يخرج كل يوم صباحا متوجها نحو جبل صافون، الذي يبعد عن اللاذقية بحوالي 65 كيلو متر، يبحث بين الأحجار الكثيرة على حجارته، تلك الحجارة التي يراها الناس عادية يراها "نزار علي بدر" الملقب بجبل صافون بطريقة مختلفة، فيستطيع عن طريقها تشكيل ورسم أوجاعه ومعاناة الشعب السوري الذي يشهدها العالم. منذ أن كان طفلا كان علي بدر يهوى تشكيل الصلصال، لكن يبدو أن حتى الحجارة الصلبة لانت لمأساة الإنسان السوري، فشاركت علي بدر في التعبير عن كل تلك الصور التي أراد لها تحمل رسالته.(1)
يصور علي بدر بالحجارة التي ينحتها كما يشاء مشاهد التهجير الجماعي، والموت والضياع، والقتل والتدمير. لا يبيع أعماله إنما يوثقها بالصور الفوتوغرافية، ثم يعيد بعثرة الحجارة وتشكيل مشاهد جديدة، تماما كما تتجدد المأساة في سوريا كل يوم. يسمي علي بدر هذا الفن "صف الحصى" وهو لا يحتاج للكثير من المال، لكنه يحتاج إلى خيال واسع، فالكثير من الساعات يقضيها الفنان على شاطئ البحر في البحث عن الحجارة المناسبة للصور التي يريد تشكيلها، ولا يمنح على بدر لأعماله عناوين، ويترك متابعيه على وسائل التواصل منحها أسماء.(2)
(فيديو يعرض لوحات نزار علي بدر)
صدر منذ عدة أشهر كتابا يضم منحوتاته بعنوان (حصى الطرقات)، للكاتبة الكندية "مارغريت رورس" يسرد رحلة لجوء أسرة سورية ويصور الأهوال المريرة التي واجهتها خلال هذه الرحلة. منذ بداية الحرب في سوريا وأعماله بطبيعة الحال تحولت إلى الحزن، من خلال المشاهد التي يصورها نفسها والتي تظهر في مشاعر الشخصيات من خلال حركتها أو حركة الرأس ، فشخوصه في أغلب الأحوال يجذب الحزن رؤوسهم لأسفل. والملفت أنه بخصوصيته وتميزه في تشكيل الحجارة وإخراج هذا الإنتاج الإبداعي الغزير إلا أن نزار علي بدر لم يدرس الفن ولم يمنعه هذا الاستمرار في عمله الإبداعي.(3)
"أُجسِّد الصرخة، والحب والتهجير والقتل والتدمير، إنها حجارة صافون، صرخت: أوقفوا سفك الدماء، نريد أن نعيش"
اعلان
(نزار على بدر)
يطلق البعض على فنه "النحت المائع"، ليس تقليلا من شأنه، إنما تمييزا لهذا النوع الغريب من الفن، لكنه لا يروقه هذه التسمية ويطلق على عمله "السهل الممتنع"، ربما يمكن لذلك أن يفسر لما قدرته على إنتاج أكثر من خمس وعشرين ألف عمل كل منهم يحمل فكرة مختلفة. كان علي بدر نحات حجر لكنه يقول أن البركان تفجر في داخله عندما بدأ مشاهدة مناظر القتل الوحشي والتهجير والذبح والدم والدمار الذي تعرض له الشعب السوري، وبدأ في استخدام حجارة جبل صافون لتعبر أحجار سوريا عن شعبها.(4)
يرتبط علي بدر بماضيه ارتباطا كبيرا، فهو يرى أنه ابن أوغاريت، إذ يفخر بانتمائه للأوغارتيين الذين قدموا للحضارة البشرية أولى الحروف الأبجدية على حد قوله، وهو يعتقد أن الأبجدية الثانية لأوغاريت هي حجارة صافون. يقول إن لكل فن سر، وسر إبداعاته هو التصاقه بالأرض وخصوصا أرض الوطن "أشم ريحة التراب بشكل دائم". يجمع على بدر الحجارة من الأرض بمحبة وعشق لا نهائي، يشهد عليه أصدقاءه الذين يصطحبهم معه إلى جبل صافون وشاطيء البحر.(5)
"أعمالي أنشرها بكل صدق وأمانة. هي أمانة أسلافي الأوغاريتيين ولن يتمكن أحد في الكون من تشكيلها كما شكلتها. لأن عشقي لحجارة صافون لا حدود له"
اعلان
(نزار على بدر)
بالرغم من تفرده وبراعته في فن “صف الحصى”. لكنه يعتبر أعماله نجاحا لقيم الحق والخير على الباطل والشر، وهو بذلك لا يرجو من هذا أي شكر أو عائد، يقول “أنا فقير ولا هدف ماديًا لي من خلال إبداعاتي، أنا غني بإبداعاتي وانتمائي إلى تراب سورية”. ويذكر علي بدر أن علاقته بأحجار جبل صافون بدأت منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما، تطورت بها مهاراته في انتقاء الحجارة ومعرفة الأماكن التي تتواجد بها على ما بها من اختلافات في الأكال والألوان والملمس وهو ما يثري أعماله الإبداعية ويمدها بقدرة إضافية على التعبير. ويقضي الفنان الكثير من الوقت لكي يتمكن من العثور على حجارة صغيرة تخدم فكرة معينة في ذهنه، ثم يبدأ بتنظيفها وتصنيفها بحسب حاجته، ويعيد الباقي منها إلى المصدر الأصلي.(6)
يعترف علي بدر بأنه يبكي وتسقط دموعه على الأحجار التي يحولها لصور تعكس الألم، وهو يعتقد أن تلك الدموع تافهة في مقابل ما يعانيه أبناء وطنه، يقول:“لو يرى العالم مقابر الشهداء، أجيالا كاملة أبيدت عن بكرة أبيها، عائلات لم يبق منها أحد، ومن بقيوا لا يزالون يعيشون الصدمة، ولن يتعافوا منها أبدا، ورغم أني لست متدينا، فسوريا كانت دوما مع احترام المعتقدات، وأكبر شرف لي أن انضم إلى جماهير الفقراء والمظلومين والمهمشين… أنا حزين على وطني والدمار الذي لحق بنا، لم يبقَ شيء، لهذا أبقى وحيدا بين أكوام الحجارة أشكو لها همي، المهم في البداية الخلاص من هذه الحرب المدمرة، وبعدها يهون كل شيء، ورغم وضعي المادي المتردي لا يهمني المال، ومكسبي الكبير أن تصل الصور والرسالة التي تمثل معاناة أهلي إلى العالم، والأهم من كل هذا أن يتوقف قتل الأطفال”.(7)
"لا يبقى لي من لوحات حجارة صافون إلا الصور والذكريات المؤلمة"
(نزار على بدر)
اعلان
وتتميز خلفيات أعمال على بدر بانحصارها في ثلاث ألوان، الأبيض والأزرق والأحمر، فهو يرى أن الأبيض يُظهر ألوان الأحجار الطبيعية دون أن يدخل كعنصر في تشكيل العمل الفني، مما يتيح تأمل الأحجار والتمعن بها. واللون الأزرق هو لون البحر، لون الشاطيء التي أتت منه الأحجار نفسها، فهو ليس دخيلا عليها أيضا، أما اللون الأحمر وهو لون الخطر والدماء، يستعمله الفنان عندما يرغب في التعبير عن موضوع مشحون بالانفعالات وربما العنف، فهو خلفية مناسبة تعكس الألم والحزن، يقول: "أمضي ساعات في جمعها وبعد استخدامها في تجربة حجارة صافون أحوّلها إلى منحوتات صغيرة وما لا يصلح للنحت منها أعيده إلى البحر حفاظا على البيئة البحرية ولأترك للأجيال اللاحقة استثمارها في أعمال أخرى مستقبل".(8)
"تناغمي مع الطبيعة له طقوس خاصة، حيث أختلي بها، وأتوحّد مع عوالمها لأيام وأيام، مستلهماً من سحرها على مرّ الفصول، ومهما كانت الظروف"
(نزار علي بدر)
يقول علي بدر إنه يعمل بطريقة الإيحاء، ينظر للحجر ويستمع إلى ما يوحي إليه به، فهو يقرأ الحجر قبل أن يقرر أن يختاره، وبذلك يتمكن من إخراج أعمالا متكاملة من الحجارة على حد قوله. كما يرى أن ما عاشته سوريا أثناء الحرب من مأساة وألم وفقر وجوع وهو ما ولد عنده حافز كبير لنشر وتجسيد ما يشعر به داخله والذي يعتقد أنه شعور أي إنسان عاش المأساة السورية، ورأى الظلم والقتل والذبح والتشريد وتدمير المدارس والمستشفيات، وهو ما جسده بأحجاره يقول: "فقراء سوريا. أقبل أياديكم أنتم من قدم أغلى ما لديه صونا لتراب سوريا".(9)
يقول علي بدر: "أنا نحات فطري لم أدرس في كلية أو مدرسة لتعليم النحت. ولا أحد في الكون له فضل على إبداعاتي، إلا محبة البشر لي وتشجيعهم. وقد أقيمت لي عدة معارض بالصور عالية الدقة في الدنمارك وفرنسا، والآن أحضر لمعرض آخر في فرنسا، وآلاف الملصقات التي انتشرت في أوروبا لجمع تبرعات للاجئين والفقراء الذين حملت رايتهم، ولن أنكثها وسأبقى مناصراً لهم أينما كانوا على وجه الأرض".(10)