نسبه ونشأته
هو السلطان علاء الدين محمد بن تكش بن أرسلان بن آتْسِز بن محمد بن أنوشتكين، الملقب بـ "خوارزم شاه", ويرجع أصل هذه الدولة إلى رجل اسمه قطب الدين محمد بن أنوشتكين كان رجلًا طموحًا ذا همَّةٍ عالية فحظي عند السلطان سنجر -آخر سلاطين الدولة السلجوقية القويَّة- فجعله واليًا على منطقة سجستان، فلُقِّب من يومها بخوارزم شاه ومعناها بالعربية ملك خوارزم "تقع الآن في جمهورية أوزبكستان الإسلامية"، وقضى وقته في نشر العدل والكرم بين الناس حتى أحبوه ومات سنة 521هـ، وخلفه ولده أتسز الذي فكر في الاستقلال عن السلاجقة ودخل في حروب طويلة مع السلطان سنجر السلجوقي، واستعان إتسز بقبائل القراخطاي المغولية التركية والمعروفين في كتب التاريخ باسم "الخطا" وهم بوذيون وثنيون، وبالفعل انتصروا على سنجر وأسروه خمس سنوات وغلبوا أتسز نفسه الذي دخل في طاعتهم خوفًا منهم، وشعر بفداحة فعلته وندم أشد الندم على الاستعانة بالكفار على المسلمين.
ومات أتسز سنة 552هـ فخلفه ولده أرسلان الذي في عهده انقرضت دولة السلاجقة تمامًا ووسع هو مملكته ومات سنة 568هـ وملك من بعده ولده محمود سلطان شاه، ولكن أخاه تكش نازعه الملك واستولى عليه منه سنة 568هـ، ودخل تكش في حروب طويلة مع جيرانه من الغوريين "دولة مسلمة قويَّة لها أعظم الفضل في نشر الإسلام في الهند وباكستان وأفغانستان"، وكرَّر نفس غلطة أبيه واستعان بالقراخطاي على الغوريين ولكن شهاب الدين الغوري -من أعظم أبطال المسلمين كلهم تقريبًا- كسره كسرةً فظيعة ومات تكش سنة (596هـ=1200م) وخلفه ابنه علاء الدين محمَّد صاحبنا في هذه الصفحة وسبب بليَّة المسلمين على يد التتار.
علاء الدين خوارزم شاه سلطان الخوارزمية
رقي علاء الدين محمد خوارزم شاه عرش الدولة الخوارزمية في (20 شوال 596هـ=23 نوفمبر 1200م)، عُرف بلقب قطب الدين قبل وصوله إلى الحكم، واستعمله والده تكش على خراسان (593هـ=1197م)، وقاد في العام التالي حملة ضد قبائل الرحل في ضواحي جَند، وعاد إلى خوارزم بزعمائهم في الأغلال، وشارك والده بالإغارة على معاقل الإسماعيلية في قوهستان (596هـ=1199م)، وعاد بجثة والده الذي مات في الطريق إلى الجرجانية، وجلس لقبول العزاء فيه.
بدأ علاء الدين محمد عهده بسلسلة حروب، كان دافعها اجتياح الغوريين حكام المناطق الجبلية فيما يعرف اليوم بأفغانستان أملاك الخوارزميين في خراسان، مستصغرين شأنه عند سماعهم بوفاة والده وحلوله بالعرش، واضطر من أجل استرجاع هذه الأملاك إلى القدوم على رأس قواته إلى خراسان خمس مرات بين (596 و603هـ=1200 و1206م)، وانتهت حروبه في خراسان إلى استرجاع أملاكه حتى هرات، بعد وفاة السلطان شهاب الدين الغوري (603هـ=1206م)، الحاكم الوحيد في العالم الإسلامي في ذلك الوقت المؤهل لمنافسة علاء الدين، واضطرار خليفته إلى الاعتراف بالتبعيَّة له بالخطبة والسكة آلت أملاك الغوريين التي تمتدُّ إلى السند إلى حكمه، وتمكن من إلحاق مازندران في العام التالي ومن الاستيلاء على كرمان (605هـ=1208م)، وحقَّق بذلك لنفسه مركز الصدارة في مشرق العالم الإسلامي.
والتفت السلطان بعد ذلك نحو الشرق، وكانت قد أثقلته الجزية السنوية التي كان يدفعها شاهات خوارزم للخطا البوذيين، وكانت تتوارد عليه في عاصمته الجرجانية رسائل سكان بلاد ما وراء النهر الخاضعين لنفوذ الخطـا تناشده كي يخلصهم من حكمهم، كما وعده عثمان سلطان سمرقند -سليل أحد فروع الإيلكخانية- منذ (604هـ=1207م) أن يدفع له ما كان يُؤدِّيه للخطا من أموال، بالإضافة إلى الخطبة والسكة، وصادفت هذه الدعوات هوى في نفس السلطان للظهور بمظهر الزعيم الإسلامي المحرر للمسلمين من نير حكامهم الوثنيين، وزاد من رغبته ما وصله من كجلك خان زعيم قبيلة النايمان Naiman المغولية يفصح له عن رغبته في خيانة الخطا الذين لجأ إليهم (605هـ=1208م) عند رفضه الخضوع لجنكيز خان، وعلى اقتسام أملاكهم مع السـلطان، ولذلك حين حضر سفير الخطا إلى الجرجانية (607هـ=1210م) وأغلظ في طلب الجزية ألقى به إلى ماء جيحون.
كان للنصر الذي أحرزه السلطان على الخطا رنة فرح في ممالكه، فأضاف إلى ألقابه لقب "الإسكندر الثاني" وحمل نقش خاتمه عبارة "ظل الله في الأرض"، ولما عاد إلى خوارزم زوَّج ابنته من عثمان سـلطان سـمرقند، وزالـت دولة الخطـا من الوجود، وأصـاب السـلطان من أمـلاكها "ما وراء النهر".
لم تُجْدِ حملة السلطان إلى بلاد القبجاق عبر سيحون شمالًا (606هـ=1209م) في حين نجحت حملته الثانية (613هـ=1216م) في الاستيلاء على مدينة "سغناق" -على مجرى سيحون الأوسط، وأمنت له السيطرة على جزء من شواطئه الشمالية، والمناطق المتاخمة لها، كما أتم له قواده بين (607 و614هـ=1210 و1217م)، إخضاع سائر أجزاء إيران، وقُرئت الخطبة باسمه على منابر عُمان.
وهكذا استطاع علاء الدين محمد خوارزم شاه أن يستولي على معظم إقليم خراسان، وقضى على دولة الخطا سنة (606هـ=1209م)، واستولى على بلاد ما وراء النهر، وأخضع لسلطانه مكران وكرمان والأقاليم الواقعة غربي نهر السند، وسيطر على ممتلكات الدولة الغورية في أفغانستان، فوصلت الدولة الخوارزمية بذلك إلى أقصى اتساعٍ لها وامتدَّت سلطة علاء الدين من شمال بحر قزوين وبحر آرال شمالًا إلى المحيط الهندي جنوبًا، ومن السند شرقًا إلى حدود العراق غربًا.
الدولة الخوارزمية في أقصى اتساع لها زمن علاء الدين خوارزم شاه
هجوم علاء الدين على بغداد
أدى اتساع أملاك دولة الخوارزميين وسلطانهم علاء الدين محمد إلى طمعه؛ حيث وجد أنَّ الوقـت قـد أضـحى مناسـبًا ليطلب من الخليفة العباسي الناصر (575-622هـ=1182-1225م) أن تكون الخطبة في بغداد باسمه، وكان في طلبه أشد إلحافًا من أبيه، وكان الناصر على شاكلة علاء الدين في الطموح والهمَّة وأيضًا في التآمر والخداع والقسوة، فرفض الناصر ذلك المطلب وكان لا يضيره لو وافق، ثم تمادى الناصر في ذلك فهجم بجيوشه على إقليم الجبال وهو من ضمن أملاك علاء الدين واحتله، فأدَّى هذا لاندلاع ثورة علاء الدين وبدأ صراعٌ طويلٌ بين الرجلين.
ولما لم يفضِ تبادل السفارات بين الطرفين سنة (614هـ=1207م) إلى نتيجة ادعى خوارزم شاه أن الخليفة قد سقط حقه في إمامة المسلمين، لعجزه عن حفظ الثغور، وشغبه على السلطان المدافع عن الإسلام والمسلمين، وأعلن اعتناقه للمذهب الشيعي، واستصدر فتوى من بعض رجال الدين تقول: إنَّ الخلافة من حقِّ أبناء الحسين بن علي بن أبي طالب، وإنَّ آل العباس مغتصبون لها، وأسقط اسم الخليفة الناصر من الخطبة، ونادى بأحد أبناء علي بن أبي طالب خليفة.
استطاع علاء الدين استعادة ما فقده في إقليم الجبال وبدلًا من أن يصطلح مع الخليفة ويتفقا فيما بينهم خاصَّةً أنَّ خطر المغول بدأ يظهر في الأفق عندما أسقط جنكيز خان إمبراطورية الصين وهزم ملكها وان ين سيون سنة 611هـ واستولى على بكين وأرسل علاء الدين رسولًا من عنده يتأكد من ذلك وجاءه الرسول بحقيقة الأمر وقوة المغول, وبدلًا من أن يلتفت لهذا العدو الجديد, التفت للخليفة الناصر وأعدَّ علاء الدين جيشًا جرَّارًا وهدفه إزالة دولة بني العباس من الوجود، واختار رجلًا علويًّا من تبريز اسمه علاء الملك ونصبه خليفةً، وسار علاء الدين بنفسه إلى بغداد في شتاء (617هـ=1219-1220م) ولكنَّ الله عز وجل أرسل عليه وعلى جيشه رياحًا شديدةً وثلوجًا طوال أربعين ليلة مزَّقت جيشه وأهلكت الرجال والدواب، وتعرَّض من سلم من قوَّاته لهجمات سكان المناطق الجبليَّة، فعاد خاسرًا إلى بلاده وتغيَّر عزمه عن فتح بغداد.
علاقته مع جنكيز خان
ولما آب السلطان إلى خوارزم بالقليل ممَّن نجا من رجاله، كانت علاقاته مع جيرانه الجدد في الشرق -المغول- قد بلغت مرحلةً متقدمة، ورغب السلطان بالتحقُّق من الشائعة التي انتشرت عن استيلاء جنكيز خان على الصين (612هـ=1215م)، والاطلاع -أيضًا- على قوَّة الفاتح المغولي، فأوفد له سفارةً استقبلها جنكيز خان في بكين، وخاطب أعضاءها بعد الترحيب بهم، بأنَّه سيِّد الشرق كما أنَّ سيِّدهم هو سيِّد الغرب، وأنَّه يتطلع إلى السلام معه، وإلى حريَّة التجارة والسفر بين الدولتين، ورافق السفارة تجار خوارزميون، ردَّ جنكيز خان على سفارة السلطان بسفارةٍ محمَّلةٍ بالهدايا النفيسة وبرسالة (615هـ=1218م)، رافقها وفدٌ تجاريٌّ كبير.
قابل السلطان السفارة في بخارى، وجاء في الرسالة قول جنكيز خان للسلطان "أنت عندي مثل أعز أولادي" "ولدنا الحبيب إلى قلوبنا"، وهي عبارة معناها أنَّ علاء الدين قد أصبح من أتباع جنكيز خان، فأنف علاء الدين من ذلك وأخذته حميَّة الإسلام أن يكون تابعًا لهذا الكافر المشرك، وعلى الرغم من أنَّ هذه العبارة قد أغضبت السلطان فقد نزل عند نصيحة أحد أعضاء السفارة -وكان خوارزمي الأصل- وقَبِلَ بعقد معاهدة سلام، وأرسل مع التجار هدايا عظيمة استبشر بها جنكيز خان وظنَّ أنَّ علاء الدين قد صار من أتباعه، واستمرَّ التجار يتردَّدون بين البلدين آمنين مطمئنين.
ثم حدث ما لم يكن في الحسبان؛ ففي نفس السنة وقعت حادثة أدَّت بالكارثة المروعة؛ حيث سافر مجموعة من التجار التتر إلى مدينة "أترار" أو "أوترار" على نهر سيحون من أملاك خوارزم وعلى هذه المدينة واليًا كان من ألدِّ أعداء جنكيز خان، حيث كان من ملوك الصين القدامى الذين دمَّر ملكهم جنكيز خان، فظنَّ هذا الوالي الأحمق واسمه "ينال خان" أنَّ الفرصة قد جاءته للنيل من جنكيز خان، فقبض عليهم وكانوا حوالي 400 رجلٍ تحمل قافلتهم الحرير والذهب والفضة والفرو، وأرسل إلى علاء الدين يقول له: إنَّ هؤلاء التجار جواسيس لجنكيز خان، فأمر علاء الدين بقتلهم وأخذ أموالهم, فلمَّا علم جنكيز خان بالأمر أرسل إلى علاء الدين يطلب منه تسليمه هذا الوالي المشئوم ليقتصَّ منه طالما أنَّ علاء الدين لم يعلم، وهنا أقدم علاء الدين على فعلةٍ شنعاء حمقاء حيث قتل الرسول وحلق لحى الباقي.
الحرب بين علاء الدين وجنكيز خان
كان قتل الرسل يعني إعلان الحرب بين الدولتين وقطع كلِّ أملٍ لحسن الجوار وحدوث السلام، كما كانت مذبحة أوترار وموقف السلطان من أعضاء السفارة كافيةً لإثارة غضب جنكيز خان وإصراره على الانتقام؛ حيث قرَّر مهاجمة علاء الدين.
لم يكتفِ علاء الدين بما فعله من حمقٍ وتهوُّرٍ؛ بل أقدم على عملٍ أشد حماقةٍ حيث أعدَّ جيوشه وقرَّر مهاجمة التتار في أرضهم، وكان جنكيز خان قد جمع جيوشه وتوجه للقضاء على تمرُّد أحد ملوك الصين المتمرِّدين، فهجم علاء الدين على بلاد التتر ولم يكن بها سوى النساء والأطفال فأخذهم علاء الدين سبايا، ولكن فرقة من التتار عادت إلى ديارهم فوجدوا نساءهم وعيالهم قد وقعوا أسارى في يد علاء الدين، فأسرعوا حتى لحقوا علاء الدين ومن معه ودارت حربٌ طاحنةٌ استمرَّت ثلاثة أيامٍ ولم ينتصر علاء الدين على تلك الفرقة الوحيدة القليلة، وعلم علاء الدين أنَّ له يومًا ضروسًا إذا تحرَّك عليه جنكيز خان، فعاد علاء الدين مسرعًا إلى بلاده وأمر علاء الدين سكان مدن بخارى وسمرقند وغيرهما بالجلاء عنها أو تحصينها خوفًا من التتار.
عاد جنكيز خان من الصين وقاد جيوشه وهنا بدأت عمليات المغول الحربية ضد أملاك الخوارزميين بحملة تمهيدية (615هـ/1218م) على مملكة كجلك خان في تركستان الشرقية، ولكنه فرّ منها ولم يلبث أن قتل، أمَّا الحملة الرئيسة بقيادة جنكيز خان فقد بلغت حدود الممالك الخوارزمية عند أوترار في (جمادى الآخرة 616ﻫ=سبتمبر 1219م)، ثم نجح الغزاة في اجتياح ما وراء النهر، واحتلال بخارى ثم سمرقند سنة (616هـ=1220م)، وكان المغول يُحطِّمون بلاد المسلمين بلدًا تلو الآخر، يسفكون الدماء ويغتصبون النساء ويحرقون الجوامع ويدمرون كلَّ شيءٍ في طريقهم، ولم تكن جيوش علاء الدين بالقليلة؛ بل كانت أكثر من نصف مليون مقاتل ولكنَّهم كانوا مرعوبين من التتار، متنافرين يقودهم مجموعةٌ من النهَّابين والمرتزقة الذين يُريدون الغنائم والدنيا، أمَّا الصمود أمام الكفار أو الدفاع عن الإسلام فليسوا هم من ذلك النوع الذين يُريدون الآخرة.
فرَّ علاء الدين وترك بلاده ودياره وهو يُفكَِّر في أن يُنظِّم جيوشه مرَّةً أخرى، ولكن جنكيز خان أرسل فرقةً من التتر عبرت جيحون على وجه السرعة لملاحقة السلطان، اختارها من أشدِّ رجاله وقال لهم: "عليكم بعلاء الدين، ائتوني به ولو تعلَّق بالسماء". فسارت ورائه من بلدٍ إلى آخر وهو يهرب، ولم يُصدِّق الناس وقتها أنَّ الأسد القاسي الهصور علاء الدين أصبح مثل الفأر المذعور يهرب من بلدٍ إلى آخر خوفًا من التتر الذين استولوا على معظم بلاده، وأخذ وهو في الطريق يتخلَّص ممَّا يحمله من كنوز، ويُرسل بزوجاته وأولاده إلى القلاع، وينصح رعاياه بالانسحاب والفرار، وتمَّ الالتحام الوحيد بين قوَّاته والمغيرين في ضواحي همذان قُتل فيه غالب جنده.
وفاة السلطان علاء الدين
وانتهى المطاف بخوارزم شاه إلى همدان في نحو عشرين ألفًا من جنوده، وفي هذه الأثناء تمكَّن المغول من السيطرة على إقليم خوارزم -أهم ولايات الدولة- وأسروا تركان خان والدة السلطان ومن معها من أبنائه وبناته، فلمَّا قُدِّموا إلى جنكيز خان أمر بقتل أبناء السلطان محمَّد خوارزم وكانوا صغار السن، وزوَّج أبناءه وبعض رجاله من بنات السلطان.
وما كادت تصل هذه الأنباء المفجعة إلى السلطان حتى ازداد غمًّا على غم، وأصابه الحزن والهم، وكان قد انتهى به الفرار إلى جزيرةٍ صغيرةٍ قرب الساحل الجنوبي الشرقي لبحر قزوين في قلعةٍ هناك، يحوطه اليأس والقنوط، فأسلم نفسه للأحزان، ولم يقوَ على دفعها، وسيطر عليه القلق، وحلَّت به الأمراض، ولم تكف عيناه عن البكاء على المجد الضائع والرئاسة والسلطان، وظلَّ على هذا الحال حتى أسلم الروح بعلَّة ذات الجنب في (13 من شوال 617هـ=9 من ديسمبر 1220م)، وقبل وفاته أعلن تحويل ولاية العهد من ابنه الصغير أوزلاغ شاه إلى أكبر أولاده جلال الدين منكبرتي؛ لما يعهده فيه من قدرةٍ على مجابهة الموقف، فحمل راية الجهاد، وواصل رحلة الكفاح.
وهكذا مات السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه داخل القلعة وحيدًا طريدًا شريدًا فقيرًا؛ حتى إنَّهم لم يجدوا ما يُكَفِّنُونه به، فكفَّنُوه في فراشٍ كان ينام عليه!
من مناقب السلطان خوارزم شاه محمد
قال ابن الأثير في فضائله: "وكان مدَّة ملكه إحدى وعشرين سنةً وشهورًا تقريبًا، واتَّسع ملكه، وعظم محله، وأطاعه العالم بأسره، ولم يملك بعد السلجوقية أحدٌ مثل ملكه؛ فإنَّه ملك من حدِّ العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة، وبعض الهند، وملك سجستان، وكرمان، وطبرستان، وجرجان، وبلاد الجبال، وخراسان، وبعض فارس (وكلها مناطق في إيران)، وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة، وملك بلادهم، وكان فاضلًا، عالمًا بالفقه والأصول وغيرهما، وكان مكرمًا للعلماء محبًّا لهم محسنًا إليهم، يُكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه، وكان صبورًا على التعب وإدمان السير، غير متنعِّم، ولا مقبلٍ على اللذات؛ إنَّما همُّه في الملك وتدبيره، وحفظه وحفظ رعاياه، وكان معظِّمًا لأهل الدين، مقبلًا عليهم، متبرِّكًا بهم... وبالجملة، اجتمع فيه ما تفرَّق في غيره من ملوك العالم، رحمه الله، ولو أردنا ذكر مناقبه لطال ذلك".
السياسة الداخلية والخارجية لعلاء الدين
وعلى الرغم من أنَّ السلطان علاء الدين محمد كان محبًّا للعلم والأدب، فقد كان -أيضًا- قاسيًا سفاكًا، يفتقر إلى الحنكة السياسيَّة، ولم يجد سكَّان ما وراء النهر أيَّ فرقٍ بين حكمه وحكم حكامهم السابقين من الخطا، وهذا ما يُفسِّر سبب انقلاب حليفه وصهره سلطان سمرقند عليه، حتى إنَّه كاد أن يُقدم على قتل زوجته ابنة السلطان، كما أنَّ تجرُّؤه على الخليفة جرَّ عليه نقمة رجال الدين ولا سيَّما عندما أجبر بعضهم على إصدار فتوى بخلع الخليفة، ثم إقدامه على قتل أحد هؤلاء من دون سببٍ معروف، وزاد في خلل سياسته الداخلية الدور النشيط الذي مارسته أمُّه تركان خاتون -التي كانت تنتمي إلى قبيلة قانغلي القبجاقية- في الحياة السياسية، فكانت تفرض أقرباءها وأتباعها في المراتب العسكرية، وتمنحهم الامتيازات التي مكنتهم من الاعتداء على السكان ونهب أموالهم، وتحمي العصاة منهم، وأجبرت ابنها في أول أمره أن يُعيِّن ابنه الصغير لولاية عهده من دون الكبير؛ لأنَّ أمَّ الأخ الصغير كانت من القبيلة ذاتها.
ويذهب بارتولد إلى القول: إنَّ أمَّ السلطان كانت تحكم فعليًّا أقاليم خوارزم وخراسان ومازندران، وقد أدَّت سياسة الوالدة إلى قيام حزبٍ عسكريٍّ حولها يكنُّ العداء للسلطان ويتآمر عليه، وكان سببًا رئيسًا في إخفاق إدارة السلطان الداخليَّة في مناطق ما وراء النهر، التي عجز السلطان عن ضبطها، فتركها نهبًا لهؤلاء القواد، فعملوا على تخريبها. ويُفهم من أقوال ياقوت الحموي أنَّ تخريب أقاليم شمال شرق ما وراء النهر في عهد السلطان محمد وتهجير سكانها كانت سياسة ثابتة للإدارة الخوارزمية.
أمَّا في مجال السياسة الخارجية فكان إقدام السلطان على الاتفاق مع كجلك خان على إزالة دولة الخطـا هو إزالة لسد -كما رأى الجويني- كان يحجز بين الدولة الخوارزمية وأملاك المغول، وأغرى جنكيز خان بمتابعة التقدُّم غربًا، إلى أملاك كجلك خان للقضاء عليه، والاقتراب أكثر من الممالك الخوارزمية، كما أنَّ ادعاء السلطان بأنَّه المدافع عن المسلمين ضدَّ حكامهم غير المسلمين أُصيب بخرقٍ فاضحٍ عندما أقدم على قتل تجَّار القافلة التجارية في أوترار، وكانوا جميعًا من المسلمين. ويرى النسوي أنَّ السلطان قد أخطأ خطأً كبيرًا بامتناعه عن مواجهة الهجوم المغولي عند شواطئ سيحون، وتركهم يتوغَّلون إلى داخل البلاد. ويعود الجويني إلى القول: إنَّ السلطان هو مسئولٌ مسئوليَّةً أساسيَّةً عن نكبة العالم الإسلامي بالمغول وما جرَّته غاراتهم عليه من مصائب.
_____________________
المصادر والمراجع:
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ=1997م.
- محمد بن أحمد النسوي: سيرة السلطان جلال الدين منكبرتي، تحقيق حافظ أحمد حمدي، القاهرة 1953م.
-عطا ملك الجويني: تاريخ فاتح العالم - جهانكشاي، نقله عن الفارسية محمد ألتونجي، 1985م.
- حافظ أحمد حمدي: الدولة الخوارزمية والمغول، القاهرة، 1949م.
- بارتولد: تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي، الكويت، 1981م.
- وفاة علاء الدين خوارزم شاه .. عاقبة الطيش والتهور، موقع مفكرة الإسلام.
- مظهر شهاب: خوارزم شاه، الموسوعة العربية العالمية.
قصة الإسلام