رغم وجود التطور الصناعي..الصناعات الشعبية تحافظ على ديمومتها
تحقيق- ماهر العريفي
لم يستطع التطور الصناعي الذي شهده العراق بعد منتصف القرن الماضي إلغاء الصناعات الشعبية البدائية لأسباب عديدة من أهمها اعتزاز العراقيين بهذه الصناعات وتفضيلها على مثيلاتها التي يتم استيرادها اضافة الى ذلك فإن الحصار الاقتصادي الطويل الذي فرض على العراق بعد أحداث الثاني من آب1990 أسهم مساهمة فعالة في عودة هذه الصناعات الى الواجهة من جديد
يَقول محمد حسون، يعمل في صناعة المنخل العراقي: تعد البيئة العراقية من الأماكن الغنية بالصناعات الشعبية اليدوية التي مازالت صامدة في عصر الصناعة، وقسم من هذه الصناعات اندثر، لكن العراقيين اضطروا الى العودة الى هذه الصناعات في سنوات الحصار الاقتصادي الذي استغرق مدة طويلة من الزمن ومازالت الحاجة لها مستمرة حتى الآن لعدم وجود ما يضاهيها من الصناعات المستوردة أو في كثير من الأحيان جودة الانتاج العراقي هي السبب،
وهناك البعض الذي أكد أن سبب رواج مثل هذه الصناعات هو تمسك العراقيين بتراثهم الصناعي الذي يرمز الى حضارة عمقها آلاف السنين وأغلب الصناعات الشعبية التراثية تتواجد في المناطق والأحياء ذات الطابع الشعبي، وصناعة المنخل هي من الصناعات التي صمدت أمام المنتوج المستورد، فنحن نعمل على صناعته وفق احتياجات وخصوصية البيئة العراقية وتختلف هذه الصناعة جزئيا في بعض المحافظات من بلادنا، فالجنوب والوسط لهما ميزة تختلف عن البيئة الشمالية وهكذا نجد أن لكل صناعة سراً في نجاحها،
ونحن هنا نقوم بتحضير الأخشاب المطلوبة للصناعة حيث نستخدم خشب "الأثل" وهو نوع من الخشب المرن الذي نطوعه لعملنا من خلال الانطواء حتى نستطيع صناعة المنخل وأحيانا كثيرة نقوم بوضع الخشب الذي يراد استخدامه في وعاء كبير مملوء بالماء بعد أن نعطيه الشكل الذي نريده،
وبعد فترة يخرج ثم ينشف ونبدأ بتشريحه ومن ثم نصنعه بأحجام مختلفة حسب الطلب عليه، ومن ثم نقوم بتغليفه بمادة المعدن المشبك والذي يختلف حجم الحيز في ذلك المعدن من استخدام لآخر، أي المنخل المخصص للطحين له قياس صغير،
أما المنخل المخصص لنخل الرمل في أعمال البناء فيكون له قياس اكبر حتى يسمح بخروج الرمل الصافي وكذلك المنخل الذي يستخدم في تصفية الذهب، والمهنة بصورة عامة هي وراثية وقد تعلمتها من والدي وها هو ابن أخي الصغير يتعلمها هو الآخر، فعملنا مستمر ومهنتنا تقاوم الزمن والطلب عليها يتزايد يوما بعد آخر واغلب زبائننا هم من سكان المحافظات العراقية الأخرى.
وفي احد الأحياء الشعبية في جانب الكرخ من بغداد التقينا أمير علي، يعمل في صناعة خزانات الماء حيث قال: إن هذه المهنة من المهن الشعبية التي اندثرت في عقد الثمانينات من القرن الماضي وعادت الحاجة اليها في عقد التسعينات من القرن المذكور وتعتمد صناعتنا على الخبرة الطويلة التي اكتسبتها من خلال العمل في هذا المجال منذ الصغر عندما كان أبي يجبرني على الخروج الى العمل لغرض تعلم مهنة تنفعني في حياتي المستقبلية الى جانب الدراسة. أما الطلب على هذه المنتجات فهو يتزايد يوما بعد يوم، فصناعتنا رخيصة الثمن وهي تلبي حاجة المواطن وفي نفس الوقت متينة وقوية الصنع، فخزانات الماء الصغيرة المصنوعة من صفائح "البليت" يحتاج اليها الجميع في تخزين الماء لفترات طويلة وهي لا تتأكسد لأننا نطليها من الداخل بمواد ضد التأكسد، ولأن شح المياه مستمر في بلدنا، فالطلب يتزايد عليها يوما بعد آخر وكذلك حال شواية اللحم والتي تسمى في اللهجة العراقية "المنقلة" والتي نصنعها بأحجام مختلفة، فهي تتواجد في جميع البيوت العراقية وتستعمل في شيّ اللحوم أو الدجاج أو السمك أو في صناعة الشاي وفي كثير من الأحيان تستخدم في تحميص البن وصناعة القهوة في المضايف العربية لعشائر العراق، وهذا المنتوج يزداد الطلب عليه خاصة عندما تستهلك "المنقلة" فتحاول العائلة تعويضها بأخرى وهكذا نجد أن عملنا يحتاجه الجميع، لكن ما نعاني منه بصورة عامة نحن أصحاب الورش الصناعية الشعبية والتراثية هو عدم وجود أي دعم حكومي أو قروض ميسرة تساعد أصحاب الورش على التطوير المستمر، بل إننا نفتقد جمعية أو رابطة تضم المهن الشعبية التي تقاوم الظروف الصعبة من اجل أن تستمر في عملها بشكل جيد، ومع ذلك فإن هاجسنا نحن أصحاب الورش الصناعية الصغيرة هو كيفية تطوير عملنا وكيف نستطيع أن نصدر انتاجنا خاصة أن المنتوجات الشعبية والتراثية العراقية عليها طلب متزايد بسبب جمالية صناعتها.