التطور العمراني في مدينة دمشق
(1860-1960)



نالت مدينة دمشق أهميتها منذ القدم من موقعها الجغرافي المميز وواحتها الخضراء وروضتها الفيحاء... كما جاءت عظمتها ثمرة الجهود المتتابعة دون انقطاع مدة ألوف السنين ونتيجة لتطور طويل بطيء.
جاء هذا التطور خلال مراحل عديدة أهمها العصر الآرامي ثم اليوناني والروماني ثم الأموي. وبدأ عصر الانحطاط منذ بدء العهد العباسي، فتوالت الحروب والغزوات والاضطرابات. ولم تنته تلك الحقبة المظلمة التي كانت أسوَد ما مرَّت به دمشق في تاريخها إلا بظهور الأتراك السلاجقة وأتابكتهم مؤسسو الدولة الأيوبية، ثم المماليك وأخيرًا العثمانيون الذي انتهى حكمهم عام 1918.
شهدت دمشق منذ أعوام 1850 و1860 توسعًا جغرافيًا هامًا في مساحتها بلغ حوالي 130 هكتار، تلازم هذا مع تزايد ديموغرافي ملحوظ في عدد سكانها الذي كان في عام 1878 حوالي مائة وخمسة وأربعون ألف نسمة كما جاء في كتاب نعمان قساطلي الروضة الغنَاء في دمشق الفيحاء(عام 1879)، ثم بلغ هذا العدد عام 1949 ثلاثمائة وعشرة آلاف وثلاثمئة وستة وأربعون نسمة كما جاء في دليل مدينة دمشق الصادر عن مديرية الشرطة والأمن في دمشق بتاريخ الأول من كانون الثاني 1949.
كانت مدينة دمشق بيضوية الشكل محاطة بسور يرجع إلى عهد الرومان تمَّ تجديده وترميمه لاحقًا في عهد الأيوبيين. "وكانت أهمية المدينة الجيوسياسية بالنسبة للعثمانيين في كونها آخر مستوطنة مدينية تقع على طريق الحج إلى مكة، قبل دخول الصحراء" (الباحثة ليندا شيلشر). وقد احتفظت المدينة في القرن التاسع عشر بأجزاء كبيرة من سورها القديم رغم أنها تجاوزت حدوده منذ زمن بعيد في مراحل متعددة من تاريخها، فضمَّت قرية العقيبة في الشمال ومنطقة العمارة البرَّانية والشاغور البرَّاني في الجنوب، وحي باب السريجة والميدان في الغرب والجنوب الغربي. وبقي سور المدينة رغم تهدُّمه وتصدُّعه في عدد من أقسامه، عنصرًا هامًا في طوبوغرافية المدينة مما سبَّب تطورها العمراني من جهة والحدَّ من توسعها من جهة أخرى، خاصةً في المنطقة الشرقية منها. وبالعكس، فإن منطقة الصالحية وسفح قاسيون في الشمال الغربي من المدينة شهدت تطورا سريعًا عمرانيًا وسكانيًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كما تابعت منطقة الميدان توسعها العمراني والسكاني بشكل ملحوظ، والذي بدأ منذ القرن الثامن عشر.
تطورت مدينة دمشق بعض الشيء منذ الاحتلال المصري (1832-1840) وصدور "التنظيمات" العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، ثم تسارع هذا التطور والتحديث بعد فاجعة 1860 (الطوشة) التي راح ضحيُّتها آلاف المسيحيين ودمَّر الحريق معظم بيوت وكنائس الحيِّ المسيحي في دمشق.
عيَّنت الدولة إثر هذه الحادثة حكَّامًا وولاة عُرف أكثرهم بالكفاءة وحُسن الدراية، قاموا بتنفيذ سياساتها لتحسين وتحديث مدينة دمشق عاصمة ولاية سورية أخصَّها ما يتعلق بإعادة إعمار الحي المسيحي، وإنشاء أحياء جديدة بعيدة عن المدينة القديمة مع تطوير هذه الأخيرة وتوسيع أسواقها وطرقاتها مع اعتناء خاص بالصحة العامة ومستلزماتها.
بدأت هذه الأعمال من قِبل إدارة الأشغال العامة (النافعة) التي ترأسها منذ عام 1864 موظف معيَّن من قِبل وزير التجارة والأشغال العامة في اسطنبول حمل لقب "مهندس" خلَفًا لسابقه في هذا المنصب الذي كان يلقَّب "معمرباشي"، علمًا أن هذا الأخير لم يكن يتمتع بالكفاءات الفنية اللازمة لهذا العمل لكنه كان مسؤولاً عن مجموعة من البنَّائين الحرفيين معظمهم من المسيحيين الذين كانوا يعملون غالبًا حسب إرشادات مهندسين أجانب أو مسيحيين عثمانيين (أرمن، يونان، إيطاليين وغيرهم) يختارهم ويعيِّنهم الوالي بسبب النقص الكبير للمهندسين المحترفين الأتراك في الدولة العثمانية.

وكان بين هؤلاء المهندسين الأجانب المهندس الفرنسي Paul AUBRY
[2] الذي عمل كمسؤول فني في بلدية دمشق لمدة ثمان سنوات وأشرف على الأعمال التالية: ترميم قبَّة الجامع الأموي التي تهدمت في حريق 1893، مبنى البلدية في المرجة، مستشفى الغرباء في البرامكة، تنظيم حي المهاجرين الجديد عام 1896، وعدد من المباني الإدارية الرسمية الأخرى. والمهندسين Monsieur COLMAN و Monsieur BRASSO، والمهندس الإسباني Fernando d’ARANDA[3] الذي عمل في دمشق خلال ثلاثة عهود: العثماني والانتداب والاستقلال، و المهندس المعماري الإيطالي Raimondo d’ARANCO مصمم عامود ساحة المرجة الذي نُصِب في ذكرى افتتاح خط التلغراف اسطنبول/ مكة عام 1905، والمهندس المعماري الألماني WILBUSCHWITSCH الذي نظَّم شارع النصر أيام الوالي جمال باشا 1914-1917. أما المهندسين العثمانيين من أصول غير تركية فهم: المهندس بشارة أفندي، والمهندسَيْن الأرمنييَيْن ميكايليان أفندي وديكران أفندي، والمهندسَيْن االيونانيَيْن قسطنطين MAUVRIDIS أفندي وWASILIADIS أفندي.
بدأت إعادة إعمار الحي المسيحي عام 1863 من دور سكنية وأديرة وكنائس على أسس تنظيمية عمرانية حديثة شملت تنظيم الشوارع والحارات والمنازل. لكن هذا التنظيم لم يتبع الطراز الأوروبي العثماني بشكل مطلق، فأعاد أكثر السكان بناء منازلهم على الطراز الشرقي مع بعض التعديلات في ترتيب الغرف ونقل قسم الخدمات كالمطبخ والحمَّام والمرحاض من مدخل البيت إلى القسم الخلفي منه مع الحفاظ على فسحة الدار السماوية والبركة و البئر، بينما ذهب الآخرون إلى بناء منازل طابقية - طابقين أو ثلاث - لها نوافذ وشرفات (بلكون) تطل على الشارع يحوي بعضها مساحة مكشوفة صغيرة لإضاءة القسم الخلفي من الدار. وكان أكبرها وأهمّها بناء "هبرة" في باب توما مقابل حارة اللعازريين الذي تضمَّن صالة كبيرة استعملت لاحقاً للعروض السينمائية. ومن أجمل الدور الشرقية الحديثة والفخمة في حي باب توما دار أنطون الشامي (التي أصبحت فيما بعد مدرسة راهبات البيزنسون للبنات) ومدخلها الرئيسي يقع في حارة سفل التلة، ودار متري شلهوب الواقعة في شارع السلطاني (طالع القبَّة) التي اشتراها بعد فترة قصيرة حبيب صباغ ولا زالت ملك العائلة حتى الآن لكنها خَربة وغير مسكونة، ودار آل النعسان جانب الباب الشرقي و لا تزال مسكونة من قبل مالكيها. "وكان عدد دور دمشق بالتقرير الرسمي سنة 1871م الموافقة سنة 1388هـ نحو 14696 دارًا لكل الطوائف" كما كتب نعمان القساطلي عام 1879.
امتدت مدينة دمشق خلال هذه الفترة وخاصة بعد عام 1880 نحو الغرب والشمال، وأصبحت ساحة المرجة الجديدة مركزًا للمدينة تحيط بها أبنية ومنشآت رسمية: دائرة البلدية، القصر العدلي، مركز الشرطة، السرايا الجديدة، مركز البريد والتلغراف، وكذلك فنادق حديثة كفندق فيكتوريا الكبير، بناء العابد، ومجموعة من المطاعم والمقاهي والملاهي والمحلات التجارية، وتنطلق من هذه الساحة حافلات الترام الكهربائي منذ تسييرها عام 1907 إلى مختلف المناطق في دمشق. و لم يبقَ من هذه الأبنية مع الأسف سوى بناء السرايا (وزارة الداخلية) و بناء العابد و دائرة الشرطة.
ومن الأبنية الهامة التي تم إنشاؤها قبل عام 1918 محطة الحجاز التي صمَّمها مهندس ألماني وأشرف على إنجازها المهندس الإسباني (فرناندو دارانده)، مستشفى الغرباء ومبنى دار المعلِّمين الذي أصبح فيما بعد كلية الحقوق وهو الآن مقر وزارة السياحة، والثكنة الحميدية الكبيرة وهي حاليًا مبنى كلية الحقوق، والمستشفى الإنكليزي والفرنسي في القصاع، والمستشفى الإيطالي في الصالحية-عرنوس، والمستشفى العسكري الذي شُيِّد أيام الحكم المصري في سورية وصار بعد ذلك مستشفى عسكري إفرنسي (مقابل سينما أمير) أُطلق عليه اسم "Henri de VERBIZIER"، ثم أصبح قسمًا منه بعد الإستقلال مركزًا للأركان العامة بينما بقي القسم الآخر يعمل كمستشفى أُطلق عليه اسم "يوسف العظمة" وقد زال الآن، وبناء البنك العثماني في العصرونية (بنك زلخه لاحقًا)، وهذا البناء لا يزال قائمًا وقد لحق به الحريق في العام الماضي وأصيب بأضرار بالغة، ومبنى يوسف عنبر (مكتب عنبر حاليًا) في الشارع المستقيم- زقاق القاري. كما أُنشئت في هذه الفترة في حي باب توما عدد من المدارس الأجنبية - فرنسية وبريطانية - للذكور والإناث وكان أهمها مدرسة الرهبان والراهبات اللعازريين في باب توما، والمحلية كمدرسة الآسية للروك الأرثوذكس في طالع الفضة وأخرى للروم الكاثوليك في حارة الزيتون.

أما بالنسبة للأبنية السكنية الجميلة التي تم إنشاؤها في أحياء مختلفة من دمشق في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فكان أهمها قصر ناظم باشا في حي المهاجرين الذي أصبح لاحقًا قصر خورشيد الذي صممه وبناه المهندس المعماري خورشيد المصري ثم مقرًا للقصر الجمهوري، وقصر زيوار باشا العظم في الصالحية الذي شيَّده عام 1903 وتوفى قبل أن يسكنه فشغلته مدرسة الطب العثمانية حتى عام 1913 ثمَّ أصبح ثانوية للبنات "دار المعلمات" في فترة الانتداب، ثم تحوَّل إلى "ثانوية جول جمَّال" إلى أن تم هدمه عام 1985 وأنشِئت مكانه مدرسة للإناث، وقصر عثمان باشا (قصر نوري باشا) في جادة العفيف الذي أصبح مقرًا لسكن السفير الإفرنسي ولا يزال، ودار حسن آغا البارودي في القنوات.
زال الحكم العثماني عن بلاد الشام عام 1918 وخَلَفَه الحكم العربي بزعامة الأمير فيصل بن الحسين الذي نُصِّب لاحقًا ولفترة قصيرة ملكًا حتى عام 1920 قبل أن تحتل فرنسا سورية بعد موقعة ميسلون. ويذكر عبدالعزيز عظمة في كتابه مرآة الشام:
يوجد في مدينة دمشق من العقارات بحسب إحصاء الحكومة الرسمي عام 1920م 19197 دارًا للسكن. وهذا العدد لا يشمل العقارات المختلفة الأخرى من مبانٍ رسمية وجوامع وحوانيت ومخازن وأفران وحمامات واصطبلات إلخ... وعدد سكان مدينة دمشق عام 1934 حسب مديرية النفوس 238064 نفَسًا.
واصلت دائرة البلدية خدماتها الفنية في السنين الأولى للإنتداب الفرنسي كما كانت عليه في العهدين السابقين العثماني والعربي، برئاسة محمد أفندي بشير الذي كان يعمل مساعدًا للمهندس الفرنسي AUBRY السابق الذكر، ثم مساعدًا لمهندس فرنسي آخر Lucien VIBERT
[4] الذي عينته السلطات الفرنسية لاحقًا عام 1922 رئيسًا لمهندسي الخدمات الفنية لمدينة دمشق ومسؤولاً عن تنفيذ خطة تحديث البنى التحتية للمدينة وتجميلها.
تعثَّر تنفيذ مخطط Vibert التنظيمي للمدينة بسبب الثورة السورية 1925-1926م التي شملت أحياء دمشق وغوطتها وتداخلت المخططات الهندسية المدنية مع المخططات الأمنية التي وضعها الكولونيل ANDREA، الحاكم العسكري لمدينة دمشق للدفاع عن المدينة وتأمين الطرق اللازمة لتنقلات الجيش بينها وبين غوطتها المعقل الرئيسي للثوار ومصدر هجماتهم المتكررة على مراكز الوحدات العسكرية الفرنسية في دمشق.
حلَّ الهدوء والسلام في دمشق عام 1926 ووافق المندوب السامي الفرنسي الجديد Henry de JOUVENEL على خطة جديدة لتنظيم المدينة. كما وافقت عليها أيضًا الحكومة السورية ممثلةً برئيس الوزراء ومحافظ دمشق ومدير الشرطة ومدير الصحة، وأمر بتنفيذها في أسرع وقت مع منح الأولية لإعادة إعمار حيِّ سيدي عامود (الحريقة) الذي دُمِّر واحترق عام 1925، وترميم قصر العظم المقرُّ الأول للمعهد الفرنسي Institut Français الذي أصاب معظمه الحريق والخراب. كما شملت هذه الخطة تنظيم شارع بغداد وإعماره وتعريض الشارع المستقيم (سوق مدحت باشا)، واتخاذ منزل الوالي نوري باشا في حيِّ العفيف مقرًا رسميًا للحاكم الفرنسي في دمشق الذي أصبح فيما بعد منزل السفير الإفرنسي كما ذكرت سابقًا. وفي عام 1929 تابع المندوب السامي الفرنسي الجديد Henri Ponsot عملية تنظيم مدينة دمشق وأصدر قرارًا بتشكيل مكتب فني خاص لدراسة مخططات المدينة ورقابة تنفيذها من قِبل البلدية، المؤلَّف من فنيين مختصين برئاسة رئيس المهندسين Elie CERINO
[5] والمساعدَيْن السوريَيْن هرانت كريكوريان وهاكوب كشيشيان والمهندس بدري قداح[6]، ثم أُلحق هذا المكتب عام 1932 بوزارة الأشغال العامة وأضيف إليه عدد من المهندسين الجدد يرأسهم المهندس الفرنسي A. THIRION ومنهم فيليب أسود[7] وثابت الحافظ[8] خلفًا لمحمد بشير السابق الذكر. وقد تم التعاقد في هذه الفترة نفسها مع المهندس الفرنسي المختص بتنظيم المدن René DANGER[9] لوضع دراسات تنظيمية لمدن حلب وبيروت وطرابلس والإسكندرون وأنطاكية ودمشق وبلودان والزبداني.

أنهى المهندس DURAFFOURD Claude تنظيم السجل العقاري (كاداسترو) عام 1934 وسلَّم المخططات الطوبوغرافية لمدينة دمشق إلى المختصين لاعتمادها أساسًا لدراساتهم التنظيمية. وقد انتُدب المهندس الشاب Michel ECOCHARD
[10] الذي كان يعمل في دمشق في قسم الآثار كمساعد في لجنة تنظيم المدينة، فجرى التعارف بينه وبين Danger الذي قدَّم عام 1936 مشروعه النهائي إلى بلدية دمشق الذي تم الموافقة عليه في السنة التالية عام 1937. وقد اعتمد Danger في دراسة مشروعه هذا على أعمال سابقة لبعض العلماء والمؤرخين المستشرقين وأهمهم J. Sauvaget وعلى المعلومات المقدمة من مركز إدارة الصحة في دمشق ومديرها الدكتور يوسف عرقتنجي[11]. وبناءًا على ذلك يمكن اعتبار بداية الثلاثينات كمنطلق للنظام المعماري الجديد لمدينة دمشق بالتوافق مع النظام العثماني السابق في هذا المجال ولكن على أسس جديدة وحديثة تأخذ بعين الاعتبار توسُّع المدينة وتنظيمها عمرانيًا وسكنيًا على المدى البعيد مع اهتمام خاص بالمعالم الأثرية المنتشرة في أنحاء المدينة القديمة وبعض المواقع الأثرية الأخرى المتواجدة في الأحياء الجديدة خارج السور. وقد كان لهذا التوجه الجديد أثرًا هامًا في تفعيل دور مديرية الآثار ومشاركتها بشكل أساسي في أعمال تنظيم المدينة ضمن المخطط العام للمهندس الفرنسي Michel ECOCHARD.
لقد شهدت الثلاثينات تدفقًا ملحوظًا للمهندسين السوريين الجدد في الإدارات الانتدابية المختصة الذين تخرجوا من جامعة بيروت (E.F.I.B) L’Ecole Française d’Ingénieurs de Beyrouth - التي تأسست عام 1922 إذ لم يكن يوجد في سورية قبل هذه الفترة كلية للهندسة إلى أن تأسست لاحقًا في مدينة حلب بعد الاستقلال عام 1946 ومن ثم في مدينة دمشق عام 1967 - وهم: خليل شنيارة
[12] وكاظم الجزار[13] وثابت الحافظ. أما الآخرون ممن حصلوا على منح حكومية للدراسة في الخارج وخاصةً في فرنسا فهم : صبحي مظلوم[14] وعمر مالك[15] وبدري قداح، وآخر هو سليمان أبو شعر[16] في بلجيكا والولايات المتحدة. وقد أسَّس هؤلاء عام 1936 "نقابة المهندسين" في دمشق، وعمل بعضهم فيما بعد لحسابهم في القطاع الخاص.

بدأت الأعمال التنظيمية للمدينة بفتح شارع بغداد الجديد عام 1925، أي قبل الموافقة على الخطة العامة للتنظيم بسنة واحدة، وذلك لأسباب استراتيجية عسكرية وفقًا للخطة الأمنية التي وضعها الكولونيل أندريا الفرنسي كما ذكرنا سابقًا، ثم قامت الإدارات المختصة منذ عام 1927 بتنفيذ الخطة الإعمارية والتنظيمية لمدينة دمشق. وكان من أهم المنجزات التي قامت بها السلطة الفرنسية منذ ذلك الحين وحتى عام 1945 الأعمال التالية:
إنشاء شوارع وأحياء جديدة: شارع بغداد وساحة السبع بحرات التي يتفرع منها شارع العابد وشارع البرلمان حتى ساحة النجمة وشارع الباكستان غربًا وشارع 29 أيار جنوبًا وشارع الشهبندر شمالاً، وأحياء الشعلان والحبوبي والروضة وأبو رمانة وغيرها...، كما تم تشييد أبنية رسمية جميلة على الطراز الشرقي كمؤسسة عين الفيجة في شارع النصر وبنك سورية ولبنان عند جسر فيكتوريا ومبنى البرلمان ومبنى وزارة الأشغال العامة والمواصلات في شارع البرلمان ومبنى ديوان المحاسبات في ساحة السبع بحرات ومدرسة التجهيز الأولى التي أشرف على بنائها المهندس سليمان أبو شعر وتعهدها المهندس اللبناني يوسف أفتيموس، ومعهد اللاييك في شارع بغداد الذي صممه المهندس الفرنسي Victor ERLANGER ومبنى رئاسة الجامعة، ويضاف إليها مبنيان سكنيان هما مبنى الدكتور يوسف عرقتنجي ومبنى أل شباط في ساحة النجمة. أما الأبنية الأخرى من منازل سكنية وفنادق ودور سينما فقد جاء معظمها على الطراز الفرنسي الحديث وخاصة في شارع العابد وامتداده حتى ساحة النجمة وفي أحياء الشعلان والحبوبي والروضة وبعض الأبنية في حي القصاع. وكان من أجملها الأبنية المحيطة بساحة النجمة وساحة العابد، وبناء كسم وقباني في شارع البرلمان الذي صممه مهندس نمساوي وتواجد فيه مصعد كهربائي ربما كان أول مصعد في دمشق، مصنوعًا من الخشب الثمين تزيِّن جدرانه في الداخل مرايا وقماش مخملي لونه أحمر قان، ويحوي على أحد جوانبه مقعدًا صغيرًا متحركًا. وبقي هذا البناء بطوابقه الخمس ولعدة عقود أعلى بناء في دمشق. كما كان هناك فندق أمية في ساحة المرجه وفندق الشرق (خوام) عند محطة الحجاز الذي شيَّده المهندس اللبناني أنطون ثابت واعتبر أفخم فندق في دمشق، وكانت سينما عائدة قائمة في قبو الفندق ولها مدخل جانبي مستقل. ومن دور السينما الأخرى في تلك الفترة سينما روكسي (الأهرام حاليًا) وسينما الأمبير Empire في الصالحية وسينما روايال في الشهداء وأُزيلت كليهما، وعدد من الصالات الشعبية الصغيرة تواجدت في محيط ساحة المرجة والدرويشية. أما بالنسبة للأبنية الرسمية، فقد شُيِّد مبنى وزارة الصحة في شارع البرلمان وبناء المتحف الوطني الجديد الذي صمَّمه وبناه المهندس الفرنسي إيكوشار. وقد تم بناء جميع هذه الأبنية بين عامي 1930 و1940.
ومن الأبنية السكنية الجميلة التي تحيط بها حديقة واسعة: مبنى السفارة الأميركية ومن بعدها بناء الغراوي، في الشارع المؤدي من ساحة الروضة إلى ساحة المالكي منزل السفير الإيطالي حاليًا، وبناء مردم بك في حي الروضة منزل السفير الأميركي حاليًا، وبناء العظم في ساحة الروضة، السفارة التركية ومنزل السفير السويدي حاليًا، وبناء الدكتور يوسف عرقتنجي في ساحة النجمة الذي شغله السفير الإسباني لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وبناء شراباتي، قرب شارع المالكي - السفارة البابوية حاليًا، ومدرسة راهبات الفرنسيسكان للبنات في شارع البرلمان، مدرسة السلام حاليًا، وكنيسة اللاتين مقابل وزارة الصحة.

لم يخْلَ حي القصاع أيضًا من بعض الأبنية الجميلة التي شُيِّدت على الطراز المعماري الفرنسي الحديث التي أُزيل أكثرها مع الأسف في الستينات ليحلَّ مكانها أبنية تجارية لا تمت إلى الفن المعماري بصلة، وهي بناء غطاس خوري يليه بمسافة قصيرة بناء حجري أنيق جدًا لا أعلم اسم بانيه ولكن لا زلت أذكر اسم بعض من شغله من سكان وهم آل وردة وكبريته ولطفي، ثم مبنى صعبية الكبير في برج الروس وبناء مواقدية Villa Alice في آخر القصاع (غساني)، وبناء الأستاذ فائز خوري مقر السفارة الروسية سابقًا، الذي يقع في آخر الشارع المتجه من المستشفى الفرنسي، قسم الإسعاف، إلى جامع الفردوس (ساحة التحرير) وتحيط به حديقة وأشجار. ولا بد أن أذكر أيضًا في هذا السياق كنيسة الصليب المقدس وكنيسة القديس كيرلّس اللتين شُيدتا أيضًا في القصاع في أوائل الثلاثينات.
وهناك طبعًا عدد ليس بالقليل من الأبنية السكنية الجميلة المنتشرة في دمشق التي أُنشئت في عهد الانتداب والتي يصعب ذكرها جميعها في هذا البحث، وهي موجودة في الأحياء التالية: الحريقة وشارع النصر وشارع خالد بن الوليد والسنجقدار والحلبوني وعين الكرش وشارع 29 أيار والشهداء وعرنوس والجسر الأبيض والعفيف وحي المهاجرين وغيرها... وأجهل إن كان تم توثيقها من قبل المختصين في هذا المجال رغم تشويه بعض واجهاتها أحيانًا بسبب جهل أو عدم اكتراث أصحابها للحفاظ على أناقتها وجمالها.
تابع عهد الاستقلال النشاط العمراني في دمشق وتم إنشاء أبنية رسمية وعامة وسكنية جميلة اتسم القليل منها بالطابع الشرقي كبناء قصر العدل الجديد في شارع النصر وبناء ما كان يسمى "دار المعلمين" الذي يقع في شارع المهدي بن بركه بين مباني الأركان العامة والجوية، وجامع الكويتي، وجامع الفردوس في ساحة التحرير الجديدة، وبناء آل صليبا في أول شارع بغداد مقابل حارة السادات، بينما اتجهت الأغلبية نحو طراز معماري حديث أكثر تناغمًا مع نمط الحياة الجديد الذي عمَّ العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، والتقدم التكنولوجي والعلمي في كافة المجالات.
لقد ساهم الرخاء الاقتصادي الذي شمل المنطقة بشكل عام وسورية وعاصمتها دمشق بشكل خاص في إحياء نهضة حقيقية في البلاد شملت جميع الفعاليات الفكرية والثقافية والعلمية والصناعية والتجارية والفنية دامت حوالي خمسة عشر عامًا دون انقطاع يُذكر رغم التقلُّبات السياسية والاجتماعية التي رافقتها طوال هذه الفترة.
نالت الحركة العمرانية في دمشق نصيبًا هامًا من تلك النهضة سواءً في متابعة تطوير وتوسيع البنية التحتية التي أوجدها العهدين السابقين أو إنشاء شوارع ومنشآت ومؤسسات جديدة تفي حاجات المدينة وسكانها الذين زاد عددهم بشكل ملحوظ، وتأمين الخدمات الصحية والفنية والإدارية التي ترافق مثل هذا التطور.
توسعت دمشق عمرانيًا منذ منتصف الأربعينات نحو الغرب فتمَّ تنظيم شارع بريطانيا الذي عُرف باسم أبو رمانة وعلى طرفيه تمَّ إنشاء أبنية سكنية أنيقة مؤلفة من طابقين وراجع Villa يفصل بين الواحدة والأخرى مساحة عشرة أمتار تقريبًا تحتوي على مدخل جانبي ثانٍ للبناء، ويحدَّه من الشمال حديقة ربع دائرية وفي الجنوب بناء قصر الضيافة الجديد وحديقته الواسعة، ويقع في منتصفه حديقة المدفع المربعة الشكل تقريبًا التي كانت ولا زالت بنظري من أجمل الحدائق العامة في دمشق بالتساوي مع حديقة الجاحظ التي استحدثت فيما بعد في غربي شارع أبو رمانة.

أنشئت أبنية شارع أبو رمانة على طراز عمراني جديد اختصَّت به مدينة دمشق في تلك الفترة فأُطلق عليه تسمية "الطراز المعماري الدمشقي الحديث". لم يخْفَ جمال هذا الشارع ذو الأبنية الأنيقة ذات الطراز المميز والذي يمتد على طوله منصِّف عريض مزيَّن بأشجار النخيل، على الدول الأجنبية التي كثُر ممثليها الرسميين في سورية بعد الاستقلال فاتخذت عددًا هامًا من هذه الأبنية مقارًا لسفاراتها، مما دعا الناس إلى أن يطلقوا على شارع أبو رمانة تسمية "شارع السفارات".
كما توسعت المدينة في أول الخمسينات نحو الشمال انطلاقًا من ساحة التحرير الجديدة التي أنشئت عام 1952 في آخر شارع بغداد وامتدت شرقًا بشكل موازٍ لشارع القصاع. فتمَّ تنظيم وإعمار شارع حلب الذي كانت تزيِّن أرصفته العريضة أشجار الحور ويفصله عن الأحياء الغربية في دمشق كبستان الرئيس وعرنوس بساتين مزروعة بالخضار والأشجار المثمرة، وأبنيته ذات الثلاثة طوابق وشرفات لا يختلف مظهرها الخارجي عن بعضها بشكل عام وينتمي غالبيتها إلى مستوى معماري متوسط من حيث أناقة البناء والمواد المستعملة لبنائه. ثم بُدء في منتصف الخمسينات وما بعدها إعمار شارع القصور المنطلق غربًا من نهاية شارع حلب، وسمِّي بـ "القصور" نسبة إلى عدد من أبنيته الجميلة والأنيقة Villa التي ضاهت أناقةً أبنية أبو رمانة.
أما شارع بغداد الذي أصبح في أواخر الثلاثينات وما بعدها شارعًا مفصليًا في المدينة يصل أحياءها الشرقية بأحيائها الغربية، فقد تابع مسيرته المعمارية في الأربعينات باتجاه القصاع وأنشئت على طرفيه أبنية ذات ثلاثة طوابق لها شرفات يتصف أكثرها بالطراز المعماري التجاري رغم الأرصفة العريضة التي تزيِّنها الأشجار، وحدائق الأزبكية في منتصفه وعلى جانبيه (قبل أن تُزال ويُشق شارع الثورة). لم ألاحظ أخيرًا في شارع بغداد إلا قلَّة من الأبنية التي يمكن وصفها بالمميزة وهي بناء "الشؤون" في أول شارع بغداد من الجهة الغربية (الذي سكنه العقيد الشيشكلي سابقًا) وبناء معهد الحرية (اللاييك سابقًا)، وبناء آل صليبا في آخر الشارع. أما بالنسبة إلى الأبنية الأخرى التي كان يتصف بعضها سابقًا بحسن البناء والمظهر وكان من أجملها بناءً حديث الطراز قامت ببنائه الحكومة السورية بعد الاستقلال ليصبح مقرًا سكنيًا لاستضافة زعيم الثورة السورية سلطان باشا الأطرش في دمشق (لكنه لم يسكنه قط) وأصبح فيما بعد ولعدة سنوات مقرًا للمديرية العامة لمعرض دمشق الدولي، قد أصابها مع الأسف العتق والكآبة والتشويه أسوةً بأبنية وأرصفة الشارع بمجمله. وهذا الأمر المؤسف يشمل حاليًا أغلبية الأحياء والأبنية في مدينة دمشق التي نالها التشويه وقبح المنظر بسبب عدم احترام القوانين الضابطة (إنْ وجدت) لأعمال الترميم و(نفض) البيوت، والآرمات من كل حجم وقياس التي تعلَّق عشوائيًا فوق الدكاكين ومداخل وشرفات الأبنية، بالإضافة إلى انعدام الذوق السليم الذي يجب أن تتميز به هذه الأعمال عند تنفيذها
.

ومن أهم الأبنية الرسمية والعامة التي أُنشئت أيضًا بعد الاستقلال مصرف سورية المركزي في ساحة السبع بحرات الذي صممه مهندس بلجيكي ونفَّذه المهندس خليل الفرّا، وبناء البريد والبرق الذي شيده المهندسان أنطون ثابت وخليل الفرّا يقابله بناء إدارة الأوقاف، ومبنى العباسية وفيها سينما العباسية وفندق سميراميس الذي بناه المهندس اللبناني فؤاد طراد، وجميع هذه الأبنية تقع في شارع سعدالله الجابري، وبناء الهاتف في شارع النصر. كما شُيدت عدة دور للسينما كان أوسعها سينما دمشق وسينما الزهراء، وسينما الفردوس وسينما دنيا وسينما أمير وسينما أدونيس (الكندي حاليًا) وسينما الحمراء وسينما السفراء وسينما الخيَّام وسينما الشرق، وأعتقد أنها صُممت جميعها من قبل مهندسين لبنانيين.
رافق حقبة الازدهار الاقتصادي في هذه الفترة إنشاء فنادق ومشافٍ ومدارس ومصارف شُيدت في مركز المدينة أو أبعد منه بقليل كان أهمها مستشفى المواساة الذي شيده وموَّله مجموعة من كبار تجار وصناعيين دمشقيين في ضاحية المزة ومستشفى المجتهد الحكومي في باب المصلَّى ومستشفى "نخمن" في شارع بغداد، وعدد من المصارف الأجنبية والعربية التي تواجد أكثرها في حي الحريقة (المدينة) الذي أصبح مركزًا تجاريًا هامًا ورئيسيًا للأعمال التجارية والمالية. وكان من أهم المصارف الأجنبية هناك المصرف البريطاني والمصرف الإيطالي "بنكو دي روما" والمصرف الوطني الفرنسي ومصرف "كريدي ليونيه" في الدرويشية وغيرها. ومن أهم المصارف العربية البنك العربي وبنك انترا في حي الحريقة وبنك مصر في شارع النصر وبنك العالم العربي إلى جانب مبنى المحافظة. ومبنى الأركان العامة في ساحة الأمويين الذي تعهد بنائه ابراهيم بيتنجانه، ومبنى الأركان الجوية في شارع المهدي بن بركة.
ولا بد أن أذكر أخيرًا إنجازات كان لها بالغ الأهمية علميًا واقتصاديًا في تاريخ دمشق المعاصر أولها إضافة كليات جديدة إلى جامعة دمشق شملت أكثر الإختصاصات العلمية الحديثة في مجالات الطب والصيدلة والكيمياء والفيزياء والرياضيات والتاريخ والآداب العربية والإفرنسية والإنكليزية وأُلحِقت بها فيما بعد كلية الهندسة المعمارية وغيرها، مما مهَّد الطريق لعدد كبير من الطلاب السوريين والعرب للالتحاق بها لمتابعة دراستهم والحصول على شهادات تؤهلهم للانتساب إلى معظم جامعات العالم والتخصص في كافة المجالات، وثانيها تأسيس معرض دمشق الدولي خلال النصف الأول من الخمسينات في منطقة المرج الأخضر على طريق بيروت الذي لاقى هذا المعرض منذ إنشائه ولمدة سنين طويلة نجاحًا كبيرًا مع مشاركة واسعة بين الدول العربية والأجنبية التي قارب عددها الخمسون دولة تنافست فيما بينها لإنشاء أجنحة ذات طراز مميز لعرض منتوجاتها التجارية والتكنولوجية والفنية جاء لمشاهدتها والتعرف عليها على مر السنين عشرات الآلوف من السوريين والأجانب للزيارة أو لإجراء محادثات وعلاقات تجارية متبادلة انعكست إيجابيًا على الاقتصاد السوري وأضافت شهرةً ورونقًا على مدينة دمشق مما كان يجعل منها خلال شهر من كل عام محطَّ أنظار الجميع في الشرق والغرب في مجال السياحة والتجارة والفن. وقد استوعبت واستضافت فنادق دمشق القديمة الكبيرة منها والصغيرة هذا العدد الكبير من الزوار، إضافةً إلى عدد من الفنادق الجديدة التي أُنشئت في هذه الفترة وكان من أهمها فندق أمية الجديد مقابل مدرسة التجهيز الأولى وفندق قطّان فوق سينما دمشق وفندق سمير في المرجة التي تم بناؤها على الطراز الدمشقي الحديث.
لقد أضافت العهود الثلاث، موضوع هذا البحث، على مدينة دمشق وخلال مائة عام ثروة عمرانية فريدة من نوعها، شكلت امتدادًا هامًا وتواصلاً غير منقطعًا مع تراثها العمراني الطويل الذي يرجع تاريخه إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، مما جعل منها مادة ثمينة بغاية الأهمية للمنقِّبين والباحثين المختصين وموضوعًا شيِّقًا لعديد من المؤلفات والدراسات المختصة في تاريخ دمشق وعمرانها، آملين أن يزودنا أهل الاختصاص بالمزيد من المعلومات والأبحاث في هذا المجال.
دمشق 21/2/2017