اختلفت الدّراسات النقدية العربية في تحديد مفهوم التناص، وإعطاء الجذور التأصيلية له، فهناك من يرى أنه مولود غربي ولا يمكن أن ينسب لغيره، وأما البعض الآخر فخرج عن حيز هذه الفكرة، وفتح الشهية للمعركة النقدية، من خلال العودة إلى جذور الثقافة العربية، رغبة في إيصال مفهوم التناص إلى نسبه الحقيقي، وأن ظهوره إلى الساحة الغربية لم يكن إلا عن طريق التبني، بحيث أعطت المحاولات النقدية التي احتكت بالموروث العربي القديم بوادر للتنقيب عنه، ومدى احتواء الوعي العربي على تجاوب العناصر الثلاثة للاتصال، والمتمثلة في المرسل والرسالة والمرسل إليه، وقد دخلت فيه عدة مفاهيم من السرقات، ووقع الحافر على الحافر، والحفظ الجيد، وتوارد الخواطر، وانصب ذلك على الجانب الشعري كموضوع للدراسة.
برزت عن هذا الحديث الرؤى المعارضة مؤكدة أن التناصية ظهرت بوادرها في الحقل الروائي، أما معيار النقد القديم فانصب اهتمامه على معالجة التجربة الشعرية ومدى تناقلها بين الشعراء، وتظهر هذه العلاقة من خلال البيت الواحد أو القصيدة، فرغم أن معالجة النقد العربي القديم كانت جزئية في معالجة هذا الموضوع والحكم عليه، من خلال تجزئة النصوص في التناول الجزئي، وذلك باعتبار أن القصيدة العربية، كانت أبياتًا شعرية، والحكم أن التحليل كان جزئيا وليست كليا، ووصفها بمحاولة التوصل اللاهثة إلى النص. وتاليا، المفهوم القديم كان مجرد تحليل جزئي للنصوص في إطار علاقة أحادية.
ولكن مفهوم التناص جاء بنتائج أوسع وأشمل من خلال البحث في النص النثري، فعلى اختلاف مادة الدراسة إلا أن التجربة أعطت صفة البداية للتناص في النقد العربي القديم والتأصيل لهذا المصطلح وساقت المفهوم إلى موطنه الأصلي، فيكفي وجود إرهاصات أشارت إليه وأبرزت سيولة التقاطع الحاصل بين عدة مفاهيم.
أولا: التناص لدى الغرب
يعتبر التناص (Inte****uality) جينية الفكر النقدي المعاصر الذي حملته الستينيات، فهو من مبادئ وأدوات المقاربة النقدية، بواسطتها يمكن قراءة النص في ضوء استنطاق التأويلات من علاماته، التي تقوم بطرح إشكالية الإنتاجية، فمن خلالها يفرز العمل الفني في علاقته بالأعمال الأخرى، نتيجة تحويل النص إلى مجموعة نصوص سابقة، ويكون بذلك مفهوم التناص العام في تذويب عدة مفاهيم لهذا المصطلح بعد أن أضحى جدال الفكر النقدي الحديث.
فالتناص هو تشكيل نص جديد من نصوص سابقة وخلاصة لنصوص تماهت فيما بينها فلم يبق منها إلاّ الأثر، ولا يمكن إلا للقارئ النموذجي أن يكتشف الأصل، فهو الدّخول في علاقة مع نصوص بطرق مختلفة "يتفاعل بواسطتها النص مع الماضي والحاضر والمستقبل وتفاعله مع القراء والنصوص الأخرى"[1].
هذه العملية الإنتاجية التي يقوم بها كل نص بتحويله إلى عدة نصوص تعرض أسئلة تستحق أجوبة، فأين الناص من النص إذا كان هو صاحب النص وليس صاحبه في عملية تناقضية بين الإثبات والنفي، باعتبار أن النص عالم معقد ولا يرافق صاحبه إلا في عملية المخاض.
ويتساءل عبد الملك مرتاض في هذا الصدد:
"ألم يأن أن يعتقد كل من يعنيه أمر الأدب بمفهومه المعاصر أن النص الأدبي ذو وجود شرعي مستقل عن مؤلفه إلى حد بعيد على الرغم من أنه ينتمي إليه؟ فالنص الأدبي، بالقياس إلى مبدعه يشبه النطفة التي تقذف في الرحم فينشأ عنها وجود بيولوجي، لكن الوليد على شرعيته البيولوجية والوراثية لا يحمل بالضرورة كل خصائص أبيه النفسية والجسدية والفكرية، إنه يستقل بشخصيته عن الأب، مهما حاول الأب أن ينشئه على بعض ما يجب ويشق في الغالب لنفسه طريقا خاصًّا به"[2].
إذن تربط الشرعية البيولوجية المؤلف بنصه على الرغم من أن علاقته تفرض استقلال كل من المبدع وإنتاجه الفكري، والتي تؤول إلى رفض المؤلف كما جاءت به البنيوية الصورية، من خلال آلياتها المطبقة لدراسة أي نص، وذلك بعزل سياقه بما فيه المؤلف والاهتمام بنسقه وقراءة النص من الداخل، بدراسة العلائق اللغوية التي تنتج بتقاطع عدة نصوص، فالدّراسة التزامنية جعلت من النص وثيقة وصف تقاطعاتها اللّغوية دي سوسير، وقد ضرب لنا نقطة الالتقاء بين كل من لعبة الشطرنج وأفكارها والنص والعلامات التي يفرزها.
إن مصطلح التناص بما فيه من عملية لغوية تفرض إلغاء صاحبها، فوجوده إذا كان مرتبطًا بالستينات على يد جوليا كريستيفا تقودنا إرهاصاته إلى النزعة التأسيسية التي جاءت بها فكرة موت المؤلف، "فمسألة رفض المؤلف ابتدأت إرهاصاتها قبل تأسيس النزعة البنيوية وازدهارها في الأعوام الستين من القرن العشرين، ولعل أهم من ألح عليها في أكثر من مقولة، هو الشاعر الفرنسي فاليري (1945-1871) الذي كان يزعم أن "المؤلف تفصيل لا معنى له". ولقد ذهب هذا المذهب فيما بعد، جملة من المنظرين الفرنسيين منهم: جيرار جينات، ورولان بارث، وميشال فوكو، وكلود ليفي ستراوس"[3].
يقوم هذا الطرح بوصف المؤلف واسطة بين الصيغة اللفظية للنص والواقع الفني الذي قذف بهما من نصوص سابقة تحتاج فترة لتحقيق التماهي والتمازج في سلسلة من التحولات نتيجة الحوار الواقع بين عدة كتابات، ففكرة التناص يمكن تأصيل بذورها عند فاليري، الشاعر الفرنسي، الذي يرى أن المؤلف ليس له معنى داخل النص.
يشير عبد الملك مرتاض أيضا إلى مشكلة الكتابة الأدبية ويجعل أسئلتها في خاتمة مقال يتحدث فيه عن المشكلة نفسها، وكأنه بذلك يريد للمشكلة أن تظل مفتوحة على المناقشة والإثراء، فهو حين يتسائل قائلا: فهل الكتابة انبثاق عن صميم الذات؟ أم هي إبداع متولد عن أشتات الغير؟ أم هي مزيج من هذا وذاك، يتساءل عن صفاء النص وعدم حضور الآخرين بين ثنايا السطور، مادام ذلك الحضور يشكل ما يدعوه النقد المعاصر بالتناص بدل التناصية "لأنها العملية التي تقع أثناء الفعل لكتابي دون أن يعبأ بها المبدع أو يعبأ بسبل تسربها من اللاوعي إلى الحضور الإبداعي"[4].
يتكون نتيجة لذلك تصور يطرح عدة تساؤلات، منها موقع المؤلف من نصه، وهل لكاتب النص السيادة على نصه أم أن حضور الآخرين هم الذين لهم النص الأول؟ وهو لا يصاحب نصه إلا في مرحلة المخاض، مما يخلق ذلك توليد دلالي يتسرب بطريقة غير شعورية تلتمس في النص الإبداعي حيث تقوم العملية التوليدية الإنتاجية بتفاعل عدة نصوص سابقة التي تأخذ صفة الفحولة، باستثناء النزر القليل من الكتابات العربية الجادة التي لم تسهم في مناقشة جدية لمقولة موت الإنسان، التي كان لها الأثر القوي في دعوة بارث الصحيحة لموته، فالكتابة المحايدة والبيضاء في حد ذاتها تعمل على إقصاء كل صوت، وكل أصل والأصل – هنا - يقصد به القضاء على الأبوة النصية التي شرعت سلطتها في الزوال في باستكشاف مبدأ الحوارية في الرواية المتعددة الأصوات كما ذهب ذلك ميخائيل ياختين(1995-1975) وتطور على يد جوليا كريستيفا وبارث نفسه.
تؤول جينية فكرة التناص إلى البنيوية الصورية التي ألغت صاحب النص، فالمهم هو تعالي النص، الذي يظهر من خلال العلاقة الخفية والجلية التي تربطه بالنصوص الأخرى، أي أن مسار مقاربة النص يقوم على طريق التواجد اللغوي كما حدده دي سوسور في مستوى التشابه مع لعبة الشطرنج، التي يتم فيها اللعب بتوظيف أحجارها، "فالناتج النصي يكون حصيلة لسلسلة من التحولات النصية السابقة التي تنصهر وتتمازج فيما بينها التي يظن المبدع أنه صاحبها لكنها تتسلل إليه بطرق لا شعورية فهي عملية كيميائية تتم في ذهن المؤلف"[5].
كما يشير البحث عن التناصية أنها "سوى ذلك الحوار الواقع بين الكتابات المختلفة التي تقع للكاتب قبل أو أثناء كتابته، لأن الكاتب لا يكتب انطلاقا من عدم، واستعماله للغة مشتركة تتقاطع فيها نصوص لا تعد ولا تحصى تشكل محفوظة الذي يؤسس ثقافته، ويهذب ذوقه، ويخلق دراية لسانه، ففي ذلك الزخم الطامي من النصوص تتشكل ملكته، مستفيدة من اجتهادات سابقيه، والكاتب - حينها - لا يكتب جديدا،وإن ظن أنه يبدع ويجدد لأنه يغترف من المشترك العام للغة والأفكار والأذواق