يتناول الإسلام في نصوصه وتشريعاته المسألة الفكرية والاجتماعية
( العقيدة والنظام الاجتماعي ) من مستويات متعددة ومن زوايا متعددة .
يتناولها من مستوى اجتماعي فيخاطب المجتمع المتكون من أفراد وعلاقات .
ويتناولها من مستوى فردي لأن الفرد أساس المجتمع . وعلى هذا المستوى
يتناول المسألة من عدة أبعاد . ذلك أن أبعاد شخصية الإنسان متعددة وأبعاد
الظروف المحيطة به كذلك ، فالإنسان كالجوهرة الكثيرة الأضلاع والزوايا تحيط
بها ظروف كثيرة الأضلاع والزوايا ، ولا بد أن يلقى الضوء على الزوايا
المختلفة لكي تستوفي الصورة ويستكمل الغرض .
وقد رأينا في الفقرة المتقدمة كيف يتناول الإسلام المسألة من زاوية التذكر
والنسيان ، وهما بعدان في عقل الإنسان وإرادته . وفي هذه الفقرة نرى كيف
يتناول الإسلام المسألة من البعد الزماني والمكاني المحيط بالإنسان ، أي من
زاوية علاقة الإنسان بالغيب . ودور الصلاة في هذه العلاقة .
معنى الغيب والشهادة
الموجودات في نظر الإسلام ثلاثة أقسام :
كائن طبيعي مشهود عالم الشهادة
كائن طبيعي غير مشهود عالم الغيب
كائن غير طبيعي وغير مشهود عز وجل .
فالقسم الطبيعي المشهود هو ما تصل إليه أجهزة حواسنا ( جهاز إدراكنا )
كالأرض وما نراه من فضاء وكواكب ونجوم . ونسبة هذا العالم إلى العوالم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 38 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الطبيعية غير المشهودة كنسبة البيضة إلى الأرض ( كما ورد التمثيل بذلك في
حديث شريف ) .
والقسم الطبيعي غير المشهود يشمل عوالم : الجنة ، والنار ، والملائكة ،
والجن وعوالم المخلوقات الأخرى التي ورد في الحديث أنها كثيرة ومتنوعة .
وأكثر هذه العوالم شبها بنا على ما يبدو عوالم الأرضين ، الأربع حيث ورد في
النصوص الشريفة أن خمسا من الأرضين السبع معمورة واثنتين خرابان .
والأقرب لنا من الجميع عالم الجن الذي يشترك معنا في جملة من الصفات
العامة من الخلق والتكليف وأصول الرسالة الإلهية ، ولذلك يخاطبنا الله تعالى
معا في عدد من الآيات .
وهذا القسم الشاسع من عوالم الطبيعة الغائبة يكتنف عالمنا المشهود عالم
البيضة ويتلابس فيه بنوع من التلابس .
وأما القسم الثالث الكائن غير الطبيعي ، فهو الموجود بذاته سبحانه
والموجد للعالم الطبيعي المنظور وغير المنظور . وهو عز وجل وجود متفرد يكتنف
العالمين أجمع ويتلابس فيها بنوع من التلابس .
هذي هي الخطوط العامة للصورة التي يقدمها الإسلام عن الكون
ككل . وإن التعبير القرآني بالشهادة والغيب أصح من تعبير الفلاسفة بالطبيعة
وما وراء الطبيعة ، وذلك لأن كلمة الطبيعة تشمل المشهود وغير المشهود بينما
يقصد منه الفلاسفة خصوص الطبيعة المشهودة . كما أن ما وراء الطبيعة
يقصدون به الموجود غير الطبيعي كليا ، على أن ما وراء الطبيعة هذا قد يكون
طبيعة غير مشهودة وقد يكون غير الطبيعة كليا ( الله تعالى ) .
ومن النتائج الملحوظة لهذا اللبس لدى الفلاسفة المحدثين أنهم يفترضون
مسبقا في اصطلاح ( ما وراء الطبيعة ) أنه كائن غير طبيعي ، مع أنه لا محتم
لذلك .
إن الغيب هو القسم الأكثر والأكبر من الوجود ، فإن ما نشهده من
الوجود هو الأقل وما لا نشهده هو الأكثر . ( لخلق السماوات والأرض أكبر
من خلق الناس ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 39 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما الوجود الخالق سبحانه وتعالى فلا يقاس به شئ ( وسع كرسيه
السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما ) .
الترابط بين الشهادة والغيب
إن التقنين والترابط كما هو حقيقة سائدة في عالمنا المشهود وفي عوالم
الطبيعة غير المشهودة كذلك هو حقيقة سائدة بين عوالم الشهادة والغيب أيضا .
( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما - إلا بالحق ) 85 الحجر ، فالطبيعة
المشهودة والغائبة مركب كلي تترابط كافة أجزائه ببعضها وتتفاعل في ظل قوانين
موحدة شاملة ، وما مثل المشهود والغائب من الطبيعة إلا كمثل الجسد المنظور
والنفس غير المنظورة فكما أنهما كيان مترابط موحد تتبادل أجزاؤه التفاعل في
ظل قوانين موحدة ، كذلك يؤلف المنظور وغير المنظور من الطبيعة كلا موحدا
تتبادل أجزاؤه التفاعل . ومجرد عدم اكتشاف أبعاد هذا التفاعل لا ينفي واقعه
كما أن عدم اكتشاف قانون الجاذبية وقانون ترابط الجسد والنفس لم يكن يلغي
واقعهما ونتائجهما .
لقد قرر الإسلام هذا التلابس القائم بين الشهادة والغيب وأوضح لنا
جوانب كثيرة من هذه العلاقة أهمها وأكثرها أثرا في حياتنا : علاقة سلوك
أحدنا بتكوين نفسه للنشأة الثانية حيث يتقرر بموجب هذه العلاقة ظرف
العيش الذي نؤهل له أنفسنا في عالم الجنة أو عالم النار .
ثم علاقة الملائكة بحياة الإنسان وهي علاقة واسعة .
ووقوع الإنسان بسوء سلوكه تحت تأثير الأشرار من الجن .
وعلاقات أخرى للطبيعة المنظورة بكلها غير المنظور ، لسنا هنا بصددها .
أما عن علاقة الشهادة بالموجود غير الطبيعي عز وجل فقد أوضح الإسلام
ذلك أشد إيضاح مؤكدا أن التلابس والتقنين أمر قائم بين الطبيعة وخالقها
سبحانه وأن حقيقة وجود الطبيعة إنما هو وجود تعلقي متفرع عن المبدع
الحكيم جلت قدرته وأنه يتمون في حركته التطورية التكاملية من المنشئ
والمحيي الكامل الذات سبحانه .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 40 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وما القيامة في المفهوم الإسلامي إلا مرحلة كبرى من حركة الطبيعة
المشهودة والغائبة حيث تتحقق الوحدة بين عوالمها ويتم انفتاحها على الخالق
سبحانه .
ولذلك كانت القيامة ، من ناحية مرحلة النضج والاكتمال لجميع الطبيعة
بما فيها الإنسان . ومن ناحية ثانية لقاء كافة الموجودات بالخالق سبحانه بما
يناسب ذاتها ونضجها من لقاء .
علاقتنا بالغيب :
رأينا في الفقرة المتقدمة أن المسألة الفكرية والاجتماعية من زاوية مفهوم
" التذكر والنسيان " هي أن يكون الإنسان متذكرا أو ناسيا ، ومدى الجهد
الذي يبذله في استحضار القاعدة المركزية ، والاحتفاظ بحيويتها وتوجيهها .
ونرى المسألة من زاوية مفهومي الشهادة والغيب هي أن يرضى الإنسان لنفسه
بالعيش ضمن إطار ضيق من المكان والزمان أو يرتفع ليعيش ضمن إطار
أوسع يشمل الشهادة والغيب ، ومدى الجهد الذي يبذله للتعامل بهذا الأفق
الرحب .
قد يقول قائل : ما لنا وللعلاقة بالغيب وبالعالمين الأخرى والزمن الآخر ،
وما دخالة ذلك بحياة الإنسان ومشاكلها . ؟
ولكن مثل هذا الكلام الناشئ من الميل إلى الحياة بالمحدودية الزمانية
والمكانية . يؤكد أهمية وعي الإنسان لمسألة علاقته بالغيب ، ليس بسبب أنها
واقع علمي موضوعي فحسب بل لآثارها الكبيرة على حياته .
ما هو التطور الأساسي الذي طرأ على الإنسان المشرك عابد الوثن بدخوله
في الإسلام ؟ من هذه الرواية ، نجد أن الأفق الزماني والمكاني الذي كان فيه
هذا الإنسان الذي يمتد من جبهته إلى الصنم ، إلى محيط حياته الشخصية
والقبلية ، ولا يتعدى ذلك . وبمجرد دخوله في الإسلام اتسع هذا الأفق إلى
الاعتقاد برب العالمين عالم الغيب والشهادة وبالآخرة وبمسؤولية حمل الرسالة إلى
شعوب الأرض . إن البعد الزماني والمكاني الذي انتقل إليه هذا الإنسان هو
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 41 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
سر التحولات الكبيرة في دوافعه وأهدافه .
وللمزيد من التوضيح نطرح التساؤلات التالية :
ما الفرق بين المسرف والمقتصد من غير بخل ؟
الأول يعيش ضمن بعد زماني محدود ، والثاني يعيش ببعد أوسع يشمل
الشهور والسنين الآتية .
ما الفرق بين من يسكت على الظلم ويعيش لنفسه وعائلته وحاجاتهم .
الآنية ، وبين ثائر يضحي بحياته ضد الظلم ؟ .
الشخص الأول يعيش ضمن بعد مكاني وزماني محدود ، والثاني يعيش
في أفق مكاني أوسع يشمل المظلومين الذين يعمل لهم ، وفي أفق زماني أوسع
يمتد إلى المستقبل الذي يعمل لتحقيقه .
ما الفرق بين من يعمل لذاته وبين من يعمل لمجتمعه وأمته ؟ .
الفرق أن ذات الأول محدودة بشخصه وقد تضر بآخرين ، بينما بعد
الذات عند الثاني تشمل المجتمع والأمة .
ما الفرق بين من يعمل للدنيا ، ومن يعمل للآخرة . ؟
- الفرق أن البعد الزماني والمكاني لدى الأول محدود بعمره ومجال حياته
وقد يمتد هذا البعد لما بعد حياته من مجد أو ذكر حسن وما شابه ، ولكنه لا
يتعدى الأرض والحياة عليها . بينما البعد الزماني والمكاني لدى الآخر يمتد
ليشمل الآخرة والحياة في الجنة .
إن مسألة البعد الزماني والمكاني الذي يؤمن به الإنسان ويتحرك في أفقه
وما يحدث له من دوافع ومجالات وأهداف . مسألة ذات تأثير أساسي على
حياة الإنسان والمجموعة البشرية على الأرض ، تأثير على نوع الحضارة التي
يقيمها الناس ، وعلى نوع الدوافع والأهداف لكل شخص . وإذا كان كفاح
الأنبياء عليهم السلام في التذكير كفاحا من أجل اليقظة والوعي ضد الغفلة
والنسيان . فهو من هذه الزاوية كفاح ضد الميل الغريزي الطيني الذي يقوقع
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 42 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الذات في بعد زماني ومكاني محدود ونقلها إلى بعد أرحب في الزمان والمكان .
من أجل هذا اعتبر الإسلام اعتقاد الإنسان بالغيب أساسا من أصول
التدين به ، واستثار في قرآنه وسنته كل ما أودعه الله تعالى في النفس البشرية
من غرائز النزوع والأشواق في الكائن المحدود نحو المطلق عز وجل ونحو
لقائه والخلود في نعيم الحياة الآخرة . حتى أننا نجد الحديث القرآني عن
الغيب يستوعب عددا وفيرا من الآيات الكريمة ويقدم هذه الحقيقة من زواياها
المختلفة وبالأساليب المختلفة .
ولم يكتف الإسلام بذلك فحسب ، بل أدخل مفاهيم الارتباط بالله تعالى ،
والآخرة ، والثواب ، والعقاب ، في تشريعاته لمجالات الحياة المتنوعة ، حتى
لنرى البعد الزماني والمكاني في أحكام النظام الاجتماعي الإسلامي يأبى
المحدودية بمكان وزمان جيل من الناس ، أو بمكان وزمان كل الحياة على
الأرض ، بل يتحد في مساحة واحدة مع بعد الغيب والحياة الآخرة .
دور الصلاة في التعامل مع الغيب :
الصلاة هذا العمل اليومي المركز بأفعالها البدنية وتلاواتها البليغة أسلوب
فريد لنقل الإنسان من ذاته ومحيطه الصغير وزمانه القريب إلى الأفق الأرحب ،
وتحسيسه بالله تعالى وغيبه .
إن المصلي بمجرد دخوله في الصلاة بالإحرام ينتقل إلى بعد مكاني وزماني
جديدين ويتعامل معهما ، ولا نجد مصليا يفقه شيئا من صلاته إلا ويحس بهذه
الحقيقة ويتأثر بها .
إن أهمية الصلاة في تحسيس الإنسان بمسؤوليته في الأرض وتصحيح
مسيرته وأعماله كبيرة دون شك ، ولكنها تأتي من تحسيسه بالله تعالى وبالآخرة
وإعادة المفاهيم الإسلامية والمقاييس الإسلامية الرحبة إلى وعيه وشعوره .
إن مفاهيم المسلم عن الارتباط بالله تعالى والتوجه إليه ، وعن التطلع
والاشتياق إلى الآخرة ، ومفاهيمه في السمو عما ينزل إليه الناس من متاع الدنيا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 43 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وسفاسفها ، ورفرفات روحه نحو الملأ الأعلى . وغيرها من المفاهيم الراقية
المؤثرة في رقي سلوكه وتعامله . هذه المفاهيم تتزود بحيوية خاصة من فريضة
الصلاة اليومية .
وهل أبلغ في جعل الغيب مجسدا يحسه الناس ويتعاملون معه ، من عملية
الصلاة الواعية وأفقها الشاسع ، التي يجعلها الإسلام مظهرا يوميا لحياة المسلم
والمجتمع الإسلامي فتبني لأجلها المساجد وتترك لأدائها الأعمال وتقسم
بموجبها الأوقات ، ويتطهر لأجلها بالماء . وتؤدى باستمرار في وسط النهار
وأطرافه .
إن الصلاة هي الاصرار الواعي والمعالجة المستمرة للنفس البشرية من
أجل أن تتحرر من الاستغراق في المتاع القريب وتوسع أفقها الزماني والمكاني
لتكون على مستوى حاجاتها الفعلية والمستقبلية * ، على الأرض وفي الآخرة ، إنها
استمداد المحدود من المطلق حياة وسعة في أبعاد ذاته وزمانه ومكانه . وهي
بالتالي ظاهرة من معالم الحضارة المتميزة التي يدعو الإسلام لبنائها على الأرض
ممتدة بأفقها إلى جميع الناس وإلى مستقبل الأجيال على الأرض ، ومستقبل
الناس في الحياة والآخرة .
وأي شئ يفي بالتحسيس على الغيب كالصلاة . هذه الدقائق العميقة
الثرية . الميسرة لكل الناس
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 44 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 45 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -