أعظم مأساة عاطفية في تاريخ الأدب الكوردي
مەم و زین
تعد ملحمة (مم و زين) من أهم الآثار الشعرية لـ احمد خاني. وقد جلبت أفكار وأسلوب الملحمة أنظار عدد كبير من النقاد والباحثين- من كورد وغيرهم بما فيهم عدد غير قليل من المستشرقين. ونالت اهتماما محليا وعالميا، فقد طبعت غير مرة في كوردستان، ونقلها الشاعر الكوردي (هزار) من اللهجة الكرمانجية إلي اللهجة المكرية شعرا.أما عالميا فقد ترجمت إلى العديد من اللغات الشرقية والغربية منها العربية والتركية والأرمنية والفارسية والروسية. وترجمت إلى الروسية من قبل المستشرق م .ب. رودينكو وطبعت في موسكو عام .1962 وترجمها الأديب الفرنسي روجيه لسكو في عام 1942، وترجمها نثرا إلى العربية الشيخ العلامة محمد سعيد رمضان البوطي وطبعت في دمشق أكثر من ست مرات ، كما استلهم الشاعر السوري (بدوي الجبل) منها مسرحية شعرية بعنوان «مم و زين».
.
.
.
حدثت هذه القصة في حوالي عام 1393، في جزيرة (بوطان) المعروفة اليوم باسم (جزيرة ابن عمر) تلك الجزيرة التي تقع على شاطئ نهر دجلة وتمتد في اتساع شاسع بين الهضاب والتلال الخضر الواقعة في شمالي العراق.
ويتألق اسم هذه الجزيرة في مقدمة ربوع كوردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من جمال الطبيعة وبهائها، إذ تتشعب بين رياض طبيعية بديعة وينعكس إليها من سائر أطرافها بريق دجلة الذي يحف بمعظم جهاتها كما يزيد من روعة جمالها جبالها الشاهقة المصوبة كالخناجر صوب السماء.
دارت حوادث القصة في قصر أمير هذه الجزيرة (الأمير زين الدين) ، حيث كانت بلاد الأكراد إذ ذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط العهد العثماني منقسمة إلى إمارات يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارة والقوة.
ولم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عادية حسب... بل كان يتمتع إلى ذلك بغنى واسع وبمظهر كبير من القوة والسلطان، والغريب وإن ذلك لم يحل دون اكتسابه محبة سائر طبقات إمارته، مما أذاع اسمه مقرونا بالهيبة والإجلال لا في جزيرة بوطان وحدها، بل في سائر كوردستان وإماراتها.
ولم يكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل، كقصور بقية الأمراء من أمثاله، وانما كان آية من آيات الفن والإبداع... كان منتهيا إلى أقصى حد في البذخ المبذول لتصميمه وتشييده واقامة أبهته..! وكان يزدان بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر، وأنواع المجوهرات الغريبة الفاخرة! أما رحابه وشرفاته فكانت تعج بمئات الغلمان، والجواري والفتيات الجميلات.. يجلن في أنحائه، ويضفين على رحابه جوا سحريا يشع بالفتنة والجمال.
غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أي واحدة من تلك الجواري والحسان، وانما كانت سرا لدرتين غير كل ذلك، خلقهما الله في ذلك القصر، بل في تلك الجزيرة، كلهما مثلا أعلى للجمال، ونموذجا كاملا للفتنة والسحر الإلهي في أسمى مظاهرهما. ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين، كان اسم أكبرهما التي لا يتجاوز عمرها ربيع العشرين ( ستي) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة قد أفرغ الجمال في كل جارحة من جسمها على حدة، ثم افرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها، فعادت شيئا أبرع من السحر وأبلغ من الفتنة!
وأما الصغرى واسمها ( زين) فقد كانت وحدها البرهان الدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختها وأسمى! كانت هيفاء بضة، ذات قوام رفيع، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب ذات عينين دعجاوين، أودعهما الله كآيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير..
وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلؤتين محجوزتين في صدفة ذلك القصر عن معظم الأبصار، فقد كان اسماهما ذائعين منتشرين في سائر أطراف الجزيرة بل وفي كثير من بلاد كوردستان.. يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال!
وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحا أجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار، لولا أن الشعب الكردي عامة و أولي الزعامة فيهم غرست بطبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم، مما يجعلهم يتحرجون من اختلاط الجنسين بمقدار.. هذا إلى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيدا من هذه الغيرة بين جنبيه، وزادها اتقادا ما كانت تتمتع به أختاه من ذلك الجمال النادر الذي أبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها وفي معظم البلاد الأخرى ... ولذلك فقد كان من الصعب جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع.. وتسقط الأخبار..!
ملخص القصة
لا يمكننا التصدي في هذه العجالة بتلخيص القصة، ولكننا مع هذا نوجزها قدر الإمكان، ونترك للقارئ فرصة مطالعته المتأنية لها مستقبلا...
كان الوقت أصيلا، والناس يودعون 20 آذار - ليستقبلوا من ورائه ربيع سنة جديدة يقضون نهارهم فوق المهاد وارفة الخضراء، وعلى ضفاف دجلة وفي سفوح الجبال، وذلك جريا وراء تلك العادة الشائعة في جميع أنحاء كردستان من الاحتفال بعيد «النوروز» في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع وابتسامه الجديد، حيث أرادت زين العثور على الرجل الذي لن يعجبها إلا إذا بلغ جماله في نفسها مبلغ فتنة هذه الطبيعة الحالمة وأثرها لديها..
وأخذ الناس ينتشرون بين أجواء خمرية تتهادى على ضفاف النهر الفضي وفوق أشجار العنب الخضر المطرزة بأبدع نقوش الزهور، وفوق سفوح (الجودي) الذي هو من بعض جبال جزيرة بوطان المفروشة بأبهى ديباجة من السندس المتالق.. حيث كانت الشقيقتان (ستي)و( زين) متنكرتين في لباس الرجال وهيأتهم، واندستا في صفوفهم في ظاهر الجزيرة، ولا شك انهم يحسبونها من بعض شباب قصر الأمير زين الدين وغلمانه!
وقد نجحتا في الفكرة هذه، وأتيح لكل منهما أن تجد من مختلف شباب هذه الجزيرة واسعة الأطرف من يروقها ويعجبها وكانا هذان الشابان (تاج الدين) و (مم) العاملان في قصر أخيهما الأمير زين الدين..
كانت تعيش في قصر الأمير زين الدين، مربية عجوز يقال لها (هيلانة) كانت هرمة غير أنها أقوى من الدهر ومكره، وقد شاء لها أن تجمع بين الأميرة (ستي) وأحد رجال ديوان الأمير الذي كان يدعى تاج الدين دون صعاب أو مشاكل تذكر وانتهى أمرهما بالزواج... بينما أخفقت هي ومعها الأقدار أن تمتن حبل الوصال بين الأميرة- زين- وسكرتير ديوان الأمير ( مه م )..
ففي الوقت الذي كان تاج الدين والأميرة ستي منشغلين عن الدنيا وما فيها، وقد حقق حلمهما في الوصال، ويرقدان في مهد الأحلام، غذاؤهما شهد الوصال وشرابهما كوثر الشفاه، كان العاشق (مه م) وحبيبة قلبه المضطرب بالهوى والشباب (زين) يعيشان ألم الفرقة والعذاب، ويتحملان هموم العذال ويتجرعان كؤوس الشقاء واليأس، وتأبى سنن الكون إلا أن تجري في قصتنا هذه، فتجمع بين عنصري الخير والشر وتمزج فرحة السعادة بدموع البؤس، وعنصر الشر في هذه القصة هو حاجب خاص لديوان الأمير، ويدعى (بكر ) كانت لهذا الحاجب نفس تنطوي على أشد ألوان الخبث والمكر ، وكأنما غذيت روحه بحب الفتنة ، فهو يتعشق الولوج فيها حيثما لاح له بابها. ولم يكن في مظهره قصيرا أو دميما فقط بل كان إلى ذلك اجرد الشكل باهت السحنة ذا عينين تشعان بمزيج من الحقد والكراهية والحسد، وقد استطاع (بكر) أن يجعل الأمير زين الدين يتشبث برأيه ويستبد قائلا: « تأكدوا جميعا انه قد يمكن أن تظل زين طيلة حياتها عزباء في هذا القصر، ولكن لا يمكن أبدا أن اجعلها يوما من نصيب (مه م)، ولا ادعي إلى أن تعرفوا سببا لذلك أكثر من أنني هكذا أردت، ولا داعي أيضا إلى أن تعيدوا بعد اليوم إلى مسمعي هذا الحديث إلا إذا رأيتم داعيا الى اثارة شر أنتم في غنى عنه». بعد مرور العديد من الأحداث المهمة، وانقضاء الشهور المتوالية. كانت تمر حياة زين، خلوات مع الأشباح والأطياف، وحديث مع الخيالات والأوهام يطوف كل ذلك بها، ثم يستقر في ذهنها وقلبها كل المشاعرها شيء واحد هو اسم (مه م) هو حظها المنكوب الذي أبعدها عن أليف روحها وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها!
أما (مه م) فقد كان يبكي حتى تقرحت عيناه، وظل يتوجع ويتحرق حتى كادت تنطفئ جذوة حياته. وظلت تنهار منه القوى وتخور فيه العزيمة ويصفر منه الشكل إلى أن طرحته الحمى في مكان ما على شاطئ دجلة وحيدا إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذين كانوا يعودونه ويواسونه بين كل فترة وأخرى.
لقد استطاع (مه م و زين) حينا من الزمن أن يخفيا عن الناس قصة حبهما وان يحجبا عنهما جبروت السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة، ولكن هذه الطاقة لم تدم لهما طويلا، فسرعان ما هتك من حول قلبهما الستر وانتشرت مدامعهما بين أبصار الناس، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما وتتخذ من خبرهما لحنا يسري الى كل مكان وينتهي إلى سمع الأسياد والعبيد. وراحت التعليقات المتخيلة تسبح حول ذينك المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلا مرارته وعلقمه، أقاويل كاذبة، وتسرب الخبر الى الحاجب الخبيث (بكر) الذي أوغر قلب الأمير ضد (مه م) الذي يعبث بشرف وسمعة الأمير، فصمم على قتله واعد له المكيدة كما رسمها له بكر، ولكن تدخل صديق مم «تاج الدين» جعله يستبدل بقلته، سجنه في إحدى الآبار الحالكة دون مبرر أو منطق!
وفي غياهب السجن أصيب (مه م) بشتى الأمراض منتهيا بمرض السل، أما زين فقد كان حالها ليس بأحسن من حاله فقد انتهى أمرها مهجورة في إحدى غرف القصر تبكي حظها الداثر، وحبيبها المسجون، وفي إحدى الأيام جاءها الأمير زين الدين بخطة جهنمية من حاجبه (بكر) لكي يقتل(مه م) أمام عينها، ولكنه عندما شاهدها في حال اليأس رق لها قلبه، وندم على ما فات ، وهنا قالت له زين: «لقد فرقتنا في هذه الحياة ، فوصيتي لك أن تجمعنا في مماتنا». ثم سمح لها بزيارة (مه م) في سجنه لعلها تودعه قبل الرحيل ، وعندما شاهدته ألقت بجسمها عليه حتى لفظ الاثنان أنفاسهما، وهكذا حكم الدهر أن لا يجتمع الحبيبان إلا في ظلمات تلك الحفرة، وتوارى العشاق في لحد واحد.
أما بكر فقد نال جزاءه العادل وهو الموت على يد تاج الدين صديق مم الذي أدهشته الحالة التي وصل إليها هذان العاشقان بسبب ما قام من فتنة وحسد بين الأمير وذانك الحبيبان. ومن المدهش أن (زين) أوصت بأن يدفن بكر تحت قدميهما مباشرة ! قالوا والسبب في ذلك، أن يلازمهما ويصبح حاجبا مخلصا لهما في الجنة، لأن الأقدار سخرته لهما ليصفو حبهما هذا الصفاء الروحي ولتسمو نفساهما إلى ما فوق مظاهر المادة .
وإن لبطلي القصة المؤثرة اليوم قبرين معروفين في جزيرة ابن عمر يستطيع كل من أراد أن يشاهدهما. والعجيب أن قبر مم وزين يظل محاطا بسور من ظلال الأشجار والورود.. أما قبر (بكر) فلا تكاد الأشواك تبارحه وتعلوه بغزارة!