للنسيان ثلاثة معان :
1 النسيان اللغوي العرفي : بمعنى زوال صورة الشئ الشئ المادي أو
الفكرة أو الشعور من ذهن الإنسان زوالا وقتيا أو نهائيا . وهو تارة نسيان
بسيط ينسى الإنسان فيه الصورة ويتذكر أنه ناس لصورة ، وتارة مركب حيث
ينسى الإنسان الصورة وينسى أنه ناس لصورة . وهذا النسيان ظاهرة عامة في
الجنس البشري وتفاوت الناس فيه غير كبير في العادة ، وهو ينشأ عن عوامل
متعددة ترجع بالنتيجة إلى محدودية استيعاب الذهن البشري ، على أن طاقة
ذهن الإنسان على الإستيعاب هائلة .
وقد رفع الله تعالى مسؤولية الإنسان عن النسيان بهذا المعنى ، فقد ورد
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : " رفع عن أمتي تسع : الخطأ ،
والنسيان ، وما اضطروا إليه ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون . . الخ " .
وقد يقال : إن النسيان أمر غير إرادي فهو داخل في قوله صلى الله عليه وآله : وما لا
يطيقون ، فكيف عد أمرا مستقلا في الحديث الشريف ؟
والجواب : أن الأمر المنسي وإن كان التكليف به بالنتيجة تكليفا بغمر
المقدور وهو داخل في " ما لا يطيقون " ولكن يمكن تكليف لم الإنسان بمقدمات
النسيان الإرادية بأن يحصن معلوماته ويرفع مستوى تذكره واستحضاره للأمور
إلى الحد الذي تراه الشريعة المقدسة ضروريا . إن نسبة كبيرة من مقدمات
النسيان داخلة تحت إرادة الإنسان ، ولما كان من حق الشريعة وضع التكليف
بشأنها كان من سماحتها رفعه كما نص الحديث الشريف .
2 - النسيان بالمعنى الفلسفي المتبنى لأفلاطون والفلاسفة الذين أخذوا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 26 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بنظريته في الاستذكار والمثل . ومحصل هذه النظرية أن الإنسان كان قبل وجوده
على الأرض يعيش في عالم مجرد غير مادي هو عالم المثل ، وكان وعيه
واستحضاره للأشياء والأفكار كاملا ، ولكنه بهبوط روحه وحلولها في الجسد
يفقد معلوماته دفعة واحدة . ثم يبدأ باستعادة بعض معلوماته وتذكرها .
وقد أخذ بهذه الفرضية أكثر الفلاسفة المسلمين ، ما عدا صدر المتألهين
الشيرازي قدس سره الذي توصل إلى نظرية الحركة الجوهرية الشهيرة القاضية
بأن روح الإنسان وجسده مخلوقان من التراب وقد مرا بحركة داخلية في
جوهرهما وافترقا في نوع النمو والتطور فخرجت النفس عن قواعد المادة
المعروفة وبقي الجسم خاضعا لهذه القواعد ، ولكنهما بقيا مؤتلفين منسجمين .
وهذه النظرية في وحدة أصل الروح والجسد المنسجمة مع آيات القرآن الكريم
في خلق الإنسان من تراب تقضي بأن المعلومات تحدث للإنسان بتوفر شروطها
من نمو الجسد والنفس ، وليست استرجاعا واستذكارا لما كان يعلمه من قبل
( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع
والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) النحل 78 .
3 النسيان بالمعنى القرآني : وقد ورد استعمال النسيان في القرآن الكريم
بالمعنى العرفي المتقدم كقوله تعالى : ( واذكر ربك إذا نسيت ) ( لا يضل ربي
ولا ينسى ) .
لكنا نقصد بالمعنى القرآني المعنى الآخر للنسيان الذي وردت الآيات
الكريمة في ذمه والنهي عنه والتحذير من العقاب الخطير الذي يترتب عليه .
قال الله عز وجل .
( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) 19 الحشر .
( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ) .
57 - الكهف .
( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) 126 طه .
( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ) 34 الجاثية .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 27 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهذا المعنى من النسيان الذي يرد كثيرا في آيات القرآن الكريم وأحاديث
السنة الشريفة في مقابل " الذكر والتذكر " ينبغي أن نسميه " النسيان
العملي " وهو يختلف عن النسيان العرفي المسموح به في الإسلام ، كما أنه لا
يتصل في شئ بالنسيان الأفلاطوني .
والنسيان بالمعنى العملي مبني على أساس النظرة الإسلامية للإنسان التي
تقضي بأن الإنسان مزود بفطرة وعقل ، يدفعانه لأن يعرف عددا من الحقائق
ويعمل وفقها ، وأول هذه الحقائق أن يعرف ربه وشريعته المنزلة إليه . فإذا لم
يسلك الإنسان هذا الطريق الطبيعي في المعرفة والعمل فهو معرض عن
الحقائق التي أمامه وناس لها . وإذا سلك هذا المنهج في المعرفة والعمل فهو
متذكر .
فالتذكر والنسيان بهذا المفهوم عملان إراديان للإنسان ، وسلوكان يواجه
بهما الحقائق التي يملك قوة الاهتداء إليها في فطرته وعقله .
أما لماذا سمى القرآن الكريم السلوك السلبي نسيانا مع أنه مخالفة متعمدة
للفطرة والعقل وإعراض متعمد عن الحقائق القائمة . ؟ فالذي يبدو من
نصوص الإسلام أن اختيار التسمية أو المصطلح ليس فقط بسبب أن هذا
السلوك السلبي والإعراض إهمال وتناس بل لأنه ينتج عنه نسيان حقيقي عملي
ونظري ، فالمعرضون والغافلون والناسون لربهم تعالى ولما قدمت أيديهم ولليوم
الآخر ، وهم ناسون حقيقة . ولكنه نسيان مدان إسلاميا لأنه ثمرة طبيعية لمخالفة
نداء الفطرة والعقل ثم نداء أوامر الله ونواهيه .
وهذا " النسيان " الخطير على شخصية الإنسان مرة يكون في أصل الإيمان
بالله تعالى ورسالته فيكون مساويا للكفر والنفاق . . ومرة يكون في تطبيقات
الشريعة على السلوك فيكون مساويا للمعاصي والذنوب من المسلمين ، كما في
قوله تعالى عن المؤمنين ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) 286 البقرة .
وكل منهما درجات متعددة يمكن ملاحظتها في مادة " نسي " و " ذكر " في
القرآن الكريم .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 28 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وهكذا يكون مفهوم التذكر والنسيان قضية أساسية يجعلها الله تعالى
مصطلحا ويطرح الإسلام من زاويتها ويسميه " ذكرا " ويسمي المستجيبين له
" متذكرين " ويسمي الكافرين به والمنحرفين عنه " ناسين " .
الصلاة ومعالجة النسيان
كيف يعالج الإسلام " حالة النسيان " الخطيرة في الإنسان ؟
طبعا ليس السؤال عن علاج يكون ضمانا كاملا لتذكر الإنسان وعدم
نسيانه ، لأن الضمان في هذا المجال يعني الاجبار أو شبه الاجبار على التذكر
العقيدي والسلوكي ، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، ولكنه
تعالى لم ينشئ عالم الإنسان على هذا الأساس بل على أساس إبقاء معادلة
التذكر والنسيان قائمة ، كي يكسب الإنسان بإرادته ومعاناته فضيلة الاهتداء ،
ويتحمل بسوء إرادته مسؤولية الكفر والمعصية . بل نجد في كثير من نصوص
الإسلام ودلائل العقل وآيات الحياة أن مسألة التكامل بالمعاناة ، والتناقص
بسوء الاختيار قانون ثابت لا يمس : ( ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير
ممنون ) .
فالمعالجة الإسلامية لحالة النسيان إذن مجالها فيما دون الضمان الكلي
الاجبار أي في تهيئة الأجواء المتعددة المحيطة بالإنسان من عالمه الداخلي
والخارجي التي تساعده وتدفعه إلى التذكر .
أما القسم العقيدي من هذا النسيان ، ويرافقه النسيان السلوكي طبعا ،
بمعنى نسيان الإنسان لربه وآخرته فيعالجها الإسلام فيما يعالجها ب " الذكر " أي
بالقرآن وما فيه من آيات الدعوة إلى الإيمان التي لا تدع أفقا من آفاق التذكر
إلا وتفتحه ولا لونا من ألوان معالجة النسيان إلا اتبعته : فمنها ما يلطف حتى
يلمس أعماق القلب فيضيؤها ، أو أعماق النفس فيثيرها . ومنها ما يشف
حتى يجري الدمعة الحري ، أو يرفرف بالروح في الملأ الأعلى . ومنها ما يضع
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 29 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
يد الإنسان على مكنون نفسه وأسرار محيطه وحقائق حياته . . ومنها ما ينزل
على هذا الغافل خطابا منصبا من أعلى السماوات . ومنها ما يقرع أعماق
هذا الناسي وجلده بالمقارع . وما يتذكر إلا من ينيب .
وليست معالجة حالة هذا " النسيان الأكبر " من صلب حديثنا عن الصلاة ،
فالصلاة يأتي دورها في معالجة " النسيان السلوكي " الذي يتعرض له الإنسان
بعد تذكره العقيدي وإيمانه بالله تعالى ورسوله واليوم الآخر ، فيعرض عن
تطبيق شريعته و " ينسى " أوامر الله ونواهيه في سلوكه . أي أن دور الصلاة
هو في معالجة حالة الانحراف في المسلمين أو الوقاية منها ما شئت فعبر وهو
دور هام جدا لأن الانتقال من الكفر إلى الإسلام ، من حالة النسيان الكبرى
إلى التذكر العقيدي ، يبقى انتقالا شكليا ما لم يتم معه التذكر السلوكي .
إذا نظرنا إلى المجتمع الإسلامي نجد أن الضمانات النسبية التي يعتمدها
الإسلام لتطبيق أحكامه وقوانينه متفوقة في الكم والنوعية على الضمانات التي
تعتمدها كل المبادئ المعروفة بما فيها أحدث المبادئ والتشريعات في إقامة
المجتمعات والدول .
فهناك ضمانة السلطة ، ففي الحديث الشريف " أما أنه لا بد للناس من
سلطان ، وأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن . . " وهذه الضمانة مشتركة
في أصلها بين الإسلام وغيره .
وهناك ضمانة ضمير التقوي في المسلم ، ويقابلها في المبادئ الأخرى ما
تستطيع أن تحققه في نفس أفرادها من ضمير بقيمها إن كانت ، وبقايا الفطرة .
وهناك ضمانة المجتمع ، المتمثلة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
التي يتفرد بها الإسلام ، والتي هي مشاركة شعبية كاملة ومسؤولية عن سلوك
الدولة والأفراد .
هذه الضمانات النسبية الثلاث تشكل أجواء هامة تحيط بالإنسان المسلم
فتعالج فيه حالة " النسيان السلوكي " وتذكره بالسلوك القويم . ولكن موقع
الصلاة من هذه الضمانات كما تدلنا نصوص الإسلام يأتي في القلب منها
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 30 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
جميعا ، ففي الحديث الشريف " ما من شئ بعد المعرفة أفضل من الصلاة " .
وحتى لو قلنا بأن كل الضمانات الإسلامية لاستقامة المسلمين ترجع إلى
ضمير التقوى في المسلم ، لأن الفرد هو اللبنة الأساسية في المجتمع ، والمجتمع
ليس إلا الأفراد والعلاقات الناشئة عنهم . فإن الصلاة في الإسلام تبقى هي
القلب والجوهر لأعمال المسلم كلها . فلماذا كانت قلب التقوى وخير أعمال
المسلم بعد الإيمان ؟
إن دفعة التذكر التي تعطيها الصلاة ذات قيمة تذكيرية عالية . لأنها تتركز
على تذكير الإنسان وربطه بالله عز وجل . وبما أن القاعدة المركزية في
الإسلام هي الاعتقاد بالله عز وجل منزل هذا الدين ، وبما أن كافة مفاهيم
الإسلام وأحكامه مبنية ومتفرعة عن الاعتقاد بالله تعالى وصادرة عنه ومبلغة
بواسطة رسوله صلى الله عليه وآله . فإن استذكر الإنسان هذه الحقيقة
العظمى باستمرار واستحضرها وترسخت في فكره وقلبه . فقد أصبح أكثر ما
يكون استعدادا للانسجام معها والابتعاد عما يخالفها . بل وأمكن أن يتحول
استذكاره لله تعالى إلى حضور موجه دائم يعيش المسلم معه ويطبق توجيهه في
كل الأمور .
صحيح أن الالتزام بتذكر الله تعالى وأحكامه في سلوك الإنسان أمر
صعب ، فهو يملك عوامل إيجاب كثيرة في فطرة الإنسان ونفسه وحياته
وعقيدته . لكن المشاغل والملهيات والمشوشات في حياة الإنسان تكاد تكون
أكثر وأكبر . خاصة إذا كانت حياة المسلم حافلة بالظلم والآلام والمتاعب
والهموم والمغريات ، كما في عصرنا الحاضر .
إلا أن عملية الاستذكار برغم الظروف الداخلية والخارجية المحيطة تبقى
في رأي الإسلام صعوبة لا بد منها ، لأنها ضرورة معاناة الإنسان في تكامله ،
عن الإمام الصادق ( ع ) قال " أشد ما فرض الله على خلقه ثلاث :
إنصاف الناس من نفسك ، ومواساتك أخاك ، وذكر الله في كل موطن . أما
أني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وإن كان هذا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 31 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
من ذاك ، ولكن ذكر الله عز وجل في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو
معصية " الكافي ج 2 ص 145 .
فاستذكار الله تعالى في السلوك صعوبة تقع في صف صعوبة الإنتصار على
الذات وصعوبة حب الناس ومواساتهم . ومن أجل هذه الصعوبة الضرورية
غمر الله عز وجل الإنسان بالإشفاق ووضع له التشريعات التي تذللها
وتيسرها :
وقد تمثل الاشفاق :
بغفران السيئات والتوبة على التائبين :
وبجعل السيئة بواحدة والحسنة بعشرة أمثالها .
وبمواصلة إرسال المذكرين من الأنبياء والرسل .
وبالكتب المنزلة التي يسميها عز وجل بالذكر ، وبوجود الأئمة والعلماء في
كل جيل .
وبكثير من ألطافه عز وجل .
وتمثلت التشريعات التربوية مضافا إلى عنصر تربية المسلم على ذكر الله
تعالى في كل مفاهيم الإسلام وتشريعاته ، بتشريعين خاصين : أحدهما تشريع
التفكير ، أي التأمل العقلي والشعوري في جميع الأشياء والاستنتاج منها . قال
عز وجل : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات
لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم . ويتفكرون
في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب
النار . ) 190 191 آل عمران .
وعن الإمام الصادق ( ع ) قال " أفضل العبادة التفكر في الله عز وجل وفي
قدرته " .
وعن الإمام الرضا ( ع ) قال " ليس العبادة كثرة الصلاة والصيام . إنما
العبادة التفكر في أمر الله عز وجل " يقصد عليه السلام كثرة الصلاة والصيام
بدون تفكر .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 32 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وعن أمير المؤمنين ( ع ) قال : " إن التفكير يدعو إلى البر والعمل به "
الكافي ج 2 ص 55 .
والنصوص الإسلامية من القرآن والسنة التي تؤكد على التفكير وإعمال
العقل وتشيد بهذه العبادة وتندد بمن لا يؤديها . وتبلغ في وفرتها مادة لكتاب ،
وقد قام المرحوم العقاد بمحاولة لتقديم فريضة التفكير هذه في كتابه " التفكير
فريضة إسلامية " .
وثاني التشريعين : الصلاة اليومية ، أكبر عملية تركيز عقلي وشعوري
لاستذكار الله وأحكامه في عملنا اليومي . قال الله عز وجل " أقم الصلاة إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . ولذكر الله أكبر . والله يعلم ما
تصنعون ) 45 العنكبوت .
نرى أنه سبحانه يعبر عن هذه الحقيقة بيسر وبداهة فيسمي الصلاة
" ذكرا " لوجوده وتوجيهاته في الأمور ، ويفهمنا عز وجل أن تذكر وجوده الذي
هو القاعدة الأساس لمنهجه الكامل هو طاقة الدفع لاستقامة المسيرة والضمان
من الإسفاف والانحراف ، وإن هذا التذكر إذا حافظنا على حيويته أكبر
فاعلية في السلوك نحو الأهداف الإسلامية من كل مؤثرات الانحراف على
شخصية المسلم .
وبيسر وبداهة يوضح لنا الرسول الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وآله موقع
الصلاة في الحفاظ على نضارة شخصية المسلم من المؤثرات اليومية المختلفة ،
في مثل بليغ يقوله فيه :
" أيسر أحدكم أن يكون على باب داره حمة يغتسل منها كل يوم خمسة
مرات فلا يبقى من درنه شئ ؟ قال الحاضرون : نعم ، فقال صلى الله عليه وآله أنها
الصلوات الخمس " الوسائل ج 3 ص 2 .
كذلك هو حال النفس البشرية مع المؤثرات السلبية الداخلية والخارجية .
أنها لا تلبث نصف نهار حتى تشوب نقاءها الأدران حتى لتكاد تحجب عنها
إحساسها بالله تعالى ومفاهيم دينه وأحكامه ، فتحتاج إلى اغتسال بالنبع المعدني
الحار ، الصلاة ، ليعود إليها نقاؤها من جديد ويعود تذكرها وهداها غضا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 33 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
نضرا فتقطع شوطا آخر مستقيمة في السلوك والأهداف .
عن الإمام الصادق والإمام الرضا ( ع ) في جواب السؤال عن فائدة
الصلاة مع أن فيها " مشغلة للناس عن حوائجهم ومتعبة لهم في أبدانهم " على
حد تعبير السائل : " إن علة الصلاة أنها إقرار بالربوبية . ومداومة على ذكره
بالليل والنهار ، لئلا ينسى العبد سيده ومدبره وخالقه فيبطر ويطغى ، ويكون
ذكره لربه وقيامه بين يديه زاجرا له عن المعاصي ومانعا له عن أنواع الفساد " .
الوسائل ج 3 ص 4 " من مجموع نصين " .
إن الحاجة إلى فكرة مركزية تملأ ذهن الإنسان ومشاعره ، وتدفعه إلى
العمل وتوجه سلوكه ، حاجة إنسانية يشعر بضرورتها كل الناس ، بل نستطيع
القول أنه لا يوجد إنسان إلا ويحمل فكرة مركزية تدفعه إلى العمل وتوجه
سلوكه ، أيا كانت هذه الفكرة . والإسلام لم يضف هذه الحاجة إلى حياة
الإنسان ولكنه لباها ، ودعا إلى اعتماد فكرة توحيد الله عز وجل قاعدة تدفع
إلى العمل وتوجهه . بينما اعتمدت المبادئ الأخرى أفكارا أخرى جعلتها
القاعدة والمحور ، أو تركت الإنسان يتخذ من ذاته وهواه فكرة مركزية ودافعا
وهدفا .
فالشيوعية حينما تقدم فكرتها المركزية - الاعتقاد بالديالكتيك والصراع
الطبقي تريدها أن تكون المالئة لذهن الإنسان والدافعة له إلى الصراع
والسلوك .
والصهيونية حينما تقدم فكرتها المركزية العنصر اليهودي المختار تريدها
أن تكون الدافعة والموجهة لسلوك اليهود ومكائدهم .
والمسيحية فكرتها المركزية تجسد الله تعالى بالمسيح وتكفيره عن خطيئة البشر
الموروثة بالصلب . الخ .
والوجودية قاعدتها المركزية لا مسؤولية الإنسان عن أن يحقق وجوده بما
يهوى . والديمقراطية الرأسمالية فكرتها المركزية حرية الإنسان في سلوكه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 34 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفردي والاقتصادي والسياسي . أي الحرية للمجتمعات الاستعمارية ،
وليست للمجتمعات المستعمرة طبعا .
وهكذا . أي الحرية للمجتمعات الاستعمارية ، وليست للمجتمعات
المستعمرة طبعا .
وهكذا . فإن العيش بطريقة أي مبدأ لا تتم للإنسان إلا بأن يستحضر
في عقله ونفسه ( القاعدة المركزية ) لذلك المبدأ ويجعلها هي الدافع له لأهدافه
والموجه لأعماله .
ومن الفارق بين المبادئ في نوعية أفكارها المركزية التي تعمل لتركيزها في
أذهان الناس ، تنتج الفوارق في تجسيد طريقة العيش المطلوبة للمبدأ . تبعا
لصحة تلك الفكرة وخطأها ، وسعتها وضيقها ، وصحة انبثاق المفاهيم
والتفاصيل لحياة الإنسان عنها وتبعا لانسجامها مع تكوين الإنسان وفطرته
وصلاحيتها لدفع الإنسان نحو الهدف وتقويم سلوكه بمفاهيمها .
ولا يدخل في موضوعنا تقييم الأفكار المركزية الأخرى التي تريد المبادئ
غير الإسلام جعلها المحور لحياة الإنسان ، وتفصيل الفوارق الكثيرة بينهما .
ولكن غرضنا أن نوضح أهمية فكرة وحدانية الله عز وجل التي هي القاعدة
المركزية في الإسلام ، ومدى دور الصلاة في تركيز هذه القاعدة وملء كيان
الإنسان بها ، ودفعه بطاقتها الهائلة إلى الهدف وتوجيه سلوكه بموجبها .
إن مثل الإنسان والصلاة كمثل راكب في سفينة وليس لديه ما يعين له
اتجاهه إلا مواقع النجوم وهو مصاب بداء نسيان شديد بسبب طبيعته وظروفه
إلى حد أنه ربما ينسى اتجاهه الذي حدده قبل خمسين ميلا ؟ .
أفترى يستقيم أمر هذا الرجل إلا أن يقف مرة كل أربعين ميلا يطل من
نافذته ويتأمل الأفق فيعين اتجاهه من جديد ؟ كذلك الإنسان والصلاة حرفا
بحرف .
إن احتمال ضياع الإنسان في بحر الحياة أضعاف احتمال ضياعه في بحر
الماء . وليس لديه ما يعين له اتجاهه إلا هدى خالقه عزو جل .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 35 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
وداء نسيانه لربه وأهدافه يصل به إلى حد أن ينسي اتجاهه الذي حدده
في صباح يومه . أفترى يستقيم أمر هذا الإنسان إلا بوقفات طوال الطريق
يتأمل فيها الوجود ويعرف موقعه منه ويتكلم مع مليكه عز وجل ليؤكد اتجاهه
من جديد ويستمر في مسيرته على هدى ؟ .
إن داء النسيان للقاعدة والهدف هو خصيصة طبيعية للإنسان لكنها
خصيصة إنسانية الإنسان وسر قدرته على الجهد والمعاناة آخذا بيد نفسه إلى
تكامله ، مربيا نفسه على الاحتفاظ بالقاعدة المركزية التي آمن بها واتخذها محورا
لوجوده بوقفات ترو وتجديد للميثاق مع الله . وقفات هي سند للقلب وزاد
المسير ، جاءت بصيغتها الإسلامية الخالدة آية في العطاء والإبداع ، شكلا
ومضمونا .
المبدأ أي مبدأ ، ما دام طريقة عيش لهذا الكائن الناسي فلا بد أن
يتضمن عملا تركيزيا دائبا يمكن الإنسان من مواكبته في حركته الدائبة .
والفرق كبير بين حاجة المبدأ إلى الإعلام ووسائله المتنوعة ، وبين حاجته
إلى عملية تربوية من هذا النوع . فالإعلام حاجة من أجل إيصال القاعدة
والمفاهيم والقوانين إلى الأذهان حاجة من أجل الاقناع النظري ، وهي
ضرورة كبيرة دون شك ، ولكن الضرورة الأكبر منها هي التركيز التربوي في
تعامل الإنسان بالمبدأ ، والتركيز هذا لا بد أن يقوم به الإنسان نفسه ، أن
يتبناه في معاناة ذاتية يومية يؤكد فيها اعتقاده بالمبدأ ويشرب عروقه بمفاهيمه .
وذلك ما لا تنهض به وسائل الإعلام مجتمعة .
قد يمكن للمبادئ غير الإسلامية أن تضع لنفسها صلوات وتفرض أدائها
على الشعوب المؤمنة بها والخاضعة لها ، ولكن أنى لها بالقاعدة الفكرية المركزية
الصالحة التي تستطيع أن تحقق بها النجاح في صلواتها كما استطاع الإسلام
ويستطيع أن يحقق بصلاته .
إنه مهما امتلكت هذه المبادئ من وسائل الإعلام ومهما ابتكرت للحفاظ
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 36 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
على أسسها في أنفس الناس من طرق تركيز تربوية . فستبقى مخفقة في تحقيق
إيمان حيوي بها وتعامل حقيقي صادر عنها ما دامت فاقدة للقاعدة المركزية
الفريدة التي يقوم عليها الإسلام ، ولطريقة التركيز الفريدة التي وضعها
الإسلام .
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل .