأخيرة من أجل إعطاء
الاتجاه المكاني إلى المسجد الحرام محتواه الفكري الإسلامي وإبعاده عن معاني
الجاهلية والتصنيم .
هذه البدائة الواضحة الصارخة في الاتجاه إلى المسجد الحرام ، ترى هل
فاتت المستشرقين وأتباعهم الذين يقولون أن تقديس الإسلام لمكة وللمسجد
وللكعبة ألوان من التصنيم ؟ أم هو العمى ومرض القلب يبتلي الله به من
يستحق ؟