لم يستعمل القرآن الكريم في الأمر بالصلاة تعبير : صلوا ، أو تعبير : أدوا
الصلاة بل اختار تعبير : أقيموا الصلاة وحرص عليه حتى أصبح الصيغة
الرسمية كلما أمر عز وجل بالصلاة .
إن هذا التعبير من أدق التعابير القرآنية وأبلغها ، فإن الأمر بالصلاة بصيغة
صل ينصب فيه الوجوب على تحقيق نفس الصلاة ، أما الأمر بها بصيغة أقم
الصلاة فينصب فيه الوجوب على إقامتها وهي أكثر من مجرد الأداء . فإقامة
الشئ تعني : تحقيق وجود بارز له بحسب ما يناسبه من وجود ، فهي مسألة
اجتماعية وليست فردية .
يتضح ذلك من استعمالات القرآن الكريم لمادة أقام حيث يعبر بها عن
الأمور التي يريد لها تحقيق وجود اجتماعي بحسبها .
فقد أمر عز وجل بإقامة الشهادة في قوله : ( واشهدوا ذوي عدل منكم ، و
وأقيموا الشهادة لله ) 2 الطلاق .
ومعنى إقامة الشهادة جعلها أمرا جاريا متعارفا في المجتمع .
وأمر بإقامة الوزن بالقسط في قوله تعالى ( وأقيموا الوزن بالقسط ولا
تخسروا الميزان ) 9 الرحمان .
ومعنى إقامة الوزن بالقسط جعل التقييم العادل للأشياء والحقوق أمرا
متبعا سائدا بين الناس .
وأمر المسلمين بإقامة الإسلام بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله بقوله تعالى : ( شرع
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 76 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم
وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه ) 13 الشورى .
ومعنى إقامة الدين جعله منهجا اجتماعيا وطريقة عيش سائدة . .
وأمر سبحانه بإقامة أحكامه في الحياة الزوجية كما في قوله تعالى ( ولا يحل
لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فإن خفتم
ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) 229 البقرة .
ومعنى إقامة حدود الله بين الزوجين جعل الأحكام الشرعية التي تحكم
هذه العلاقة هي السائدة المتبعة في الحياة الزوجية .
وأمر سبحانه بإقامة الصلاة في كل الآيات التي أمر فيها بالصلاة تقريبا
ومعنى الأمر بإقامة الصلاة : تكليف الناس أن يقيموا لهذه الفريضة وجودا
اجتماعيا بحيث يكون أداؤها والاهتمام بشؤونها ظاهرة واضحة من ظواهر
مجتمعهم .
وكذلك ينسجم التعبير القرآني البليغ بإقامة الصلاة مع طبيعة المسؤولية
الاجتماعية التي يقررها الإسلام على كل الناس فلا يرضى لهم أن يعيشوا
الروح الفردية التي يعاني منها مجتمع الحضارة القائمة ، المسؤولية التي يشد
الإسلام من أواصرها بين جماعته المؤمنة فلا يجيز لنفسه أن يخاطبهم بعقيدته
وتشريعاته كأفراد يطلب منهم تطهير أرواحهم بعيدا ، وأداء صلواتهم في زوايا
الأكواخ والقصور ، بل يخاطبهم كأمة ذات رسالة عالمية ، كوجود متحد متضامن
يعمل وسط الناس لإنقاذ حياتهم وإقامتها على هدى الله .
وينسجم التعبير كذلك مع طبيعة الصلاة التي أمر الله عز وجل أن ينادى
بها على مسامع الناس : أقبلوا على الصلاة ، أقبلوا على الفلاح . أقبلوا على
خير العمل . وجعل سبحانه هذا النداء مقدمة لصلاة كل مصل حتى ولو كان
بمفرده في بيته .
وينسجم التعبير الحكيم مع تكلم المصلي بضمير الجماعة بدل ضمير المفرد
إذ يقول : إياك نعبد ، وإياك نستعين اهدنا ، السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 77 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وينسجم مع تأكيد الإسلام على أداء هذه الفريضة جماعات لا أفرادا وفي
بيوت الله العامة لا في البيوت الشخصية
كل ذلك إفهام من الله عز وجل بأن هذه الفريضة إنما تتحقق كما أرادها
تعالى ، وإنما تعطي ثمارها في النفس والمجتمع إذا حقق الناس لها وجودا بارزا
ظاهرا في مجتمعهم ونهضوا بمسؤولية إقامتها بهذا النحو كما يقيمون الشهادة وكما
يقيمون الوزن بالقسط .