معنى العبادة
للعبادة أربعة معان :
1 المعنى اللغوي ، والمحصل من كتب اللغة العربية أن كلمة " عبد "
تعني مزيجا من الطاعة والخضوع ، وكلمة العبادة تعني العمل الذي يطاع به
المعبود ، كما نجد في مراجع اللغة كأساس البلاغة ، ولسان العرب ، وتاج
العروس . ومن ذلك استعملوا كلمة عبد بالتشديد فقالوا : عبد الطريق وعبد
الشخص ، بمعنى أخضعهما وذللهما .
وبهذا المعنى لا تشمل العبادة كل سلوك الإنسان ولا يسمى الإنسان عابدا
إلا إذا أطاع في عمله معبودا ، إلها أو شخصا ، وأما إذا كان عمله إطاعة لأمر
نفسه مثلا وليس إطاعة لأمر أحد فلا يسمى عبادة .
2 المعنى القرآني ، أو المفهوم الإسلامي للعبادة ، حيث تتسع دائرة المعنى
في ( مادة عبد ومشتقاتها ) فتشمل كل أعمال الناس ، فما السلوك البشري في
رأي هذا المفهوم إلا استجابة خاضعة ، والاستجابة الخاضعة هي العبادة ،
والناس كلهم جميعا عابدون أتقى المؤمنين وأكفر الكافرين في ذلك سواء ،
فألوان سلوكهم استجابات لأمر آمر وإنما الفرق في نوعية المعبود ، فبعضهم
عبد شخصا ، وبعضهم عبد هواه ، وبعضهم عبد الشيطان ، وبعضهم عبد
وثنا ، وبعضهم عبد الله الواحد الأحد .
يدلنا هذ الشمول في مصطلح العبادة الإسلامي :
أ - عدة آيات سمت الدعوة إلى الإسلام دعوة - إلى عبادة الله ، كقوله تعالى :
( قال يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله )
64 آل عمران ، وقوله تعالى : ( قل إني أمرت أن أ عبد الله مخلصا له
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 8 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الدين ) 11 الزمر . . وهذه الدعوة إلى عبادة الله تعالى تعني الدعوة إلى
إطاعة كافة المفاهيم والشرائع الإسلامية .
ب - قوله تعالى ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا : مكانكم أنتم
وشركاؤكم فزيلنا بينهم . وقال شركاؤهم : ما كنتم إيانا تعبدون فكفى
بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) 28 29 يونس .
فقد اعتبرت الآيتان إطاعة الأتباع لأسيادهم عبادة لهم وإن لم يشعروا بها .
ج - بعض النصوص التي فسرت معنى العبادة في القرآن الكريم ، منها عن
الإمام الصادق ( ع ) في تفسير قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أربابا من دون الله . ) قال : أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو
دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم . ولكن أحلوا لهم حراما ، وحرموا
عليهم حلالا فأطاعوهم ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون .
وفي نص آخر عنه ( ع ) قال " ومن أطاع رجلا في معصية الله فقد
عبده " الكافي ج 2 ص 398 .
د - قوله تعالى : ( يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصيا )
44 مريم حيث اعتبر عبادة آزر للصنم عبادة للشيطان لأنه المؤثر
الخارجي على النفس ، فكان هو المعبود بالحقيقة ( 1 ) .
ه - قوله تعالى : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، أفأنت تكون عليه وكيلا ) 43
الفرقان حيث اعتبرت أهواء النفس إلها معبودا .
من هذه الآيات المتقدمة وغيرها يتضح أن مصطلح العبادة الإسلامي
يشمل كل عمل يقوم به الإنسان حتى ما كان استجابة للشيطان والدوافع
* ( الهامش ) * ( 1 ) ورد في القرآن الكريم تعبير إبراهيم ( ع ) عن آزر بالأب لأنه كان عمه ومربيه . وقد ورد عن أئمة
أهل البيت ( ع ) أن الأب هنا ليست بمعنى الولد بدليل قوله تعالى ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا
عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) 114 التوبة وقد وقع هذا الاستغفار وبعده
التبرؤ في بابل قبل هجرة إبراهيم ( ع ) . ثم ذكر تعالى استغفار إبراهيم لوالديه عند بناء البيت المحرم في
أخريات حياته ( ربنا اغفر لي ولوالدي ) 41 إبراهيم فلزم أن المستغفر لهما ( الوالدين ) غير المتبرأ
منه . ويؤيد ذلك توسع العرب في استعمال كلمة الأب دون الوالد .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 9 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والنوازع النفسية ، فكل أعمال الناس بهذا المعنى عبادات ، والعبادة التي
دعا إليها الإسلام تعني صدور كافة أعمال الناس عن أوامر الله تعالى
ونواهيه . فالمجتمع المسلم الذي يستجيب لهذه الدعوة ويصدر في سلوكه
عن أحكام الإسلام مجتمع عابد لله في كل النشاطات اللازمة لحياته ،
سواء في ذلك تطبيقه لصيغة الحكم الإسلامي ، وتصريف الجهاز الحاكم
لقضايا الأمة ، وتطبيقه لنظام الانتاج والتوزيع وتطبيقه لفرائض الصلاة
والصيام والجهاد . الخ . فكلها ألوان من العبادات يتعبد المسلمون فيها
بأمر الله تعالى ويصدرون فيها عن إرادته .
3 المعنى الفقهي ، فعندما أخذ الفقهاء بدراسة أحكام الشريعة
الإسلامية واستنباطها رأوا أن يقسموها إلى أقسام متميزة عملا بالتبويب المتبع
في البحث والتأليف ، فلاحظوا أن من الواجبات الإسلامية ما يشترط فيها
الإسلام أن يكون الدافع إليها نية القربة إلى الله عز وجل أو نية امتثال
أمره . الخ . أي أن تصدر عن وعي والتفات لتكليف الله تعالى بهذا
الواجب وإلا اعتبرت باطلة ووجب إعادتها أو قضاؤها . ومنها واجبات لم
يشترط فيها الإسلام مثل هذا الاستحضار بل طلب مجرد حصولها بقطع النظر
عن الدافع إليها ، فاختاروا لهذا القسم الثاني اسم ( الواجبات التوصلية ) لأن
المطلوب مجرد التوصل إليها ، وكان نصيب القسم الأول ( الواجبات العبادية ،
أو العبادات ) كالصلاة والصيام والصدقات والخمس .
4 المعنى العرفي للعبادة ، الذي يعني الصلاة والصيام والحج والدعاء
والتسبيح وما شابه . . وهذا المعنى للعبادة والعابد أضيق المعاني المتقدمة دائرة
على الاطلاق ، وهو أقرب إلى المعنى اللغوي . أما بالقياس إلى المعنى القرآني
الشامل فنسبته واضحة ، وأما بالقياس إلى المعنى الفقهي فإن واجب الضرائب
المالية ( الزكاة والخمس ) والذي هو واجب عبادي بالاصطلاح الفقهي لأنه
يشترط فيه قصد القربة ، لا يشمله هذا المعنى العرفي . . هذا وربما نجد
استعمال العبادة في بعض أحاديث السنة الشريفة بالمعنى العرفي وهو استعمال
للكلمة في مصداقها البارز لدى الناس .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 10 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أما لماذا تقلص مفهوم العبادة الإسلامي في أذهان المسلمين إلى المعنى
العرفي الضيق فمرد ذلك بشكل أساسي إلى فترة الانحطاط الفكري العام
الذي أصاب المسلمين فقلص العديد من مفاهيم الإسلام في أذهانهم وحلت
محلها مفاهيم ضيقة جامدة أو مفاهيم متخلفة حتى غزتنا المفاهيم الغربية
المعادية للإسلام وبذل أعداؤنا المستعمرون المتسلطون وعملاؤهم من حكام
الأمة جهودا متواصلة في تحريف وتشويه وإقصاء مفاهيم الإسلام ، وتربية أبناء
الأمة عليها بمناهجهم التربوية المسمومة ووسائل إعلامهم المختلفة .
وقد وجد أعداء الإسلام في شبهة المعنى العرفي للعبادة مدخلا لإبعاد
الإسلام والمسلمين عن مقاومة سيطرتهم فقالوا : ما دام الإسلام دعوة إلى عبادة
الله ، وعبادة الله هي القيام بالعبادات الإسلامية . فما عليكم أيها المسلمون
إلا أن تعبدوا ربكم بكل حريتكم فتصوموا وتحجوا وتصلوا وتقرأوا القرآن ما
بدا لكم وتعيشوا مع الله في جو روحي وديع وتكفوا إسلامكم عن حركة
الحياة في المصنع والمتجر والحقل والموقف معنا ، فإن ذلك لا يتصل بدعوة عبادة
الله التي هي دعوة دينكم .
كم يحلو لأعداء ديننا وأمتنا أن نتنازل عن مفهوم التعبد الإسلامي الذي
يعني التعبد لله بإقامة حياة الأمة كلا على أساس هداه وتشريعه . ونحجر
مفهوم التعبد في جوانب معينة معزولة عن الحياة .
يتناسى هؤلاء أن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وآله .
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق . لتحكم بين الناس ) ولم يقل له : إنا
أنزلنا إليك الكتاب لتهرب أنت ومن اتبعك من واقع الحياة وتعيشوا في جو
روحي حالم ، وبذلك تعبدون الله .
فلو كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله إلى عبادة الله عز وجل تعني ما يريده لنا
هؤلاء المستعمرون . إذ لاتخذ الرسول سبيله بمن تبعه في أرض من أرض
الله وقضوا حياتهم في ( عبادة الله ) وما تجشموا بأمر الله هذه الجهود والحروب
والمجابهات .
إن عبادة الله في مفهوم الإسلام إنما هي مع الصلاة والصيام وبالصلاة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - [ 11 ] - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
والصيام جهات بمنهج تغييري شامل لإقامة أوضاع جديدة في مختلف شؤون
الحياة .
وتشريعات الإسلام من حيث صلتها بعبادة الله على درجة واحدة من دون
فرق بين أحكام توزيع الثروة وأحكام جهاد أعداء الله ورفع سيطرتهم عن
الأمة ، وأحكام الصلاة والصيام وتلاوة القرآن . فجميعها أحكام للحياة
لاستقرار صلاحها وسعادتها ، وجميعها أحكام يتلقاها المجتمع المسلم من الله
ويتعبد له بتطبيقها . وبالتالي فكلها عبادات لله وبكلها تتسق إنسانية هذا
الإنسان وتسير قدما في تكاملها .
ومن طريف حكمة الله عز وجل أن تكون الواجبات التي اشترط فيها نية
القربة أنواعا مختلفة . فكما أن منها الصلاة وهي عمل خشوعي تربوي ،
كذلك منها الصيام وهو فريضة امتناع وكف للنفس عن العادات اللصيقة ،
بالإنسان ، ومنها الحج الذي هو سفر إلى أرض الله المقدسة وأداء لمناسك
معينة ، ومنها أداء الصدقات والخمس وهما ضريبتان ماليتان ، ومنها الاغتسال
والتوضؤ وهما عملان تطهيريان . . مما يدلنا على أن الله تعالى يريد للإنسان أن
يعيش في قسم متنوع من أعماله حالة الوعي لربه والإستحضار لصدوره عن
أمره وهداه .
وحينما ننظر إلى الصلاة موضوع البحث نجد أنها من فئة التعبدات التي
اشترط فيها الإسلام أن تؤدى عن وعي لله وصدور عن أمره وإرادته ( نية
القربة ) وهي ميزة لهذه الفريضة تضاف إلى ميز من مقوماتها فترتفع بها إلى حد
الابداع وبأثرها في نفس الإنسان وحياته إلى حد الاعجاز .