لم تزل الأمَّة تحتفي بالرحلة في طلب العلم وتروي كتبُها أعاجيبَ كاد ينقضي ذكرُها في عصرنا هذا، لولا ما كان من أولي بقيَّةٍ من أهل العلم يسيرون على خطى سلفهم فيُجدِّدونَ ذِكرَهم. وواحدٌ ممَّن جدَّد في صباه أمرَ هذه الرحلة؛ شغفًا بالعلم ونَهمةً به، «أحمد علي عمر الإسكندري»، الذي وُلِد في مدينة الإسكندرية (في 26 فبراير/شباط سنة 1875م)، وتعهَّده أبوه بالتعليم، وبعد أن حفظ القرآن وأجاده التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية المعروف بجامع الشيخ، وأكبَّ على تحصيل مناهج المعهد لكنَّها لم تُشبعه، فكان يقرأ الكتب التي تقع تحت يده، ومنها: قصص عنترة، وأبي زيد، وسيف بن ذي يزن، وألف ليلة وليلة ونحوها، فأذكت عنده البيان الناصع، وبرز في الإنشاء، وقرض الشعر يافعًا.
وحانت لحظة قرار الرحلة عند الإسكندري، فورَ ما أدرك أنَّ الأفق العلمي في الإسكندرية لم يعد يكفي تطلُّعَه، فرغب في إتمام دراسته في القاهرة حيث الأزهر الشريف ودار العلوم، ولكنَّ والده أبى، ولم يكن إباء والده ليُثنيه عن عزمه فصمَّم على الرحلة إلى القاهرة.
مجازفة من أجل العلم
وذات ليلة، وعلى حين غفلةٍ من أهله، جمع أحمد كتبَه وحزمها، وخرج وليس في جيبه إلَّا دريهمات ادَّخرها، وكان قد دبَّر لهذا الأمر مع صديقين شاركاه الأمنية، لكنَّهما لم يُشاركاه العزم وثبات الجنان. أمَّا أحدهما فإنَّ عزمَه لم يُسعِفْه ليتجاوزَ حدود الإسكندريَّة فقفل إليها مرَّةً أخرى، وأمَّا الآخر فإنَّه كان أثبتَ من الأوَّل حتى نفد ماله عندما وصل هو وصاحبنا إلى مدينة كفر الزيَّات فانفرطت عُرَى عزمه، وعاد الرفيق الثاني إلى الإسكندرية أيضًا.
أمَّا هو فما وَهَى في عزمِه بعد خذلان صاحبيه، فتضمَّنَتْ ساقُه همَّه واستقامت له، فكانت راحلته على طريقه اللَّاحب من مدينة كفر الزيات حتى القاهرة. فللَّه هذا الفتى أي همٍّ كان يحمله في نفسه؟ وأي شغفٍ بالعلم آنس غربته واطمأنَّ به قلبه؟ وأي عزمٍ جعله يُجدِّد ما اندرس من سير علمائنا الأُوَل في رحلتهم لطلب العلم والحديث سيرًا على أقدامهم، وهو بعدُ فتًى في الحادية عشرة أو يزيد قليلًا؟.
وهكذا التحق بالأزهر الشريف فدرس الفقه والتفسير واللغة على طريقة المتون والحواشي والتقارير، فاستقامت معرفته على منهج، لا معرفة تخبُّطٍ عشواء، ثم التحق سنة 1894م بمدرسة دار العلوم وهو في التاسعة عشرة من عمره، واجتاز اختبارها الشفوي والتحريري، وكان أصغرَ زملائه سنًّا وأوسعهم معرفة.
في دار العلوم
كان نظام الدراسة في دار العلوم في هذا الوقت جديدًا على الحياة العلميَّة في مصر؛ فقد كان الجانب العلمي في الموادِّ الدراسيَّة يُقارب الجانب الشرعي والأدبي، فاشتملت العلوم العصريَّة كالكيمياء والفيزياء (الطبيعة)، والحساب والجبر والهندسة، والقسموغرافيا (الهيئة أو الفلك) والجغرافيا، والأشياء (العلوم). كما اشتملت الدراسة على دراسة التربية (البيداجوجيا)، والتاريخ العام، والإنشاء، والرسم، وأدبيَّات اللغة العربيَّة، وكلُّ هذه العلوم لم تكن تُدرَّس في الأزهر الشريف في ذلك الوقت.
كان ناظر دار العلوم في ذلك الوقت العالم المربي «أمين سامي باشا»، وكان يعتني أشدَّ الاعتناء بطلابه، فكان يهتمُّ بأخلاقهم ودينهم وصحَّتهم، كدأبه في كلِّ المعاهد العلميَّة التي تولَّى نظارتها.
تلقَّى الشيخ أحمد الإسكندري العلم في دار العلوم على علماءٍ أجلَّاء في كافَّة التخصُّصات التي سبق ذكرها، مثل: الشيخ «حسن الطويل»، والشيخ «أحمد الحملاوي»، و«محمد جعفر بك»، و«أمين سامي باشا» وغيرهم من أهل العلم. لكنَّ أعظم شيوخه أثرًا في نفسه اثنان: الشيخ «حمزة فتح الله» الذي يقول عنه: «عُهِد إليه بالتدريس في دار العلوم فأحيا بتدريسه وتأليفه ما دثر من آثار السالفين كالجاحظ والمبرد والقالي والمرتضى، وأظهرُ ما كان ذلك في مواهبه الفتحيَّة … وهو أملأ من شاهدناه باللغة والأدب والصرف»، وكان يُرشدهم إلى قراءة المعاجم والاطِّلاع عليها لتصحيح لغتهم والتفقُّه فيها، والشيخ «أحمد مفتاح هارون» الذي كان يُدرِّسه مادَّة الإنشاء وكان الإسكندري مبرَّزًا فيها، فشجعه ونشر له موضوع إنشاء منسوبًا إليه في كتابه «مفتاح الأفكار في النثر المختار».
وكان أوَّل أمره يكتب على طريقة السجع، وهي الطريقة الشائعة في وقته، ثم بعد ذلك مال إلى أسلوب ابن خلدون في الكتابة «المرسلة الفطريَّة الخالية من السجع وتكلُّف البديع».
أمَّا طلاب دفعته فيُحصَون على أصابع اليدين ولا يتجاوزونها، وهو ممَّا تميَّزت به الدار في ذلك الوقت؛ لشروطها الصارمة في قبول الطلاب، ولصعوبة مناهجها.
وكان من عادة دار العلوم حينئذٍ أن تعقد في أوَّل كلِّ سنةٍ دراسيَّةٍ اختبارًا عامًّا لطلبة المدرسة في كتب تُعَيِّنُها لهم، ثم في المعلومات العامَّة، فكان الإسكندري في كلِّ عامٍ فارس الحلبة الذي لا يُدْرَك، فتخصُّه المدرسة بجوائزها، ولم يكن بروزه على أقرانه وتفوُّقه عليهم إلَّا بسبب كثرة القراءة والمطالعة.
ابتكار في التدريس
بعدما تخرَّج أحمد الإسكندري في دار العلوم سنة 1898م، اشتغل بالتدريس في المدارس الأميريَّة، ثم كان ناظرًا لمدرسة المعلِّمين الأوَّليَّة في الفيوم ثم المنصورة، ثم عُيِّن سنة 1907م في دار العلوم لتدريس مادتي الإنشاء والأدب العربي، فأحدث تغييرًا في مناهج تاريخ الأدب العربي، فاتَّبع طريقةً تُنمِّي ملكة البحث لدى الطلَّاب، وهي أن يُدرِّس للطلاب بِضعَ تراجم لأعلام كلِّ عصرٍ من العلماء والشعراء والأدباء دراسةً تفصيليَّة تحليليَّةً وافية، تكون مثالًا للطلَّاب ينتهجونه إذا حاولوا البحث.
وهو أوَّل من اقترح تدريس فقه اللُّغة في مدرسة دار العلوم، ولم يكن معروفًا من قبل في المدارس المصريَّة، وتقدَّم لعمل المنهج، وكان أوَّل من قام بتدريسه والتأليف فيه، وكانت لطريقته في التدريس أثرٌ كبيرٌ على الطلَّاب الذين تخرَّجوا على يديه سواءٌ في دار العلوم أم مدرسة المعلِّمين؛ فتلميذه إبراهيم المازني في مدرسة المعلِّمين الأوَّليَّة -وقد كان ناقمًا على شيوخه كبار السن- يقول: «ولا أستثني من أساتذتي إلَّا واحدًا هو الأستاذ الشيخ أحمد الإسكندري، أراني لا أزال أضن به أن أسلكه مع سواه ممَّن علَّموني في صغري».
ويقول الأستاذ عبد المنعم خلاف: «ويشهد الأدب أنِّي حين أُدرِّس العصر العباسي في كليَّة دار العلوم بالأعظميَّة أو المدرسة المتوسِّطة الغربيَّة، أستحضر صورة مجلسه في دار العلوم بمصر وإيمانه بهذا العصر وامتلاءه من علومه وآدابه وأخباره».
ويقول الشيخ علي الطنطاوي: «دخلت دار العلوم العليا، ولا أذكر من أساتذتها إلَّا الشيخ أحمد الإسكندري، مؤلِّف «الوسيط» الذي كنَّا نقرأ فيه تاريخ الأدب العربي… واستفدت من طريقته في الشرح في شرحي الأدب للطلاب لمـَّا كنت أحضر دروسه».
منهجه في القراءة
كان منهومًا بالقراءة لا يشبع منها تَمُرُّ به أيَّامٌ يقرأ فيها 15 ساعةً أو أكثر في اليوم، يقرأ في شتَّى المجالات، وكان يقتني مكتبةً عظيمة، ليس فيها كتابٌ لم يقرأه ولم يُعلِّق عليه، وكان أهمُّ ما يعنى به في قراءته -بعد أن استوعب الكتب القديمة مطبوعة ومخطوطة- هو الكتب المترجمة، أمَّا الكتب أو المقالات غير المترجمة فإنَّه كان يطلب ممَّن يُجيد الترجمة أن يُترجم له، ثم يُحرِّر هو هذه الترجمة.
فالقراءة عنده «أستاذٌ عالمٌ بكلِّ علم، ماهرٌ في كلِّ فن»، ومنهجه فيها: «إذا انتقينا كتابًا نقرؤه ينبغي أن نتفهَّمه بتمعُّنٍ حتى ترسخ له صورة مجملة في أذهاننا نستمدُّ منها عند الحاجة إليها. وألَّا نطرحه من أيدينا، حتى ننقل إلى كناشاتنا الخاصَّة أسماء مباحثه النَّافعة لنا في أعمالنا ومناقشاتنا ومحاضراتنا وأرقام صفحاتها»، ولم يكن يكتفي بذلك حتى يُنشئ للكتاب الذي ينتهي منه فهارس على حسب ما يقصد إليه، وكان يستعين في توسيع مجالات قراءته بعلماء الفنِّ الذي يُريد أن يقرأ فيه، ثم يُتابع أحدث ما نُشِر في هذا العلم بمتابعة الكتبيِّين.
ظهر أثر نهامته بالقراءة على مؤلَّفاته ومحاضراته ومجالسه، فيروي صديق له أنَّه صَحِبه وبعض خلصائه يومًا إلى دار الخَيَالة (السينما)؛ فأبدى أحدهم دهشةً ممَّا يرى، فانطلق الإسكندري يشرح لرفقائه نظريَّات عن فنِّ التصوير والعدسات وأنواعها وكيفيَّة استعمالها، ثم عن التقاط الأصوات في الأستوديوهات، فالتفت حوله جمعٌ من الناس وأقبلوا عليه معجبين به، بل ودَّ بعضهم لو أبطل صاحب الخيالة خيالته ليُتمَّ حديثه.
كتابه «الوسيط في الأدب العربي وتاريخه»
ذاع صِيتُ «أحمد الإسكندري» في أنحاء العالم الإسلامي كلِّه، لا سيَّما بعد صدور كتابه «الوسيط في الأدب العربي وتاريخه»، بالاشتراك مع زميله الشيخ «مصطفى عناني»، الذي قرَّرت وزارة المعارف تدريسه على مدارسها، وتجاوزت طبعاته المعروفة الستِّين طبعة، غير الطبعات المسروقة.
يقول د. الطاهر مكي: «وقد مارس كتاب الوسيط من النفوذ والتأثير في حياتنا الأدبيَّة إيجابًا وسلبًا على امتداد العالم العربي ما لم يُمارسه كتابٌ آخر»، وقال: «ولا يزال الناشئون حتى يومنا هذا يفيدون منه، وتعتمد عليه المدارس الثانويَّة في بعض البلاد العربيَّة… ويُمثِّل الكتاب خطًّا فاصلًا بين عهدين في التأريخ للأدب العربي؛ فهو أوَّل كتابٍ يتناول الأدب العربي جملةً من أوَّل عهده إلى يومنا هذا، ويُقسِّمها إلى العصور التي شاعت فيما بعد، ومهَّد له بالحديث عن ماهيَّة التاريخ والأدب واللغة».
ومن دلائل شهرة الكتاب وأهميَّته أنَّ الشيخ أحمد عبَّاس الأزهري، صاحب الكلِّيَّة الإسلاميَّة ببيروت، كان شرع في تصنيف كتابٍ في تاريخ آداب العربيَّة، وأملى منه عدَّة فصولٍ على تلامذته، فلمَّا ظهر كتاب (الوسيط) وجده وافيًا بالغرض، فاعتمده في تدريس هذا العلم، وأجَّل إتمام كتابه.
انتزاع كلمة الحق من فم الأعداء
في عام 1911م انتدبته وزارة المعارف للسفر إلى مؤتمر المستشرقين باليونان بصحبة الأمير أحمد فؤاد وأمير الشعراء أحمد شوقي وأحمد زكي باشا وحفني ناصف وغيرهم.
وتقدَّم في هذا المؤتمر بكتابٍ كلَّفه يعقوب أرتين باشا وكيل وزير المعارف وقتها عن آداب اللغة الدارجة المصريَّة، فتحدَّث في موضوع اللغة العربيَّة الفصحى، وقلَّة انتشارها بين الغالبيَّة العظمى من أهل الممالك الإسلاميَّة المختلفة، وعرض على جماعة المستشرقين استفتاءً في رأي يعقوب أرتين باشا: «هل يجوز أن تحلَّ في كلِّ بلدٍ لغة أهله العامِّيَّة -وهي لغة السواد الأعظم- محلَّ اللغة الفصحى في الكتابة، وتُستعمل في المخاطبة؟».
وقد اهتمَّ المستشرقون بهذا البحث وناقشوه فيه، ثم انتهوا من ذلك إلى أنَّ «اللغة العربيَّة الفصحى هي اللغة التي تصلح للبلاد الإسلاميَّة العربيَّة للتخاطب والكتابة والتأليف؛ وأنَّ من واجب حكومات هذه البلاد أن تُعنَى بنشرها بين الطبقات الشعبيَّة لتقضي على اللهجات العامِّيَّة التي لا تصلح لغةً أساسيَّةً لأممٍ تجمعها جامعة الدين والعادات والأخلاق».
أخيرًا، فقد كانت مواقف الإسكندري في الدفاع عن العربيَّة كثيرةً وقويَّة؛ فله حديثٌ آخر يطول جدًّا، لا سيَّما بحثه الذي ختم به حياته عن ترجمة المصطلحات الكيميائيَّة إلى العربيَّة، فإنَّه بحثٌ رائدٌ جليلٌ في بابه، يطول الحديث عنه.
وقد قال عنه العلَّامة اللغوي الأب أنستاس ماري الكرملي في رسالةٍ للإسكندري:
«ولو كان في الإسلام في عصرنا هذا عشرة مثلك في مصر لانتقل الحنفاء جميعهم إلى هذه الديار المباركة للاقتباس من فيض نورك المتدفق».
الوفاة
وفي منتصف الساعة الخامسة من مساء الثلاثاء (18 من صفر سنة 1357ه= 19 من أبريل سنة 1938م)، لَحِقَ العالم اللغوي الكبير أحمد بك الإسكندري إلى الرفيق الأعلى، على إثر مرضٍ ألزمه الفراش أسبوعين ولم يجد دواء الطبيب، فلكلِّ أجلٍ كتاب[1].
[1] مجلة الرسالة/ العدد 262.
موقع إضاءات.