لعلّ سورة يوسف هي السورة الوحيدة من السور الطوال في القرآن، تتمحض لسرد قصة واحدة تستغرق السورة بأكملها، دون ان يتخللها نثٌر غير قصصي: عدا الآيات التسع التي تنتهي السورة بها: وهي ـ في الواقع ـ تعقيب على القصة ذاتها.
ومن الواضح، انّ تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة: يتحرك من خلالها بطل رئيسي واحد، ثم أبطال ثانويون يتحركون ضمن ذلك البطل... أقول: ان تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة، انما يكشف عن أهمية هذه القصة وما تنطوي عليه من دلالات خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار ـ ونحن نتناول بالدارسة مثل هذه القصة.
والآن: ما هي الخطورة التي تنطوي عليها القصة أولاً؟ وما هي خطوط الشكل الفني الذي اعتمدت القصة عليه، ثانياً؟
إن أهمية قصة يوسف تتمثل في تضمنها أحداثاً ومواقف في غاية الإثارة. وهذه الاثارة ناجمة عن كونها تتصل بأهم الدوافع لدى الانسان وأشدّها ألحاحاً، وفي مقدمتها: الدافع الجنسي.
يلي ذلك: دافع (الحسد) أو (الغيرة)، وهو دافعٌ ملح بدوره لا يكاد يتحرّر الانسان منه إلاّ بالتدريب الشاق: من خلال الوعي الإسلامي بجذور هذا الدافع وطرائق تهذيبه أو التصعيد به، أو التخلّص منه.
هناك أيضاً دافعٌ ثالثٌ ملح بدوره، تكشف القصة عنه، ألا وهو دافع السيطرة أو التفوّق.
وفضلاً عن ذلك كله: ثمة دوافع وحاجات وميولٌ ومواقف تكشف القصة عنها، مبيّنةً لنا طرائق التعامل معها، واشباعها بالطريقة السوية أو الشاذّة.
هذه الحاجات والمواقف ستتبلور أمامّنا بصورة واضحة، حين نقف على تفصيلات هذه القصة، وما تحفل به من أحداث وأبطال وبيئآت ومواقف: وبخاصة أنّها جميعاً صيغت في شكلٍ قصصيٍ حافل بأنواع الاثارة الفنية.
الشكل الفني للقصة
لقد بدأت قصة يوسف على النحو التالي:
(إذ قال يوسف لا بيه:
(يا أبت: إني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).
هنا، أجابه أبوه، قائلاً:
(يا بُنّي: لا تقصص رؤياك على اخوتك، فيكيدوا لك كيداً. إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين).
إذن: القصة تعتمد على مادة حُلُميّة منذ البداية.
والحُلُمُ ـ كما هو واضح ـ يُشكّل في القصة المعاصرة بخاصة مادة فنية غنية في التقنية القصصية.
وأهمية الحُلُم تنبثق من كون الحُلُم، واحداً من أهمّ فعاليات السلوك البشري: في الجانب اللاشعوري من الشخصية. ولذلك، فإنّ استخدام مادة الحُلُم ـ في أعمالٍ قصصيّة يكتُبُها البَشرُ ـ إنّما تعدّ ذات أهمية كبيرة، نظراً لأهمية الجانب اللاشعوري من نشاط الانسان.
ونحن الآن لا يعنينا أن نتحدث عن اللاشعور بمعناه الارضي وافتراقه عن التفسير الإسلامي لللاشعور، وصلة الأحلام بذلك, بل لهذا البحث مكان آخر تحدثنا عنه مفصلاً في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي،... وإنما يهمنا الآن أن نشير فحسب إلى أهمية المادة الحلمية في العمل القصصي بصفتها واحدة من أهمّ فعاليّات السلوك: في نطاقه خارج اليقظة، أو ما يسميه البحث الأرضي: خارج (الوعي).
على أية حال... حين ننقل هذه الظاهرة الى نطاقها الإسلامي، نجد انّ الحلم وهو نمطان: صادق وكاذب، إنّما يُعدّ الصادق منه جزء من الإلهام تدفعه السماء الى الشخصية: خارج يقظتها، بُغية الافادة منه في تصحيح السلوك: في نطاق الحالم نفسه، أو نطاق الآخرين، بحيث تتحقق الافادة إمّا بنحو خاص متصل بالحالم وبمن يعنيه أمره، او بنحو عام متصل بالجماعات الانسانية كلّها أو بعضها.
وحين نعود الى قصة يوسف نجد ان المادة الحلميّة في هذه القصة قد شملت هذه الانواع الثلاثة من الأحلام، أي:
1 ـ الحلم الخاص بشخصية الحالم نفسه.
2 ـ الحلم الخاص بمن يعنيه أمره.
3 ـ الحلم المتصل بالجماعات الانسانية.
اما الحلم الخاص بشخصية الحالم، فقد تمثّل في ثلاثة أحلام:
أ ـ حلم يوسف في رؤيته لأحد عشر كوكباً.
ب ـ ج ـ حُلُمَيْ صاحِبَيْهِ في السجن: في رؤية أحدهما يعصر خمراً، ورؤية الآخر حاملاً فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه:
(ودخل معه السجن فَتَيَان، قال أحدهما: إنّي أراني أعصر خمراً. وقال الآخر: إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تاكل الطير منه).
وهذا كله فيما يتصل بشخصية الحالم.
أمّا فيما يتصل بمن يعنيه أمره، فهو حُلُم يوسف بما يتصل بسلوك إخوته. ثم حُلُما صاحبيه من حيث صلتهما بالملك الذي يخدمه الاول، ويصلب الآخر.
وأمّا النوع الثالث من الأحلام التي تتصل بالجماعة الانسانية ـ في هذه القصةـ فهو: حُلُم المَلِك الذي رواه على النحو التالي:
(قال المِلُك:
(إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكلهن سبعُ عجاف. وسبع سنبلات خُضر وأُخَرَ يابسات)
وهذا الحلم يتصل ـ ليس بالحالم نفسه ـ بل برعيته أجمع من حيث خصب الأرض وجدبها.
اذن: الانواع الثلاثة من الأحلام، وجدت طريقها في هذه القصة الحافلة بالأسرار الفنية المثيرة:
ليس هذا فحسب... فالمادة الحلمية لم تقتصر ـ في هذه القصة ـ على استقطابها للانواع الثلاثة من الاحلام ـ بل تجاوزته أيضاً، إلى مهمة فنية أخرى هي: مهمة تفسير الأحلام الثلاثة.
إن تفسير الحلم يشكل بدوره جزء خطيراً من السلوك البشري.
فإذا كان الحلم فعاليةً لا شعورية أو فعالية غيبية، فان تفسيره هو الذي يمنح المعنى او الدلالة التي ينطوي السلوك عليها.
من هنا، فإن المادة الحلمية في قصة يوسف قد استكملت فنياً حينما أتبعت الحلم بتفسيره، وتوضيح دلالاته.
فالانواع الثلاثة من الأحلام، لم يتركها النص القرآني بلا جواب، بل أتبع كلاً منها بالتفسير الذي ينطوي الحلم عليه.
ونقصد بالأحلام الثلاثة: أنواع الحلم من حيث صلته بالحالم، أو بمن يعنيه من الخاصة، أو بالجماعات الانسانية على نحو ما فصّلنا الحديث عنه.
المصدر: درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني - بتصرف