يطلق اسم التتار أو المغول على الأقوام الذين نشئوا في منغوليا شمال الصين، وقصَّة التتار عجيبة حقًّا، ولولا أنها مُوَثَّقة في كل المصادر لقلنا: إنها خيال، أو أغرب من الخيال، فإن قومًا خرجوا من منغوليا في شمال الصين، وفي غضون سنوات معدودات تتسع دولتهم حتى تبلغ حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: (الصين ومنغوليا وفيتنام وكوريا وتايلاند وأجزاء من سيبيريا، إلى جانب مملكة لاوس وميانمار ونيبال وبوتان)، فهم قوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة، وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، قوة أكلت الأخضر واليابس، تلك هي دولة التتار أو المغول التي ظهرت في زمن الخلافة الإسلامية العباسية سنة 603هـ.
كانت حدود البلاد الإسلامية في الوقت الذي ظهرت فيه قوة التتار تبدأ من غرب الصين وتمتد عبر آسيا وأفريقيا لتصل إلى بلاد الأندلس في غرب أوروبا، وكانت متمثلة الخلافة العباسية في العراق، والأيوبيين في مصر والشام والحجاز واليمن، ودولة الموحدين في المغرب والأندلس، والدولة الغورية في الهند، وسلاجقة الروم في الأناضول، والدولة الخوارزمية في قارة آسيا، وطائفة الإسماعيلية الشيعية في بلاد فارس.
وبرغم هذه المساحة الإسلامية الواسعة التي كانت حينئذ تقترب من نصف مساحات الأراضي المعمورة في الدنيا، إلا أنه بتقسيمها إلى هذه التقسيمات انتشرت الفتن والمؤامرات، وتعددت الحروب بين المسلمين وإخوانهم في الدين، وكان وضع العالم الإسلامي حينذاك مؤلـمًا جدًا، فمع المساحات الواسعة من الأرض، ومع الأعداد الهائلة من البشر، ومع الإمكانيات العظيمة من المال والمواد والسلاح والعلوم، كانت هناك فرقة شديدة، وتدهور كبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية التي كانت في ذلك الوقت.
إضافة إلى ذلك كانت هناك حروب المسلمين المستمرة مع الصليبيين فيما عُرف بالحملات الصليبية، والحروب ضد إسبانيا والبرتغال في الأندلس، كل هذا وذاك أوهن من قوة المسلمين، وجعلهم في حالة شديدة من الضعف والوهن، وبينما كان الوضع كذلك، ظهرت قوة التتار التي قلبت الموازين، وغيرت من خريطة العالم.
ظهرت دولة التتار في أوائل القرن السابع الهجري أي في سنة 603 هجرية تقريبًا، وكان ظهورها الأول في منغوليا في شمال الصين، وكان أول زعمائها جنكيزخان، وجنكيزخان كلمة تعني قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم، أو القوي، واسمه الأصلي تيموجين، وكان رجلًا سفاكًا للدماء وقائدًا عسكريًا شديد البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به.
وكان للتتار ديانة عجيبة، هي خليط من أديان مختلفة، فقد جمع زعيمهم جنكيزخان بعض الشرائع من الإسلام والمسيحية والبوذية وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج لهم في النهاية كتابًا جعله كالدستور، وسماه الياسك أو الياسة أو الياسق.
واتصفت حروبهم بأشياء خاصة جدًا مثل: أعداد هائلة من البشر، وسرعة انتشار رهيبة، ونظام محكم وترتيب عظيم، وتحَّمل ظروف قاسية، وقيادة عسكرية بارعة، وأنهم بلا قلب حيث كانت حروبهم مع من يخالفهم حروب تخريبية غير طبيعية لا يفرقون فيها بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مدني ومحارب، وسرعان ما اتسعت مملكتهم حتى بلغت حدودها مبلغًا عظيمًا في سنوات معدودة.
وصل التتار في فتوحاتهم إلى حدود الدولة الخوارزمية التي كان يحكمها حينذاك محمد بن خوارزم شاه، وكان هناك شبه اتفاق على حسن الجوار بين محمد بن خوارزم وبين جنكيزخان، وقد ذهبت مجموعة من تجار المغول إلى مدينة أترار في مملكة خوارزم شاه من أجل التجارة، ولكن لما رآهم حاكم المدينة أمسك بهم وقتلهم.
وصل النبأ إلى جنكيزخان، فأرسل رسالة إلى محمد بن خوارزم شاه يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم، ولكن محمد بن خوارزم شاه اعتبر ذلك تعديًا على سيادة البلاد المسلمة، وأرسل له قائلًا: إنه سيحاكمهم بنفسه، ولكن لم يقتنع جنكيزخان برسالة محمد بن خوارزم شاه، ومن هنا بدأ في تجهيز جيشه لغزو الدولة الخوارزمية، ومن هنا بدأ الإعصار التتري الرهيب يدك بلاد المسلمين.
جاء جنكيزخان بجيشه الكبير في أولى غزواته التترية على البلاد الإسلامية في عام 616 هجريًا، وخرج له محمد بن خوارزم شاه صاحب الدولة الخوارزمية، والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام وقتل من الفريقين خلق كثير غير أن محمد بن خوارزم شاه بسبب أعداد المغول الهائلة اضطر للانسحاب وذهب ليحصن مدنه الكبرى، جهز جنكيزخان جيشه من جديد، ووصل بجنوده إلى مدينة بخارى فدمروها وأهلكوا أهلها، وحرقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، ثم انتقلوا إلى مدينة سمرقند المجاورة وفعلوا بها مثلما فعلوا في بخارى، حيث قتلوا أعدادًا لا تحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء.
استقر جنكيزخان في سمرقند، وأرسل عشرين ألف فارس من جنده لمطاردة محمد بن خوارزم شاه الذي كان يستقر في مدينة أورجندة عاصمة دولته، ووصل جنود التتار إلى محمد بن خوارزم شاه وحاصروه ولكنه نجح في الهروب إلى مدينة نيسابور ومنها واصل هروبه من مدينة إلى أخرى حتى وصل إلى جزيرة في وسط بحر قزوين وبقي هناك حتى ماتت فيها وحيدًا.
ععادت الفرقة التترية بعد مطاردة محمد بن خوارزم شاه، وبدأت في عام 617هـ في اجتياح أقاليم ومدن الدولة الخوارزمية، فاجتاحت أذربيجان وخراسان وخوارزم وبلخ ومرو ونيسابور وهراة والري فقتلوا وعذبوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد والعباد، ثم فعلوا مثل ذلك في كل المدن والقرى المحيطة وأعملوا فيها القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرق، وكما قيل: إنه لم تمر على البشرية منذ خلق آدم ما يشبه هذه الأفعال من قريب ولا بعيد، بل كان هذا من أعجب الأمور التي مرت بالأرض على الإطلاق.
وصل التتار في تقدمهم إلى جنوب دولة خوارزم والتي كانت تحت سيطرة جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه، فوجه جنكيزخان إليه جيشًا كثيفًا، ودارت بين قوات جلال الدين وقوات التتار معركة رهيبة في مدينة غَزنة انتصر فيها جلال الدين وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين، ثم اشتد القتال مرة أخرى في معركة كابول التي كانت أشد ضراوة وثبت فيها المسلمون وحققوا نصرًا غاليًا للمرة الثانية على التتار وأخذوا غنائم كثيرة، ولكنهم لم يستغلوا النصر الذي حققوه واختلفوا في تقسيم الغنيمة، وقاتلوا بعضهم بعضًا.
ضعف الجيش الخوارزمي وأخذ القائد جلال الدين يهرب من جنكيزخان، ولكن جنكيزخان حاصره عند نهر السند ودارت بينهما موقعة رهيبة لدرجة أن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعبًا بالنسبة إلى هذا القتال، وبينما هم في هدنة من القتال قفز جلال الدين إلى سفينة في نهر السند هاربًا إلى بلاد الهند، وفعل مثلما فعل أبوه من قبل، وبعد هروب جلال الدين انقلب جنكيزخان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر، فقتل الرجال وسبى الحريم، وأحرق الديار، وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة غَزنة التي انتصر عندها المسلمون منذ شهور قليلة.
بعد ذلك في الفترة ما بين سنة 617- 624هـ توغلت الحملات التترية في بلاد العراق فاجتاحوا البلاد، وسفكوا الدماء وأحرقوا الديار، ثم تجاوزها وتوغلوا في بلاد روسيا النصرانية، وكان سكانها جميعًا من النصارى وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الفظائع ما كانوا يرتكبونه مع المسلمين، وأكد التتار بهذه الانتصارات سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق، وما بين شرق الصين وجنوب غرب روسيا، وثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية، والتي تشمل الآن دول كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، تركمنستان، باكستان، أفغانستان، معظم إيران، أذربيجان، أرمينيا، جورجيا، الجنوب الغربي لروسيا.
ثم حدث أمر هام في سنة 624هـ وهو وفاة القائد التتري جنكيزخان، الذي بنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب، بُنيت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم ومعظمهم من المسلمين، ولم يستغل أمراء المسلمين مصيبة التتار في موت زعيمهم جنكيزخان ليجمعوا صفهم ويحرروا بلادهم، بل كانت الخلافات قائمة والحروب مستمرة، والمنطقة الإسلامية بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، ليس في العراق وفارس فقط، بل في الشام وفي مصر وفي كل ديار المسلمين.
بعد وفاة جنكيزخان تولى قيادة التتار الزعيم الجديد أوكيتاي وأخذ ينظم أمور مملكته، من سنة 624 إلى سنة 627هجرية، ثم بدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، واستكمال الحروب في منطقة روسيا، ودخول أوروبا، وتقدمت الجيوش التترية صوب العالم الإسلامي من جديد في سنة 628هـ، واجتاحت البلاد الإسلامية اجتياحًا بشعًا مرة أخرى، ودمرت في طريقها كل ما يمكن تدميره، وأكلت الأخضر واليابس، والتقى بهم جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه الذي عاد مرة أخرى بعد هروبه إلى الهند، ولكنه انهزم شر هزيمة وأسرع بالفرار مرة ثانية حتى وصل إلى إحدى القرى بشمال العراق فقتله أحد الفلاحين الأكراد انتقامًا لأخيه الذي قتلته جنود الخوارزمية.
بعد ذلك وفي سنة 635- 636هـ زحفت الجيوش التترية على روسيا ودمروها بكاملها في عامين فقط، وقتلوا أهلها، ثم في سنة 638- 639هـ بدأ التتار يجتاح أوروبا اجتياحًا رهيبًا فدمروا أوكرانيا وكرواتيا والمجر وبولندا وسلوفاكيا واستمروا حتى وصلوا إلى حدود دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبل، وذُبح منهم مئات الآلاف، ودمرت كنائسهم، وأحرقت مدنهم.
وبذلك يكون التتار استولوا في تلك الفتوحات على النصف الشرقي للأمة الإسلامية، وضموا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم، كما ضموا إلى أملاكهم نصف أوروبا تقريبًا، وأصبحت دولتهم تمتد من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، ومن سيبيريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا، وأصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع، وكان من الممكن أن تستمر الفتوحات التترية لولا أن الخاقان الكبير ملك التتار أوكيتاي مات في عام 639هـ فاضطروا أن يوقفوا الحملات لاختيار الخاقان التتري الجديد.
تولى قيادة التتار بعد أوكيتاي ابنه كيوك بن أوكيتاي، وقد كان لهذا الخاقان الجديد الرأي في وقف الفتوحات مؤقتًا وتثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة حتى يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها، وظل كيوك يحكم من سنة 639 هجرية إلى سنة 646 هجرية وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلادًا جديدة إلا فيما ندر، وبعد وفاته تولت الحكم أرملته لمدة ثلاث سنوات، لكن التتار لم يستطيعوا قبول أرملة كيوك كملكة عليهم، ومن ثم اجتمعوا في سنة 649هـ واختاروا منكوخان ليكون زعيمًا جديدًا للتتار.
كان منكوخان لديه سياسة توسعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسس الأول لدولة التتار، وشبيهة أيضًا بسياسة أوكيتاي الذي فُتحت أوروبا في عهده، كما كان قائدًا قويًا حازمًا، اختار إخوته الثلاثة ليكونوا كانوا عونًا له في تحقيق أحلامه، فجعل أخوه أريق بوقا معه في منغوليا ليدير معه الإمبراطورية الواسعة، وأما الأخ الثاني قبيلاي فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية التي تضم الصين وكوريا وما حولها، وأما الأخ الثالث فهو هولاكو الذي أصبح مسئولًا عن إدارة إقليم فارس وما حوله، مما يجعله في مواجهة الخلافة العباسية.
لم يتسرع هولاكو في اتخاذ قرار الحرب ضد الخلافة العباسية، بل ظل يعد العدة في خمس سنوات كاملة من سنة 649 هجرية إلى سنة 654 هجرية، فعقد تحالفًا قويًا مع ملوك أرمينيا والكُرج وأنطاكية النصارى، كما أقام تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وكذلك تحالف مع بعض أمراء المسلمين، ومع وزير الخليفة العباسي مؤيد الدين العلقمي الشيعي، بالإضافة إلى ذلك قام بإعداد الطرق، وتهيئة الوسائل اللازمة لضمان الإمداد والتموين للحملة، كما لجأ إلى سلاح الحرب النفسية على المسلمين.
لم يبق فاصل بين التتار والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الشيعية والتي كانت على خلاف دائم مع الخلافة العباسية، وقد وجد هولاكو أن هذه الطائفة سوف تمثل خطورة على الجيش التتري فأرسل جيوشه إلى أقوى حصونهم وهو حصن آلموت، فقامت الجيوش بمذبحة بشعة فيهم واستأصلت شأفتهم خلال سنة 655 هجرية، وبذلك أصبح الطريق مفتوحًا إلى بغداد.
وصل هولاكو إلى بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، وبعد حصارها عدة أيام أصدر أوامره في عنف وتكبر باستباحة المدينة، وانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين ويتعقبونهم في الشوارع والميادين والمنازل والمساجد حتى سالت الدماء بكثرة، ولم يقتصر التتار على قتل الرجال فقط، إنما كانوا يقتلون النساء والأطفال، بل كانوا يقتلون الرضع، وتزايد عدد القتلى في المدينة بشكل بشع، ومر اليوم الأول والثاني والثالث، والقتل لا يتوقف والإبادة لا تنتهي.
استمر القتل في المدينة أربعين يومًا، وقُتل من أهلها ألف ألف مسلم، ما بين رجال ونساء وأطفال، فكانت حرب إبادة جماعية هائلة رهيبة، مأساة من أشد مآسي التاريخ ضراوة، وانتشرت الأوبئة في بغداد بشكل مريع، حتى مات من المسلمين عدد هائل من الأمراض القاتلة، وكما يقول ابن كثير: "ومن نجا من الطعن، لم ينج من الطاعون"، بعد ذلك اتجه التتار إلى مكتبة بغداد، فأخرجوا الكتب منها وألقوا بها جميعًا في نهر دجلة حتى تحول لون مياه النهر إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وحتى قيل: أن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى، ثم انسحب هولاكو بجيشه خارج المدينة لتجنب الأوبئة، ووضع على رأس الحكم في بغداد الوزير العلقمي الشيعي، وجعل معه مستشارين من التتار.
بعد سقوط بغداد دب الرعب في أوصال العالم الإسلامي بأسره، وشعر الناس أنهم لا طاقة لهم بـهولاكو وجنوده، وسارع ملوك الشام وشمال العراق والأناضول من المسلمين يقدمون لهولاكو فروض الولاء والطاعة، ورغم ذلك انطلق هولاكو بجيشه إلى بلاد حلفائه المسلمين وأبادها وقتل أهلها ودمرها كاملة، فبدأ بحلب ثم دمشق، ثم توغل إلى جنوب فلسطين واحتلوا نابلس، ثم واصل تقدمه إلى غزة واحتلها، وأصبحت الخطوة القادمة له هي مصر، كل هذا سنة 658هـ أي بعد سنتين من سقوط الخلافة في بغداد.
بعد اجتياحهم للشام جاءت رسل التتار إلى الأمير قطز حاكم مصر تحمل رسالة من هولاكو تفيض تهديدًا ووعيدًا وإرهابًا، ولكن قطز لم يعبأ بكلمة واحدة من هذه الرسالة، وبدأ يعد العدة ويجهز جيوشه لمحاربة التتار، وقرر أن يخرج لمحاربتهم في فلسطين ولم ينتظر حتى يقدموا عليه في مصر، ووضع على مقدمة الجيش الظاهر بيبرس، ووصل كتبغا قائد التتار بجيشه إلى مكان المعركة والتقى الطرفين في سهل عين جالوت بفلسطين في 25 رمضان سنة 658هـ= 6 سبتمبر سنة 1260م.
دارت موقعة من أشرف المواقع في تاريخ المسلمين، وثبت المسلمون فيها ثباتًا هائلًا، ولكن التتار ما لبثوا أن تداركوا أنفسهم، وبدأوا يحاربون في منتهى العنف، وأظهروا مهارتهم وبراعتهم في القتال، وبدأت جيوش المسلمين تعود إلى الوراء، فقام قطز في شجاعة وألقى خوذته على الأرض، وأطلق صيحته الشهيرة الخالدة: وا إسلاماه وا إسلاماه، وانطلق يصارع ويقاتل بنفسه، حتى دب الاضطراب في قلوب التتار، وانسحبوا إلى مكان بعيد عن مكان الموقعة، وانطلق المسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، حتى فني جيش التتار بأكمله بل فنيت القوة العسكرية التترية تمامًا من بلاد الشام وتركيا وفلسطين.
ولم يُسمع عن التتار في هذه المنطقة لعشرات السنين بعد ذلك، واختفى القهر والظلم، واختفى البطش والتشريد، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأرضهم وأعراضهم، ولم يروع الناس أحد في هذه المناطق إلا بعد عين جالوت بأكثر من مائةٍ وأربعين عامًا، عندما دخل التتري تيمورلنك بلاد الشام في سنة (804هـ= 1402م) [1].
[1] راغب السرجاني: التتار من البداية إلى عين جالوت.