وجوب الصلاة وفرضها من المدلولات الصريحة لعدد من الآيات الكريمة
كقوله عز وجل : ( وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطيعوا الرسول ، لعلكم
ترحمون ) 56 النور .
وقوله تعالى : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ، هو اجتباكم ، وما جعل
عليكم في الدين من حرج . ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من
قبل ، وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس .
فأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، واعتصموا بالله ، هو مولاكم * فنعم المولى
ونعم النصير ) * 78 الحج .
وقوله تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا )
103 النساء .
ومن نافلة القول الاستدلال على وجوب الصلاة في الشريعة ، فإن نظرة في
الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع تكفي لهذا الغرض ، فضلا عن تواتر السنة
وإطباق سيرة المسلمين ورأيهم كافة .
نعم ينبغي أن نلقي الضوء على معنى الفرض والوجوب في الإسلام لنفهم
منه فرض الصلاة ووجوبها :
الوجوب واحد من الصيغ الخمس التي تحدد بها الشريعة المقدسة موقفها
من أنواع سلوك الناس . وهذه الصيغ هي :
1 الوجوب الفرض ، العزيمة .
2 الحرمة الحظر ، المنع .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 50 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
3 الاستحباب الندب ، الرخصة .
4 الكراهة التنزه .
5 الإباحة الحل .
فكل عمل في حياتنا لا بد أن يكون للإسلام فيه حكم من هذه الأحكام
الخمسة ، سواء في ذلك ما كان من الشؤون الشخصية والاجتماعية والدولية ،
وسواء في ذلك الأعمال والأوضاع الثابتة والمتجددة ، بل وحتى الأعمال الذهنية
من عمليات عقلية ونفسية . فإن من المجمع عليه لدى فقهاء الإسلام
استحالة خلو الواقعة الحادثة من حكم ، تعبيرا عن ضرورة شمول الشريعة
المطلق لشؤون الحياة .
والسبب في هذا الشمول التشريعي واضح ، فإن الإسلام ليس دينا بالفهم
الغربي للدين بل هو نظام حياة متكامل منبثق عن عقيدة متكاملة لا يغفل شيئا
من نشاط الإنسان دون أن يحدد موقفه الاعتقادي والعملي منه . لذلك نرى
الإسلام يشمل كل النشاطات البشرية الموجود منها والممكن فينوعها بالنحو
التالي :
القسم الأول : أعمال ضرورية لإقامة الحياة بالشكل الذي يريده
الإسلام ( وهو أجمل وأصح أشكال الحياة على الأرض ) ويصدر الإسلام أمره
بضرورة وجوب تحقيق هذه الأعمال والقيام بها ، ويعتبر من تركها فردا أو
مجتمعا منحرفا وعاصيا .
وتنقسم هذه الضرورات أو الواجبات أو الفرائض إلى واجبات اعتقادية
وواجبات عملية ، والأخيرة إلى واجبات فردية وواجبات اجتماعية .
ومن أمثلتها : الاعتقاد بالله ورسله والحياة الآخرة . التفكير بمقدار يوصل
الإنسان إلى الحق . مساواة الحاكم لفقراء شعبه في معيشته . الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر . مقاومة الظلم . الخ .
القسم الثاني : أعمال مضرة بالفرد والمجتمع ويصدر الإسلام أمره فيها
بالمنع البات التحريم ويعتبر من فعلها فردا أو مجتمعا منحرفا وعاصيا .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 51 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهي كذلك تنقسم إلى محرمات اعتقادية وعملية ، فردية واجتماعية ، كما
تنقسم إلى محرمات كبائر مشددة ومحرمات صغائر . . ومن أمثلة هذه
المحرمات : القتل . الكذب . الخمر . الركون إلى الظالمين . الزنا . الربا . والسرقة . السفور . الحكم بغير ما أنزل الله . التصورات الجنسية المحرمة .
الغش . . الخ .
القسم الثالث : أعمال يحبذها الإسلام لأنها تحقق مستوى أرفع لحياة الفرد
والمجتمع ، ولكنه لا يفرضها لأن الحد المرضي من الحياة يتحقق بدونها ولذلك
لم يعتبر تركها معصية وانحرافا واعتبر القيام بها عملا صالحا طيبا يستحق
المكافأة في الآخرة . وتنقسم هذه الأعمال التي تسمى المستحبات إلى :
مستحبات مؤكدة ومستحبات . ومن أمثلتها : الاعطاء من الثروة زائدا على
الواجبات المفروضة الصلاة والصيام زائدا على الفريضة : التطوع لدراسة
الإسلام وتعليمه للأمة : ( هذا إذا توفر الحد الواجب من المبلغين ) كل ما سوى
الواجبات مما يكون نافعا فرديا واجتماعيا ويقصد به وجه الله عز وجل .
القسم الرابع : أعمال لا يرغب فيها الإسلام لأنها من بعض وجوهها
تشبه المحرمات بنسبة من الشبه . ولكنه لا يمنع من ارتكابها لعدم منافاتها للحد
المرضي من الحياة ، ولذلك لا يعتبر فعلها معصية وإن كان يعتبر تركها عملا
صالحا يستحق الجزاء في الآخرة .
وهي تنقسم أيضا إلى مكروهات مؤكدة ومكروهات . ومن أمثلتها : الأكل
في الطريق . كثرة الكلام . حلف اليمين في المعاملة إذا كان صادقا ( وإن كان
كاذبا فهو حرام ) الصلاة في الأماكن غير اللائقة . الدخول في سوم البضاعة
مع وجود من يساوم عليها . .
القسم الخامس : الأعمال الباقية التي ليس فعلها أو تركها ضروريا لإقامة
الحياة المرادة ولا هي دخيلة في تحقيق المستوى الأرفع أو في تخفيض الحد
المرضي ، ولذلك لا يعتبر الإسلام فعلها أو تركها معصية أو انحرافا . ومن
أمثلة هذه الأعمال التي تسمى المباحات : القيام . الجلوس . الرواح . المجئ .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 52 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أكل هذا النوع من الطعام أو ذاك . فتح شخص لمحل تجاري أو مخبز . . كل
ذلك إذا لم يكن دخيلا فيما ذكر أعلاه .
ومما يتصل بتنويع الإسلام للنشاطات البشرية ، هذه الأصول التالية :
أولا :
إن وحدانية الله عز وجل التي يؤكد عليها الإسلام حتى ليسمى ( دين
التوحيد ) هي : إفراد الله في ذاته بمعنى نفي التركيب والمادية عنه عز وجل ،
وإفراده في الخلق ابتداء أو استمرارا ، وإفراده في حق التشريع . . فكما أن من
أجاز عليه سبحانه الحلول والتغير فقد أشرك به ، فكذلك من جعل حق
التشريع لنفسه أو لشخص أو جهة فقد أشركهم مع الله تعالى .
ومنشأ ضرورة التوحيد في حق التشريع أن تنويع النشاطات البشرية
وإصدار الأحكام المناسبة فيها أمر لا يمكن أن يمارسه إلا الخبير بهذه النشاطات
وتشابكها وآثارها ونتائجها على نفس الإنسان ومجتمعه في حياته الحاضرة
والمقبلة . . ومثل هذه الخبرة العميقة الدقيقة لا تتحقق إلا في الخبير العليم
سبحانه .
نعم يستثنى من ذلك مناطق الفراغ التي تركتها الشريعة المقدسة وسمحت
للدولة العادلة أن تشرع لها القوانين الملائمة على ضوء الأوضاع المتطورة وفي
إطار الخطوط العامة للشريعة ، ومن الواضح أن مل هذه المساحات المفتوحة في
الشريعة ، إنما هو بالحقيقة وضع لوائح تنظيمية لغرض تنفيذ أحكام الشريعة
العامة بنصها وروحها على ضوء مصلحة الأمة المتطورة .
ثانيا :
يخضع تنويع الإسلام المتقدم للنشاطات البشرية لقواعد عامة محددة في
الشريعة قد توجب تبديلا في أقسامه . وتسمى هذه القواعد ( العناوين
الثانوية ) .
فقد يقتضي العنوان الثانوي المنع عن أعمال كانت في أصلها من نوع
المباحات فتصبح من نوع المحرمات . . مثلا ، تصرف المالك في ما يملك أمر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 53 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
جائز في الأصل لكن إذا استوجب إضرارا بالغير فإنه يصبح محرما وذلك
بمقتضى العنوان الثانوي الذي هو هنا ( قاعدة نفي الضرر ) التي قررتها
الشريعة الإسلامية في النص المشهور عن الرسول صلى الله عليه وآله : لا ضرر ولا ضرار
في الإسلام .
وقد يقتضي العنوان الثانوي إباحة الحرام أو وجوبه . مثلا ، يشرع
الإسلام الملكية الفردية ويحرم التعدي عليها ، ولكنه يجيز لحكومته أن تأخذ من
الملكيات الفردية الكبيرة أو الصغيرة القدر الذي تراه ضروريا للحاجة
الاجتماعية ، كما يجيز أن تجبر أهل الأموال على تشغيل رؤوس أموالهم المجمدة
للمصلحة الاجتماعية ، أو تأخذ منهم زيادة على الحقوق الشرعية المفروضة .
وقد يقتضي العنوان الثانوي إيجاب المباح أو تحريمه ، فالتخصص الصناعي
والزراعي أمر مباح أساسا ولكن إذا احتاج الوطن الإسلامي بشكل ضروري
إلى إختصاصيين في الصناعة والزراعة وغيرها فإن ذلك يصبح واجبا شرعا
ويحرم على أساسه التخصص في المجالات الأخرى غير الضرورية وإن كانت
مباحة في أصل التشريع .
وهكذا ، يضع الإسلام قواعد عامة توجب التبديل في تنويعه الأساسي
للأعمال وأحكامه الأولى بشأنها ، ولكنه تبديل ثابت في إطار الإسلام منسجم
مع عقيدته في الحياة وأهدافه منها وخطته فيها .
ثالثا :
باستطاعة الفرد والمجتمع والدولة المسلمين أن يحولوا جميع نشاطاتهم
المباحة إلى نشاطات مستحبة فتكون في ميزان الإسلام أعمالا صالحة تستحق
الجزاء والمكافأة ، وذلك بأن يعيشوا روح الرسالة الإسلامية ويقصدوا من
حياتهم التقرب إلى الله عز وجل بتحقيق أهدافها .
رابعا :
الأسلوب السائد في تطبيق التشريعات على المجتمعات هو أسلوب القوة
حيث تفرض السلطة على الناس تطبيق تشريعها وتقوم بمعاقبة المخالفين .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 54 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما أسلوب تكوين الضمير القانوني في المواطنين عن طريق تركيز قيم
التشريع وفوائده في نفوسهم فلم تسلكه حتى الآن أي من الدول القائمة على
دساتير وتشريعات ( ولا كلام لنا في الدول المقامة على غير تشريع ) .
ولا نستطيع أن نستثني من ذلك إلا الدول والمجتمعات التي أقامها الأنبياء
والأئمة عليهم السلام فإنها اعتمدت على تطبيق شرائعها تربية ضمير التقوى
لدى المواطنين ونجحت في ذلك أيما نجاح .
وقد تتصور أن إغفال المشرعين القانونيين لطريقة تكون الضمير القانوني
إنما هو لعدم أهمية هذه الطريقة في حياة المجتمعات . لكن الأمر على
العكس ، فما من مشرع قانوني إلا ويتمنى أن يجمع المواطنين على قيم تشريعه ،
وما من دولة إلا وتتمنى أن يؤمن المواطنون من أعماق قلوبهم بصحة الدستور
والتشاريع التي تقوم عليها .
بل السبب في خسارة هذا المكسب العظيم إخفاق خبراء التشريع في
تكون الضمير القانوني لدى الناس . " إنهم يجدون القيم التي يحاولون جمعها
في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد . ومثل رجل القانون في
محاولته هذه كمثل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة ،
فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت إلى الماء مرة
أخرى " هذا ما يقوله أحد خبراء التشريع - الإسلام يتحدى ص 231 .
والنتيجة الطبيعية لافتقاد القيم القانونية افتقاد القانون ذاته . فإلى حد
الآن أخفق أساتذة القانون في وضع شئ يصح تسميته ( القانون ) رغم كل
الجهود والتعديلات التي تبذل في هذا المجال .
وهذا ما يعترف به أحد خبراء القانون الغربيين Foller . L . L حتى لقد
وضع كتابا أسماه القانون يبحث عن نفسه ( The Lawin Questof Itself ) .
ص - 230 المصدر المتقدم .
وينقل البروفسور ( باتون ) رأيا لبعض علماء التشريع يقول : " إن جميع
محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن الأهداف في فلسفة التشريع قد انتهت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 55 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
إلى غير ما نتيجة . " ثم يتساءل ويجيب : " أهناك قيم مثالية تحدد الأسس عند
تطور التشريعات ؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل إلى هذه القيم حتى
الآن . غير أنها لا بد منها " ص 234 المصدر المتقدم .
أما الإسلام الذي حدد قيم الشريعة وأقام على أساسها التنويع الكامل
لكل نشاطات الناس فإن من الميسور له أن يسلك في تطبيق شريعته أسلوب
تكوين الضمير القانوني في نفوس الناس ، وأن يجعل من السلطة المعتمدة كليا
عند غيره خط ضمان ثانيا لنظامه ، لحالات الشذوذ عن الضمير القانوني .
من هذا العرض لتنويع الإسلام لنشاطات الناس نجد أن : مفهوم
الوجوب في الإسلام يعني : الضرورة التي لا تستقيم الحياة بدونها .
ومن تنويع الصلاة في قسم الواجبات نفهم أن هذا العمل التربوي
اليومي في نظر الإسلام ضرورة لا تستقيم حياة الناس بدونه .
يضاف إلى ذلك جعل فريضة الصلاة من أوليات الواجبات بل من
الأركان التي بني عليها الإسلام مما يدل بوضوح على أنها تقع في نطاق
الضرورات القصوى لحياة الناس .
ويضاف إلى ذلك أن وجوب الصلاة وجوب ثابت في كل حال لا يخضع
للرفع أو التبديل بالعناوين الثانوية الآنفة الذكر ، فهي إذن ضرورة قائمة لكل
الناس وفي كل الظروف ، حتى أن الله عز وجل يعلم الرسول صلى الله عليه وآله والمؤمنين
كيف يؤدون الصلاة في حالات الخوف وساحة المعركة كما في الآيات 101
103 من سورة النساء .
وفي السنة الشريفة أن ( الصلاة لا تترك بحال ) وأن على من يعالج الغرق
أن يؤدي صلاته بما يستطيع ولو بأن يتوجه بقلبه ويومئ للركوع والسجود
إيماء . وهل أحد أحوج منه إلى الصلاة ؟ .