دلالة التعدد
من الثابت عن نشأة النبي صلى الله عليه وآله قبل البعثة أنه كان يجاور في كل سنة
بحراء ( 1 ) الكهف الصخري الواقع في ( جبل النور ) على بعد خمسة كيلو مترات
عن مكة المكرمة ، ويمضي هنالك أياما في التعبد .
أما ما هي طبيعة هذا التعبد الذي كان يقوم به صلى الله عليه وآله ؟ وهل كان يودي
في سائر أيام السنة لونا مؤقتا من الصلاة ، أم أن التوقيت لم يبدأ إلا بعد
البعثة في عام الإسراء ، كما هو المعروف ؟ .
ليس بعيدا أنه صلى الله عليه وآله كان قبل البعثة يمارس صلاة يومية سوى
موسم التعبد بحراء الذي كان يمضيه بصلوات طويلة قد تستغرق نهاره وأكثر ليله .
أولا ، لأن قضية التوقيت من القضايا الطبيعية لحياتنا التي يفرضها وجود
الليل والنهار واحتياج الإنسان إلى وجبات الطعام والراحة ، فالإهتداء إلى
التوقيت ليس صعبا .
وثانيا ، لأن الوفرة العقلية التي كان ينعم بها صلى الله عليه وآله تنسجم مع الاهتداء
إلى ضرورة توقيت عملية التفهم والخضوع بين يدي الرب عز وجل . هذه
الوفرة التي كانت تتنامى باستمرار ببركة العناية الإلهية التي منها الملك الذي
* ( الهامش ) * ( 1 ) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ج 2 ص 157 .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 58 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
رافقه منذ طفولته " ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك
من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم " المصدر
السابق .
ومهما يكن من أمر فإن المشهور لدي المسلمين أن الصلاة اليومية فرضت
بعيد البعثة الشريفة في معراج رسول الله صلى الله عليه وآله محددة بخمس فرائض ، وسبع
عشرة ركعة ، وأوقات معينة .
يستكثر بعض الناس أن يوجب الإسلام على الناس خمس صلوات في
اليوم الواحد . فيسألون : ألا يكفي بعد أن أوضح الله عز وجل للناس
حياتهم وحدد لهم أهدافهم وكشف لهم عن مستقبلهم أن يكلفهم بصلاة
واحدة صباحية مثلا يؤكدون فيها وعيهم وأهدافهم ثم ينطلقون إلى
أعمالهم ؟ .
أو يسألون : لماذا لا يصح أن تجمع الوقفات الخمس في وقفة طويلة
صباحية أو مسائية تكون شحنة تمد الناس بالهدى ليوم كامل ؟ .
يقال ذلك حينما يغفل عن طبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه التي يعيش
فيها . أما حينما يؤخذان بعين الاعتبار فيتضح أن الصلاة هكذا يجب أن
تكون ، خمس مرات كل يوم .
صحيح أن أحدنا يملك إمكانات هائلة للتكامل وللسعي باستقامة في
تحقيق أهداف وجوده الكبيرة ، ولكننا بنفس الوقت نحوي بذور ضعف خطيرة
تتهددنا كل حين أن تعصف بإمكاناتنا وأهدافنا . .
قد تخرج من بيتك مليئا بالعزيمة والتصميم وتشعر بوجودك كيانا قويا
ساعيا لأهداف كبيرة ، ثم يعترضك بعد ساعة إغراء مال أو جنس فما هو إلا
أن ينهدم الكيان وتنهار القوة وتجد نفسك وجودا خائرا في قبضة الاغراء
مجبولا بطينه .
أو تصمم على مجابهة وضع اجتماعي واثقا كل الثقة بحجتك ضده وقوتك
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 59 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
عليه وتضحيتك من أجل تصحيحه ، ثم ما أن تواجهك الأوهام والتخوفات
حتى تنكص عن التصميم وتنخذل أمام الخوف .
أو تكون في أحسن حالك المعتادة فيفجؤك حدث من محزنات الدنيا
المتكررة فيبدل رحابة صدرك إلى ضيق ، وآمالك إلى آلام ، وقوتك إلى ضعف .
وكثير من أمثلة هذا الضعف تزخر بها حياة الأقوياء من الناس فضلا عن
الضعفاء .
إن الضعف في الإنسان قاعدة وليس فرعا . وبذوره التي يمكن أن تنمو في
أي لحظة ترافقنا طوال حياتنا .
ومعوقات الحياة . . مشاغلها ومتاعها الحطام تتساعد هي الأخرى مع
ضعفنا فتشدنا إلى اللصوق بتوافه صغيرة ، وكثيرا ما تثنينا عن أهدافنا وتتحول
إلى حاجب ينسينا أنفسنا وربنا !
لهذا كان لا بد للإنسان أن ينمي بشكل دائم قوى الايجاب في نفسه ،
وأن يحميها من جوانب السلب ويسد ثغراتها مرات كل يوم .
فلو كان أمر الإنسان يستقيم بصلاة واحدة أو اثنتين لما فرض الله عز
وجل عليه أكثر منها . ولو كانت تتم الشحنة المطلوبة ليوم في وقفة واحدة
لأجاز سبحانه جمع الصلوات الخمس في وقت واحد كما أجاز جمع الظهرين
والعشاءين تخفيفا منه ورحمة .
ولكنها الضرورة النابعة من نفس الإنسان وظروفه أملت هذا التعدد
والتوقيت فجعلت الصلاة على الأقل بعدد وجبات الطعام .
( أقم الصلاة لدلوك الشمس ، إلى غسق الليل ، وقرآن الفجر . )
إن تعدد الصلاة وتوقيتها في التشريع الإسلامي يدلنا بوضوح على أن
نفس الإنسان وظروفه مأخوذة بعين الاعتبار في هذا التشريع .
فمن الواقعية وليس من سوء الظن أن نعترف بأن الإنسان يحتاج في كل
يوم يعيشه إلى رعاية وإلى تكرار التوعية . إلى عملية تفهم وتخشع خمس مرات
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 60 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
في الأقل ، علة يستوعب منها ما يصحح مشاعره وأفكاره وأعماله وينقيها من
رواسب الضعف والانحراف .
أليست الصلوات بكلها معرضة للفقدان والتحريف حينما يحولها الإنسان
إلى حقل يابس ، إلى وقفات جامدة عديمة العطاء . . ؟ فما بالك إن عوض عنها
بصلاة واحدة .
عن الإمام الرضا عليه السلام أنه سئل عن حكمة الصلاة وتعددها
فقال : " لأن في الصلاة الاقرار بالربوبية وهو صلاح عام . لئلا ينسى العبد
مدبره وخالقه فيبطر ويطغى ، وليكون القيام بين يدي ربه زاجرا له عن
المعاصي وحاجزا ومانعا عن أنواع الفساد . إن الله أحب أن يبدأ الناس في
كل عمل أولا بطاعته وعبادته ، فإذا فعلوا ذلك لم ينسوه ولم يغفلوا عنه ولم
تقس قلوبهم " . عيون أخبار الرضا ص 102 و 108
دلالة التوقيت .
يتفاوت إحساس الناس بالوقت هذا المحيط الزمني الذي يعيش فيه
الإنسان وما حوله من أحياء وأشياء وتنظيمهم له واستفادتهم منه .
ففي المجتمعات البدائية التي يمثلها في عصرنا بعض مناطق القارة
الإفريقية ، وبعض القبائل المنعزلة في أمريكا اللاتينية وبعض
جزر المحيط الهادي ، يعيش الإنسان في هذه المجتمعات بذهنية مسطحة لا
عمق فيها ، وابرز ما في حياة أفرادها الكسل والتراخي وإهمال الوقت .
وفي المجتمعات المادية المتخلفة كما في أمريكا الجنوبية والمجتمعات البوذية
والهندوسية في آسيا عدا اليابان هذه البلاد يعيث فيها الاستعمار فسادا فوق
فسادها ويسيرها حسب مصالحه بنهب ثرواتها الخام ويستغل مواقعها الجغرافية
ويفترس جهود أبنائها . . مقابل السلع الاستهلاكية التي يصدرها إليهم .
الوقت في هذه المجتمعات رخيص يهدر من قبل الأكثرية بالتوافه من الأمور ،
ويصرف من قبل الحكام والمثقفين لخدمة الاستعمار ولا تجني بلادهم من وقتهم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 61 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
إلا التبعية والخضوع . يقول أحد شعراء أمريكا اللاتينية :
الوقت نهر يجرفني . وأنا النهر
أنه نمر يمزقني . وأنا النمر
أنه النار تأكلني . وأنا النار
أما الوقت في مجتمعات المسلمين المتخلفة فهو يشبه الوقت في المجتمعات
المادية المتخلفة مع اختلاف في وجود بقايا المفاهيم والعادات الإسلامية ووجود
محاولات إسلامية جادة للخروج من المأزق الاستعماري ومن دوامة التخلف
بكل أبعادها .
وأما مجتمعات الحضارة المادية المتقدمة وهي مجتمعات أمريكا وأوروبا
واليابان وإسرائيل فقد اندفع الناس فيها للاستفادة من الوقت في الحصول على
السلع والمتع الجسدية بأوسع نطاق ، ونمت عندهم الأشياء بما لم يسبق له مثيل
في المجتمع البشري ، فلا يمر يوم لديهم إلا ويزداد انتاج السلع البسيطة
المعقدة ، من وسائل الرفاهية إلى أسلحة الدمار والحرب . ويتميز المجتمع
الشيوعي بالمركزية ، والمجتمع الرأسمالي بالإنطلاق الفردي ، وكلاهما يعملان
في اتجاه واحد اتجاه الترف واللهو والركض وراء السلع والانتاج والربح
والسيطرة ( 1 ) .
إن توقيت الصلاة اليومية الذي يبدو عملية تعدادية أو تقسيمية بسيطة هو
إحدى العمليات التغييرية الكبرى التي يحدثها الإسلام في حياة الإنسان
وحضارته . فقد بني هذا الدين الإلهي الخالد بناءا محكما للإحاطة بحياة
الإنسان وتنظيمها تنظيما شاملا ودقيقا وجعل لحياته محطات رئيسية تكون
مصدرا حيويا للتنبيه للوقت إلى الخط السليم . ومن أهم هذه المحطات
الصلاة اليومية ، علامة المؤمن التي تنهاه عن الفحشاء والمنكر .
إن توقيت الصلاة عملية رائعة يتذكر الناس من خلالها بصورة أكيدة
ودائمة وعلى أحسن وجه صلتهم بربهم على مدار اليوم من الفجر إلى العشاء .
* ( الهامش ) * ( 1 ) مستفاد من كتاب " دراسة الوقت والعمل " .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 62 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( وإلى الثلث الأخير من الليل ) .
وأن التزام مجتمعاتنا الإسلامية بأداء الصلاة اليومية لهو واحد من أهم
الأعمال والظواهر المؤثرة في كفاحنا لإقامة الحياة الإسلامية والحضارة
الإسلامية ، هذه الحضارة الربانية المعنوية المادية التي تخرجنا من حالة
الخضوع والتخلف وهدر الأوقات والأعمار ، كما تنجينا من الوقوع في مستنقع
مجتمعات الحضارة المادية التي تستفيد من الوقت ولكن ركضا وراء ترفها
وإمعانا في استعباد الشعوب المستضعفة .
ومن مفردات تأثير الالتزام بالصلاة اليومية الموقتة نذكر : تطبيق نظرية
الإسلام عن الليل والنهار ونشير إلى المعطى الصحي والنفسي لهذا التوقيت
والتنظيم :
تطبيق نظرية الإسلام عن الليل والنهار :
تنوف الآيات القرآنية التي تضمنت ذكر الليل والنهار على الستين آية ،
ولكن الآيات التي اختصت بالليل والنهار أو تضمنت التركيز عليهما تنوف على
الثلاثين . وهي تنقسم إلى فئتين : الفئة الأولى تتناول الجانب التكويني
لظاهرتي الليل والنهار ، فتبين للناس مختلف أوجه الحكمة والرحمة في تكوين
الليل والنهار . في أصل خلقهما ، وفي تقليب كل منهما وتكويره على الآخر ،
وفي ثبات نظامهما الدقيق وارتباطه بحاجة البشر الحياتية ، وفي مسيرة الليل
الدائبة وراء النهار على مدار الكرة يطلبه حثيثا فلا يدركه . . وتدعوهم إلى
استيعاب الدلالة والحكمة والرحمة في هاتين الظاهرتين اللتين قصدتا قصدا في
تكوين الأرض وإعدادها لحياتهم .
من هذه الفئة قوله عز وجل ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ، فمحونا آية
الليل وجعلنا آية النهار مبصرة . ) 12 الإسراء .
وقوله تعالى : ( إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم
استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا . والشمس والقمر
والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب
العالمين ) 54 الأعراف .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 63 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وقوله تعالى ( قل : أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم
القيامة . ؟ من إله غير الله يأتيكم بضياء ؟ أفلا تسمعون ؟
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة . . ! من إله
غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه . ؟ أفلا تبصرون .
ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار : لتسكنوا فيه ، ولتبتغوا من فضله ،
ولعلكم تشكرون ) 71 73 القصص .
وقوله تعالى ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
لآيات لأولي الألباب ) 190 آل عمران .
والفئة الثانية تتناول الجانب الوظيفي لليل والنهار ، وتدعو الناس لأن
يجعلوا حياتهم منسجمة مع الوظيفة الطبيعية لكل منهما .
ومن هذه الفئة قوله عز وجل ( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ،
والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس . ولكن أكثر الناس لا
يشكرون ) 61 غافر .
وقوله تعالى : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو
أراد شكورا ) 62 الفرقان .
وقوله تعالى ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا ، وجعل
النهار نشورا ) 47 الفرقان .
وغرضنا في هذا القسم أن نتبين رأي الإسلام في الجانب الوظيفي لليل
والنهار ثم نتبين مدى فاعلية توقيت الصلاة في تطبيق هذا الرأي
ومن خير النصوص التي تصوغ وظيفة الليل والنهار على ضوء هذه
الآيات ، هذا المطلع البليغ من دعاء الإمام زين العابدين ( ع ) . في دعائه
الصباحي المنساب الخاشع :
" الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوته ، وميز بينهما بقدرته ، وجعل
لكل واحد منهما حدا محدودا ، وأمدا ممدودا . يولج كل واحد منهما في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 64 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
صاحبه ، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشؤهم
عليه . فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب ،
وجعله لباسا ليلبسوا من راحته ومنامه فيكون ذلك لهم جماما وقوة ، ولينالوا به
لذة وشهوة .
وخلق لهم النهار مبصرا ليبتغوا من فضله وليتسببوا إلى رزقه ويسرحوا في
أرضه طلبا لما فيه نيل العالج من دنياهم ودرك الأجل في أخراهم . بكل
ذلك يصلح شأنهم ، ويبلو أخبارهم ، وينظر كيف هم في أوقات طاعته
ومنازل فروضه ومواقع أحكامه . ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي
الذين أحسنوا بالحسنى . . عدلا منه تقدست أسماؤه وتظاهرت
آلاؤه . . " الصحيفة السجادية الدعاء السادس .
فالجانب الوظيفي لليل في رأي الإسلام هو السكن لهذا الجهاز
الإنساني ، أما الحركة فهي اضطرار مخالف لوظيفة الليل الطبيعية .
والجانب الوظيفي للنهار هو العمل والنشور السرح في الأرض أما
السكون فهو مخالف لوظيفة النهار الطبيعية ، اللهم إلا راحة الظهيرة القصيرة
التي تنص عليها الآية 58 من سورة النور ( يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم
الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات في اليوم . .
وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) والتي تكون بحكم الاكتفاء بسكن الليل
ارتياحا موجزا لتجديد النشاط عقب شوط العمل وطعام الغداء .
وقضية السبات والنشور في الليل والنهار حقيقة عميقة في تكوين الإنسان
وحياته ، سواء تكويننا الجسدي والنفسي والعقلي . . والبحوث العلمية في هذا
الجانب لا بد أن تجئ مؤيدة لهذه الحقيقة كما أيدها إلى الآن العديد من
البحوث الفسيولوجية والنفسية .
ومن أكبر الجنايات التي يستهين بها الناس جنايتهم في إهمال الوظيفة
الطبيعية لليل والنهار وقلبها رأسا على عقب . . فلو أردنا أن نقدر الخسائر التي
تترتب على هذا التغيير لرأيناها فادحة جدا إن في الصحة الجسدية أو الصحة
العقلية والنفسية للناس ، أو في الناحية الاقتصادية أيضا .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 65 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
لذلك كان من الطبيعي للإسلام وهو المنهج الرباني للحياة المثلى أن
يعالج هذه الناحية بتوعيته النظرية ، وبتشريعاته العملية .
وقد تمثل جانب التوعية النظرية بتقرير الجانب التكويني والجانب الوظيفي
لليل والنهار وتركيزه والتأكيد عليه ، وهو ما تكفلت به الفئتان من الآيات التي
أشرنا إليها والعديد من نصوص السنة التي فصلت النظرية وشرحتها ، كقوله
صلى الله عليه وآله " لا سهر إلا في ثلاثة ، تهجد بالقرآن ، أو في طلب العلم ، أو عروس
تهدى إلى زوجها " رواه في الخصال ص 112
وأما الجانب التشريعي لمعالجة هذه الناحية من حياة الناس فأراه يتمثل
أكثر ما يتمثل في توقيت الصلاة الصباحية والمسائية . . فقد فرض الله عز
وجل على الناس أن يستيقظوا قبل طلوع الشمس ليؤدوا صلاتهم بين يديه
سبحانه إيذانا ببدء النشور وانتهاء السبات ، كما فرض عليهم أن يؤدوا صلاة
أخرى في المساء إعلانا بختام فترة النشور ودخول فترة السكون .
إن صلاتي الصباح والمساء إذ تحددان بصورة طبيعية وأكيدة بدء العمل
ونهايته لترسمان لنا الصورة اليومية لنشاط المجتمع الإسلامي .
مجتمع يهب مع الفجر على انسياب الأذان بصوت الاعلان الخالد ( الله
أكبر ) للماء الطهور يفتح به نشاطه بعد استجمام ويمثل بين يدي الرب
الرحيم ، بادئا يومه الجديد باسمه وبعونه وبهدايته وفي طريقه .
مجتمع يتنفس أناسه مع تنفس الطبيعة الرائع وتتفتح قلوبهم بإشراقة
الصلاة مع تفتح قلب الطبيعة بإشراقة التسبيح ، فيمتزج ابتهال الإنسان في
موكب سعيد من تغريد وثغاء وأريج وهديل يعم المدن والقرى والسهول
والسفوح والقمم فرحة بيوم جديد وأمل جديد . ثم ينطلق هذا الموكب في
نشاطه بعين الله وبعونه يقيم حياته ويعمر أرضه ويصرف شؤونه . حتى إذا
نثرت عليه الشمس ثمالة أشعتها وعسعس الليل مؤذنا بالسكون عسعس موكب الحياة
المبارك إلى مهاد أمن الله في ختام رائع يلتف فيه حنان الثغاء بزقزقة الأوكار
وإياب النسيم بارتياح الزهور .
وتنزل الملائكة بصلاة الختام ، حيث يعود الناس من سرحهم وكدحهم إلى بيوت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 66 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الله أو بيوتهم يشكرونه على توفيق يومهم ويعتذرون إليه لما فرط منهم
ويستهدونه لأيامهم المقبلة ويستمدون منه المعونة للسير في المهمة التي خلقهم
من أجلها وهداهم إليها ، ثم ليسكنوا إلى أهليهم من حركات التعب ونهضات
النصب ليكون ذلك لهم جماما وقوة وسعادة .
ولافتتاح النهار أثر كبير في سلوك الإنسان فإن العمل المؤثر الذي تفتتح
به نشاطك والشعور الذي تتلقاه في الصباح ينعكسان على عملك في النهار
بشعور أو لا شعور . وماذا أبلغ من أن يفتتح الناس نشاطهم في أرضهم
بصلاة بين يدي رب الأرض والوجود عز وجل يستهدونه الطريق ويستعينونه
على الأهداف ثم ليسرحوا في أرضه ويبتغوا من فضله .
وختام النهار كافتتاحه أو هو أشد حاجة لعودة إلى الله ووقفة تضع الناس
بحصيلة نهارهم بين يديه ليباركوا نتاجهم الخير وجهدهم المبرور وينفضوا
عنهم أوضار النهار وأثقاله وآثامه .
إنها صورة بديعة لبكور الناس وعشيهم تشدنا إلى جمال الحياة الإسلامية
التي افتقدها عالمنا الحاضر واستبدلها بالتمزق المرير الذي ينام أناسه على
شبحه في ساعة متأخرة من الليل ويستيقظون على مضغه في ضحى النهار .
وماذا باستطاعة حضارة الانفصام عن الله ، أن تحقق للناس غير انفصالهم
عن الطبيعة وعن أنفسهم ؟
لو كان الناس أكفاء لإسعاد أنفسهم في الدنيا بدون هدى الله لانتظموا
مع الطبيعة في منهج البكور والعودة على الأقل !
تبارك الذي خلق الليل والنهار ، وشرع للنشور والعودة صلاة شاكرة
معطاءة تزود الناس بالهدى وتنتظم بهم في موكب الطبيعة الجميل . .
وإذا بلغ النهار منتصفه وجب على الناس أن يؤدوا صلاة الظهر ، وفي هذا
التوقيت علاج لمسألتين مهمتين في حياة الناس :
الأولى : تصفية الشوائب التي تعلق بنفس الإنسان في غمرة الحركة فإن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 67 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باستطاعتك أن تدرس فردا أو أفرادا من الناس لترى الفرق الكبير بين حالتهم
النفسية في الصباح حينما توجهوا إلى أعمالهم باسم الله وعلى بركته ، وبين
حالتهم النفسية قرابة الظهر وقد قطعوا شوطا من العمل في طلب الرزق ،
والتعامل مع الناس .
أو تلحظ المحتوى النفسي لمجتمع استقبل يومه الجديد بالصلاة الصباحية
فخشع بين يدي الله وتملى وجوده وهدفه ومفاهيمه عن الحياة والسعي فيها
وانتشر في أعماله . ثم تلحظ هذا المجتمع قرابة الظهر وقد أمعن فلاحوه في
حقولهم وتجاره في أسواقهم وموظفوه في دوائرهم وعماله في أعمالهم ومسؤولوه
في تصريف أموره . لتجد المسافة بين مشاعر الصباح ومشاعر هذه
الساعة .
سترى مجتمعا استغرق في حركة السعي لرزقه حتى كاد ينسى مفهومه عن
السعي ، والروح الفردية قد تسربت في أفراده حتى ليكاد الواحد منهم أن
ينحصر في جوه ومشاغله الخاصة ناسيا بذلك وجوده المجموعي ومسؤولياته في
ذلك .
إنه داء النسيان يعاود الإنسان في غمرة علائقه بالدنيا فيتهدد مفهومه عن
المال والذات ويتهدد هدفه من كدحه وسرحه حتى تكاد تنفذ من قلبه شحنة
المشاعر الجيدة التي تلقاها في الصباح فلا يعيده إليها إلا نداء يأتي من مختلف
الجنبات معلنا ( الله أكبر ) للتجاوب معه أعماق الضمير قائلة : نعم الله أكبر .
نداء وكأنه يد الغيب الرفيقة تمتد فتنتشل الناس من نسيانهم لتضعهم بين يدي
ربهم الأكبر عزو جل ، أمام مفاهيمهم ومشاعرهم وهدفهم من حياتهم
الدنيا . وحياتهم العليا .
ضعيف هذا الإنسان عند ما يستغرق في كدحه فينسى كدحه ويستغرق في
نفسه فينسى نفسه ، ينسى أنه موجود في زاوية من كون الله الكبير وأنه لا بد
تارك هذه الزاوية وعائد إلى قلب الكون ليلاقي هناك ربه وعمله . ولذلك
كانت صلاة الظهر نعم الدواء ، نعم العون على الضعف والمنعش للنفس .
والمسألة الثانية : التي يعالجها توقيت الصلاة بانتصاف النهار : مسألة تحديد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 68 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
شوط العمل فمن الواضح في المجتمع الإسلامي أن أذان الظهر يعلن انتهاء
شوط العمل الصباحي ، ويدعو الناس لأداء فريضتهم وتناول غدائهم .
لقد أحكم الله سبحانه بقدرته خلق الإنسان فجعل نفسه وجسده يحتاجان
إلى الطاقة في آن ، فما أن تبلغ الشمس كبد السماء حتى تحتاج النفس إلى
استعادة معطى الإسلام من المفاهيم والأهداف في صلاة بين يدي الله تبارك
وتعالى ، ويحتاج الجسم إلى وجبة الغذاء وربما لشئ من الراحة .
إن الصورة الإسلامية المفضلة للعمل في الأرض أن يكون انتصاف النهار
نهاية لشوط الصباح وبملاحظة البكور في النشور الذي تفرضه صلاة الفجر فإن
الدوام الرسمي يكون فترة واحدة تبدأ بطلوع الشمس أو بعده بقليل ، وتنتهي
بصلاة الظهر . أما الأعمال الحرة فتكون على فترتين ، أولاهما فترة الدوام
الرسمي ، والثانية تبدأ بعد راحة الظهيرة وصلاة العصر وتنتهي بصلاة
المغرب . . ثم يكون السكون والاستجمام
ونلمس حرص الإسلام على هذه الصورة لمجتمعه من تأكيده بشكل
خاص على الصلاة الوسطى ، صلاة الظهر ، فقد ورد في تفسير قوله تعالى
( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) أن الصلاة الوسطى هي صلاة
الظهر كما في الوسائل ج 3 ص 14 .
كما ورد في تفسير قوله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض
وابتغوا من فضل الله ) أن الانتشار المقصود هو الانتشار يوم السبت وليس
عصر الجمعة ، رواه في الخصال ص 393 .
المعطى الصحي للتوقيت .
إن نظرة الشريعة الإسلامية من زاوية اهتمامها بصحة الإنسان ، ترينا
أن تطبيق هذه الشريعة العظيمة كفيل بالوقاية من كثير من الأمراض بالقضاء
على منابعها وأسبابها ، كما أنه كفيل بتوفير أفضل ظروف العلاج ووسائله المادية
النفسية .
فمن الطبيعي للخالق عز وجل وهو الخبير بمن خلق وبما خلق أن يدخل في
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 69 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
حساب تشريعاته توفير كل المكاسب الممكنة لحياة الإنسان ، ما عرف الإنسان
منها وما لم يعرف .
ومن الطبيعي للخالق عز وجل أن يقدر في أصل تكوين الإنسان وحياته
أنهما ينسجمان مع شريعته المقدسة سواء بتحقيق المكاسب الصحية والعقلية
والنفسية والاقتصادية والاجتماعية . وكافة المكاسب التي تسهم في إقامة حياة
الإنسان سعيدة هنا وتضمنها سعيدة في الجنة .
وفي مجال الجانب الوظيفي لليل والنهار ، كم يؤلمك أن ترى الحضارة
المادية المنكودة قد وصلت في مخالفة هذه الوظيفة إلى حد النقيض .
أول ما ترى ملايين العمال المستضعفين الذين لا تعطيهم الأنظمة الظالمة
فرصة لسد رمقهم ورمق عوائلهم إلا بأن يقلبوا ليلهم نهارا ونهارهم ليلا .
ثم ترى عادة استهلاك نصف الليل في كثير من الترف واللهو والفسوق ،
هذه العادة التي نشرتها الحضارة الجاهلية بثقافتها ووسائلها في أنحاء العالم ،
فجعلت أكثر الليل ظرفا لأنواع الفساد والإرهاق المدمر لأعصاب الناس
واقتصادهم .
إن توقيت الصلاة إذ يفرض على الناس أن ينهضوا مبكرين لأداء صلاة
الفجر ، يرفض أن يكون الليل أو قسم منه وقت عمل . فالليل فترة سكن
وجمام وعلى الإنسان أن ينال منه حاجة جسمه ونفسه ، إلا من اضطر غير باغ
ولا عاد ، ممن يحتاج المجتمع إلى عملهم في الليل .
إن الليل الإسلامي ليل هادئ سعيد ، وما أغنى الحياة عن كدح البائسين
الذين تسرق منهم الحضارة الظالمة فرصة العمل في نهارهم وتحرمهم في الليل
سكنهم وراحتهم ، ولو اكتفى الطامعون من الرأسماليين والشيوعيين وعدلوا في
توزيع الثروات التي وهبها الله لعباده لاستغنوا عن إرهاق ملايين المستضعفين
الكادحين في الليل وأعادوا إليهم حياتهم المقلوبة وراحتهم المسلوبة .
والليل الإسلامي ليل هادئ سعيد وليس ظرفا للصخب وإرهاق
الأعصاب وتبديد العقول كما هو ليل المسرفين . فكم في الحياة من أنواع
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 70 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
السعادة وأنواع المتع الحلال التي يسرها الله وهدى إليها الإنسان وأعطاه الوقت
الكافي لنيلها في النهار وفي الشطر الأول من الليل .
ولو أن دولة من دول الحضارة المادية اتخذت الاجراءات والقوانين اللازمة
لإعادة الوظيفة الطبيعية لليل لحققت أعظم الفوائد في الحفاظ على صحة
شعبها وأعصابه ، ولوفرت عليهم مبالغ هائلة تصرف عبثا في استهلاك الطاقة
الكهربائية وفي العلاج . ولكن أنى لهم ذلك بدون الإسلام .
ومما يزيد في الخسارة الصحية والاقتصادية أن ما يقابل إتلاف الليل أو
إتلاف قسم منه في العمل والصخب والفسوق خسارة غرة النهار وأفضل
ساعاته ، وبالأخص فترة ما بين الطلوعين طلوع الفجر وطلوع الشمس .
فلا شك أن هواء هذه الفترة ثروة صحية كبيرة يبددها المسرفون في الليل فتمر
عليهم وهم نائمون خاملون .
إن الله تعالى أراد للناس أن يهبوا مع يقظة الطبيعة ليؤدوا صلاة الفجر
وينعموا بثروة نسيم الصباح الباكر ، إضافة إلى ما يبعثه جو الفجر وطلوع
الشمس من مشاعر جميلة تعود على الجسم والنفس باليقظة والراحة والنشاط ،
خاصة بملاحظة الحكم الشرعي الذي يقضي بكراهة النوم بين الطلوعين .
ولئن كان هارون الرشيد يقول لزوجته زبيدة كما يروى : قومي نتنسم
هواء الفجر قبل أن تلوثه أنفاس العامة فإن الله يقول لعامة الناس : انهضوا
وصلوا وتنسموا هواء الفجر قبل أن تغادركم هذه النعمة اليومية .
ولئن كان أحد أبطال الكمال الجسماني يقدم نصيحته الوحيدة لهواة
الكمال الجسماني بأن يلتزموا بأقل من ربع ساعة رياضية قبل طلوع الشمس
ليجدوا الفارق في أجسامهم في أقل من شهر . فإن الله تعالى يوجب على
الناس أن يستيقظوا قبل طلوع الشمس لأداء الصلاة من أجل كمال نفوسهم
وأجسامهم .
كم يؤلمك أن تنظر إلى مجتمعات الحضارة الجاهلية في هدأة الليل فترى بؤس
الكادحين وصخب الصاخبين من الناس . ثم تنظر في تنفس الصبح فلا تجد
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 71 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
منهم إلا غطيطا يحرمهم من ثروة النسيم العليل التي خلقها الله لهم .
متى سيتوب الإنسان عن مناقضة الوظيفة الطبيعية لليلة ونهاره ، ويلتئم مع
الطبيعة ويشاركها حياتها الجميلة . ؟
ذلك عندما يلتئم مع نفسه فيجد ربه وهداه ، ويجد نفسه بين يدي ربه
ويدي أهدافه في وقفة الصباح والمساء . في تنفس الصباح ، وهدأة المساء .
ولراحة الظهيرة التي يفرضها توقيت الإسلام للصلاة نفع صحي كبير ،
لأنها تعوض الجسم والنفس قدرا من الطاقة والحيوية التي استنفذها العمل .
وهي فترة نافعة بشكل خاص لأولئك الذين يعملون بشكل متواصل إلى
وقت متأخر من النهار ، إما لأن أصحاب العمل يفرضون عليهم ذلك أو بدافع
الحاجة والحرص كأولئك الفلاحين والكادحين الذين يستطيعون أن يستفيدوا من
راحة الظهيرة ولكنهم لعوزهم وجهلهم يحولون نهارهم إلى معركة جهد مضنية
لا يوقفها إلا تداعي قواهم فيعدون إلى مساكنهم محطمي القوى لا يشعرون
كيف يتناولون طعامهم أو يرون أسرهم ، ثم يسلمون أنفسهم إلى نوم لا يفقه
طعم النوم . ثم ليعودوا في اليوم التالي إلى معركتهم . وهكذا دواليك .
من أجل ذلك كانت راحة الظهيرة التي تفرضها الصلاة حدا إلزاميا
لشوط العمل تلزم الناس بالمحافظة على سلامة أبدانهم كما تلزمهم بالمحافظة
على سلامة نفوسهم .
المعطى النفسي للتوقيت
ومن معطيات توقيت الإسلام للصلاة اليومية الالتزام بالنظام والاطمئنان
النفسي .
إن كل ما حول الإنسان من أحياء وأشياء ملتزم بنظام لحياته : السماء
بحركة أجرامها . والماء بجريانه وتبخره وعودته . والنبات بغذائه ونموه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 72 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وأثماره . والحيوان بقوانين تكوينه وغريزته . بل الذرة الواحدة بحركات
أجزائها ونواتها . بل الإنسان في تكوينه الجسدي ملتزم بنظام . ولذلك فإن
النزوع إلى النظام يعتبر نزعة طبيعية لدى الإنسان الذي لا يقر عقله ولا
تطمئن نفسه إلى الفوضى والعبث .
أما حالات الاتجاه والرغبة إلى التخلص من الالتزام بالانتظام فهي ترجع
إلى رفض نظام حياة معين لاستبداله بنظام آخر ، أو إلى التعود الطويل الأمد
على الحياة غير المنظمة ، أو إلى حالة غير سوية في شخصية الإنسان . ولا
أظن لهذا الاتجاه المضاد للإنتظام سببا وراء هذه الأسباب الثلاثة .
إن اتجاه الناس في مجتمعاتنا إلى عدم الالتزام بأنظمة الحياة الموضوعة من
قبل الحكومات هو القناعة العامة بظلم هذه الالتزامات التي تفرضها أنظمة
ظالمة ، متسلطة ، وهو في بعض الحالات عدم التعود على الالتزام بالنظام
الموروث من فوضى الانحطاط وفوضى الافساد التي أشاعها الاستعمار .
وكذلك حالة الميل إلى الفردية وعدم الانتظام في ظل الدولة الإسلامية
والمؤسسات والحركات الإسلامية هي حالة ناشئة من عدم التعود على النظام أو
من خلل ذهني ونفسي في شخصية المسلم .
وأما الظاهرة التي تسمى " ثورة الجيل الجديد " في المجتمعات الغربية
المتقدمة على كل التزام وانتظام فهي في اعتقادي ليست خروجا على " مبدأ
الالتزام " وإنما ثورة للبحث عن التزام نافع بدل الالتزام بالأنظمة المادية
الفارغة . إن السبب في تيار الفوضى والعبث الهيبي والوجودي وأمثاله هو
شعور هؤلاء " الثوار " أن التزام الناس بشكل الحياة الغربي بدون جدوى .
فلماذا يقيد الإنسان نفسه بقوانين ؟ ولماذا ينتظم في عمل يومي مرهق ؟ ولماذا ؟
ولماذا ؟ . فما دام كل ذلك من أجل أن يعيش الإنسان عمره سعيدا هانئا
فمن يقول أن شكل الحياة القائم المعقد المرهق هو أكثر سعادة وهناءة من
شكلها الحر الطليق البسيط حيث يفعل الإنسان ما يشاء ويعيش كما يشاء .
إن هذه الموجات الخارجة عن الانتظام الباحثة عن المجهول لا بد أن
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 73 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
تنتهي إلى ألوان من الالتزامات المبسطة والمعقدة تبعا للظروف التي تحبط بها
والأفكار التي تنمو في أوساطها .
وما دام الالتزام بنظام في السلوك هو نداء الفطرة ونداء الحياة من حول
الإنسان فإن الإسلام بتوقيته للصلاة اليومية يلبي هذا النداء ويضع نشاط
الإنسان اليومي في إطار عبادة تعلم الإنسان الانتظام الجاد الحيوي ، وتعطي
نفسه الاستقرار بعيدا عن انضباط التقاليد المملول ، أو انضباط الأنظمة المادية
الظالمة .
وفي النظام المقنع الواعي استقرار النفس واطمئنانها . فالنفس إن فقدت
هذا الاطمئنان فليس إلا الأعراض الرهيبة تنتابها من كل جانب وتهدد
كيانها .
من أصح ما وصفت به حضارة الجاهلية الغربية أنها حضارة الرعب
والقلق ، فقد نقل الغربيون إلى مجتمعاتهم كل مخاوف الحضارة اليونانية التي
تصور حياة الإنسان صراعا مع الطبيعة ، وزادوا عليها مخاوف الظلم الاجتماعي
في مجتمعاتهم وخارجها ، وزادوا عليها مخاوف الوسائل التدميرية الهائلة التي
أنتجوها . حتى أصبح إنسان هذه الحضارة يعيش العداء والخوف من الطبيعة
المحيطة به ، ومن الناس الذين حوله ، ومن التكنولوجيا التي بين يديه ، ومن
المجهول الذي أمامه .
لقد تمكن الرعب والقلق من إنسان الحضارة الغربية وفقد لؤلؤة
الاطمئنان من محارة نفسه . لقد أصبح أمله في أن يسكن الكواكب البعيدة
أملا قريبا ، ولكن أمله في أن تطمئن نفسه التي بين جنبيه لا زال بعيدا بعيدا .
إنه لا أقدر من الإسلام على إهداء اللؤلؤة المفقودة إلى الأنفس القلقة .
يقوم الإسلام أولا بتطمين الناس عقيديا فيقدم لهم مفهومه السعيد الفريد عن
الوجود وعن موقعهم المطمئن فيه وليس هذا مجال استعراض مدى الطمأنينة
والموضوعية في مفهوم الإسلام هذا
. ثم يضع لهم فريضة الصلاة التي تجعل من الاطمئنان حقيقة يتعاملون
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 74 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
معها في سلوكهم بعد تأن استوعبوها في عقيدتهم .
ماذا أبلغ في تطمين النفس البشرية من أن تأوي في فترات نهارها إلى
مليك الوجود عز وجل تتفيأ رعايته وحنانه وهداه وتستمد منه العون لحاضر
أمرها ومقبله .
وللتوقيت الحكيم الذي اختاره الله سبحانه لفريضة الصلاة ارتباط واضح
بدفعات الطمأنينة التي تحتاجها النفس كل يوم . فما أن يرخي الليل أسداله
على الأرض حتى يرتفع الأذان وتمتد يد الصلاة لتطمئن الإنسان فتضعه بين
يدي ربه وآماله مسلمة إياه إلى سكون مقصود .
وينهض الإنسان ليوم جديد فتوافيه الصلاة مبكرة تبارك له آماله
وتبشره . ويستغرق في العمل وملابسات الحياة فتعود اليد الرفيقة لتنتشله من
حرصه ومخاوفه وتعيد إليه طمأنينته وارتياحه من تعب النفس وتعب الجسم .
توقيت حكيم كتبه الله على الإنسان كي يجدد لنفسه إيمانها واطمئنانها كلما
قطعت مرحلة من النهار ، من أجل أن تبقى مفعمة بالهداية والسعادة ، سائرة
برعاية ربها وهداه تجني لوجودها خير الحاضر المطمئن وفوز المستقبل المأمول .
( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) صدق الله العظيم .