قصة مسير الملك ذو القرنين
إلى أقصى شرق الأرض من حيث تطلع الشمس
*
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) :
كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَدْ مَلَكَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَكَانَ لَهُ خَلِيلٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُهُ رَفَائِيلُ ، يَأْتِيهِ وَيَزُورُهُ .
فَبَيْنَمَا هُمَا ذَاتَ يَوْمٍ يَتَحَدَّثَانِ إِذْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : يَا رَفَائِيلُ ، حَدِّثْنِي عَنْ عِبَادَتِكُمْ فِي السَّمَاءِ ؟
فَبَكَى رَفَائِيلُ وَقَالَ : يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، وَمَا عِبَادَتُكُمْ عِنْدَ عِبَادَتِنَا ! إِنَّ فِي السَّمَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ هُوَ قَائِمٌ أَبَداً لَا يَجْلِسُ وَمِنْهُمُ السَّاجِدُ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ أَبَداً ، وَمِنْهُمُ الرَّاكِعُ لَا يَسْتَوِي قَائِماً أَبَداً يَقُولُ : ﴿سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ ، رَبَّنَا مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ﴾ .
فَبَكَى ذُو الْقَرْنَيْنِ بُكَاءً شَدِيداً ثُمَّ قَالَ : إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَعِيشَ فَأَبْلُغَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّي حَقَّ طَاعَتِهِ .
فَقَالَ رَفَائِيلُ : أَوَتُحِبُّ ذَلِكَ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ؟
قَالَ نَعَمْ .
فَقَالَ رَفَائِيلُ : فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَيْناً فِي الْأَرْضِ تُسَمَّى عَيْنَ الْحَيَاةِ ، فِيهَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَزِيمَةٌ أَنَّهُ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَمُتْ أَبَداً حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ الْمَوْتَ .
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ مَوْضِعَ تِلْكَ الْعَيْنِ ؟
فَقَالَ رَفَائِيلُ : لَا ، غَيْرَ أَنَّا نَتَحَدَّثُ فِي السَّمَاءِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ ظُلْمَةً لَا يَطَؤُهَا إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ . فَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنِ فِي تِلْكَ الظُّلْمَةِ .
فَجَمَعَ ذُو الْقَرْنَيْنِ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَهْلَ دِرَاسَةِ الْكُتُبِ وَآثَارِ النُّبُوَّةِ فَقَالَ لَهُمْ :
أَخْبِرُونِي هَلْ وَجَدْتُمْ فِي مَا قَرَأْتُمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا جَاءَكُمُ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ فِي الْأَرْضِ عَيْناً سَمَّاهَا عَيْنَ الْحَيَاةِ ؟
فَقَالَتِ الْعُلَمَاءُ : لَا !
فَقَالَ عَالِمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاسْمُهُ الْخَضِرُ : إِنِّي قَرَأْتُ وَصِيَّةَ آدَمَ فَوَجَدْتُ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْأَرْضِ ظُلْمَةً لَمْ يَطَأْهَا إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ وَوَضَعَ فِيهَا عَيْنَ الْخُلْدِ .
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : صَدَقْتَ !
ثُمَّ حَشَدَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءَ وَالْأَشْرَافَ وَالْمُلُوكَ وَسَارَ يَطْلُبُ مَطْلَعَ الشَّمْسِ ، فَسَارَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى أَنْ بَلَغَ طَرَفَ الظٌّلْمَةِ ، فَإِذَا ظُلْمَةٌ تَفُورُ مِثْلَ الدُّخَانِ لَيْسَتْ بِظُلْمَةِ لَيْلٍ ، فَعَسْكَرَ هُنَاكَ ثُمَّ جَمَعَ عُلَمَاءَ عَسْكَرِهِ فَقَالَ :
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْلُكَ هَذِهِ الظُّلْمَةَ .
فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّهُ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ لَمْ يَطْلُبُوا هَذِهِ الظُّلْمَةَ ! فَلَا تَطْلُبْهَا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَنْفَتِقَ عَلَيْكَ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ وَيَكُونَ فِيهِ فَسَادُ أَهْلِ الْأَرْضِ .
فَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ أَنْ أَسْلُكَهَا .
فَقَالُوا : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُفَّ عَنْ هَذِهِ الظُّلْمَةِ وَلَا تَطْلُبْهَا فَإِنَّا لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ إِنْ طَلَبْتَهَا ظَفِرْتَ بِمَا تُرِيدُ وَلَمْ يَسْخَطِ اللَّهُ عَلَيْنَا لَاتَّبَعْنَاكَ ، وَلَكِنَّا نَخَافُ الْعَنَتَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفَسَاداً فِي الْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا .
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : لَا بُدَّ مِنْ أَنْ أَسْلُكَهَا .
فَقَالَتِ الْعُلَمَاءُ : شَأْنَكَ بِهَا .
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : أَيُّ الدَّوَابِّ أَبْصَرُ ؟
قَالُوا : الْخَيْلُ .
قَالَ : فَأَيُّ الْخَيْلِ أَبْصَرُ ؟
قَالُوا : الْإِنَاثُ .
قَالَ : فَأَيُّ الْإِنَاثِ أَبْصَرُ ؟
قَالُوا : الْبِكَارَةُ .
فَأَرْسَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَجُمِعَ لَهُ سِتَّةُ آلَافِ فَرَسٍ أُنْثَى بِكَارَةٌ ثُمَّ انْتَخَبَ مِنْ عَسْكَرِهِ أَهْلَ الْجَلْدِ وَالْعَقْلِ سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ ، فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ كُلَّ رَجُلٍ فَرَساً وَعَقَدَ لِلْخَضِرِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ عَلَى أَلْفَيْنِ وَبَقِيَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ لِلنَّاسِ :
لَا تَبْرَحُوا مِنْ مُعَسْكَرِكُمْ هَذَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَإِنْ نَحْنُ رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ وَإِلَّا فَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ .
فَقَالَ الْخَضِرُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّا نَسْلُكُ ظُلْمَةً لَا نَدْرِي كَمِ السَّيْرُ فِيهَا وَلَا يُبْصِرُ بَعْضُنَا بَعْضاً ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِالضَّلَالِ إِذَا أَصَابَنَا ؟
فَدَفَعَ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَى الْخَضِرِ خَرَزَةً حَمْرَاءَ فَقَالَ : حَيْثُ يُصِيبُكُمُ الضَّلَالُ فَاطْرَحْ هَذِهِ فِي الْأَرْضِ ، فَإِذَا صَاحَتْ فَلْيَرْجِعْ أَهْلُ الضَّلَالِ إِلَيْهَا أَيْنَ صَاحَتْ .
فَصَارَ الْخَضِرُ بَيْنَ يَدَيْ ذِي الْقَرْنَيْنِ يَرْتَحِلُ الْخَضِرُ وَيَنْزِلُ ذُو الْقَرْنَيْنِ ، فَبَيْنَمَا الْخَضِرُ يَسِيرُ إِذْ عَرَضَ لَهُ وَادٍ فَظَنَّ أَنَّ الْعَيْنَ فِي الْوَادِي وَأُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ ، فَقَامَ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ :
قِفُوا وَلَا يَبْرَحَنَّ رَجُلٌ مِنْ مَوْقِفِهِ ، فَرَمَى بِالْخَرَزَةِ فَمَكَثَ طَوِيلًا ثُمَّ أَجَابَتْهُ الْخَرَزَةُ ، فَطَلَبَ صَوْتَهَا فَانْتَهَى إِلَيْهَا ، فَإِذَا هِيَ عَلَى جَانِبِ الْعَيْنِ .
فَنَزَعَ الْخَضِرُ ثِيَابَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْعَيْنَ ، فَإِذَا مَاءٌ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ ، فَشَرِبَ وَاغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ ثُمَّ رَمَى بِالْخَرَزَةِ نَحْوَ أَصْحَابِهِ فَوَقَفَتِ الْخَرَزَةُ فَصَاحَتْ ، فَرَجَعَ الْخَضِرُ إِلَى صَوْتِهَا وَإِلَى أَصْحَابِهِ ، فَرَكِبَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ :
سِيرُوا بِاسْمِ اللَّهِ ، وَمَرَّ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَأَخْطَأَ الْوَادِيَ فَسَلَكُوا تِلْكَ الظُّلْمَةَ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَلَيْلَةً ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى ضَوْءٍ لَيْسَ بِضَوْءِ شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ وَإِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ وَرَمْلَةٍ خَشْخَاشَةٍ أَيْ مُصَوِّتَةٍ ، فَإِذَا هُوَ بِقَصْرٍ مَبْنِيٍّ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ طُولُهُ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ عَلَيْهِ بَابٌ ، فَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعَسْكَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَحْدَهُ حَتَّى دَخَلَ الْقَصْرَ ، فَإِذَا حَدِيدَةٌ قَدْ وُضِعَتْ طَرَفَاهَا عَلَى جَانِبِ الْقَصْرِ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا ، وَإِذَا بِطَائِرٍ أَسْوَدَ شَبِيهٍ بِالْخُطَّافِ مَزْمُومٍ بِأَنْفِهِ إِلَى الْحَدِيدَةِ مُعَلَّقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَلَمَّا سَمِعَ الطَّائِرُ خَشْخَشَةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ قَالَ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ أَنَا ذُو الْقَرْنَيْنِ ! فَقَالَ الطَّائِرُ : يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، أَمَا كَفَاكَ مَا وَرَاكَ حَتَّى وَصَلْتَ إِلَيَّ ؟!
ثُمَّ قَالَ الطَّائِرُ : يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، حَدِّثْنِي !
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : سَلْ .
فَقَالَ : هَلْ كَثُرَ بِنَاءُ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ فِي الْأَرْضِ ؟
قَالَ نَعَمْ .
فَانْتَفَضَ الطَّائِرُ انْتِفَاضَةً ثُمَّ انْتَفَخَ فَبَلَغَ ثُلُثَ الْحَدِيدَةِ ثُمَّ قَالَ :
يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَلْ كَثُرَتِ الْمَعَازِفُ ؟
قَالَ نَعَمْ .
فَانْتَفَضَ الطَّيْرُ وَامْتَلَأَ حَتَّى مَلَأَ مِنَ الْحَدِيدَةِ ثُلُثَيْهَا ثُمَّ قَالَ :
هَلْ كَثُرَتْ شَهَادَاتُ الزُّورِ فِي الْأَرْضِ ؟
قَالَ نَعَمْ .
فَانْتَفَضَ الطَّائِرُ انْتِفَاضَةً فَمَلَأَ الْحَدِيدَةَ وَسَدَّ مَا بَيْنَ جِدَارَيِ الْقَصْرِ فَخَشِيَ وَخَافَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَفَرِقَ فَرَقاً شَدِيداً .
فَقَالَ الطَّائِرُ : يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ لَا تَخَفْ ، حَدِّثْنِي .
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : سَلْ .
قَالَ : هَلْ يَتْرُكُ النَّاسُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟
قَالَ لَا .
فَانْضَمَّ الطَّائِرُ ثُلُثاً ثُمَّ قَالَ :
يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَلْ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بَعْدُ ؟
قَالَ لَا .
فَانْضَمَّ الطَّائِرُ ثُلُثاً ثُمَّ قَالَ :
يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَلْ تَرَكَ النَّاسُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ بَعْدُ ؟
قَالَ لَا .
فَصَارَ الطَّائِرُ كَمَا كَانَ ثُمَّ قَالَ اسْلُكْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَذِهِ الدَّرَجَةَ دَرَجَةً إِلَى أَعْلَى الْقَصْرِ ، فَسَلَكَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ خَائِفٌ وَجِلٌ لَا يَدْرِي عَلَى مَنْ يَهْجُمُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى صَدْرِ الدَّرَجِ ، فَإِذَا سَطْحٌ مَمْدُودٌ عَلَيْهِ صُورَةُ رَجُلٍ شَابٍّ قَائِمٍ ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ رَافِعاً وَجْهَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَاضِعاً يَدَيْهِ عَلَى فِيهِ ، فَلَمَّا سَمِعَ خَشْخَشَةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ قَالَ مَا هَذَا ؟!
قَالَ أَنَا ذُو الْقَرْنَيْنِ .
قَالَ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ وَأَنَا أَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبِّي يَأْمُرُنِي أَنْ أَنْفُخَ فَأَنْفُخُ .
ثُمَّ أَخَذَ صَاحِبُ الصُّورِ شَيْئاً مِنَ بَيْنِ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ حَجَرٌ فَقَالَ :
خُذْهَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، فَإِنْ شَبِعَ هَذَا شَبِعْتَ وَإِنْ جَاعَ هَذَا جُعْتَ .
فَأَخَذَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الْحَجَرَ وَنَزَلَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَحَدَّثَهُمْ بِأَمْرِ الطَّائِرِ وَمَا قَالَ لَهُ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَمَا قَالَ صَاحِبُ الصُّورِ ، ثُمَّ جَمَعَ عُلَمَاءَ عَسْكَرِهِ فَقَالَ :
أَخْبِرُونِي عَنْ هَذَا الْحَجَرِ مَا أَمْرُهُ ؟
فَقَالُوا : أَيُّهَا الْمَلِكُ أَخْبِرْنَا بِمَا قَالَ لَكَ فِيهِ صَاحِبُ الصُّورِ ؟
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : إِنَّهُ قَالَ لِي إِنْ شَبِعَ هَذَا شَبِعْتَ وَإِنْ جَاعَ جُعْتَ .
فَوَضَعَتِ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ الْحَجَرَ فِي إِحْدَى كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ وَأَخَذُوا حَجَراً مِثْلَهُ فَوَضَعُوهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى ، ثُمَ رَفَعُوا الْمِيزَانَ فَإِذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ يَمِيلُ ، فَوَضَعُوا مَعَهُ آخَرَ وَرَفَعُوا الْمِيزَانَ فَإِذَا هُوَ يَمِيلُ بِهِنَّ ، فَلَمْ يَزَالُوا يَضَعُونَ حَتَّى وَضَعُوا أَلْفَ حَجَرٍ فَرَفَعُوا الْمِيزَانَ فَمَالَ بِالْأَلْفِ جَمِيعاً . فَقَالَتِ الْعُلَمَاءُ : انْقَطَعَ عِلْمُنَا دُونَ هَذَا لَا نَدْرِي أَسِحْرٌ هَذَا أَمْ عِلْمُ مَا لَا نَعْلَمُهُ ؟!
فَقَالَ الْخَضِرُ وَكَانَ قَدْ وَافَاهُ : نَعَمْ ! أَنَا أَعْلَمُهُ .
فَأَخَذَ الْخَضِرُ الْمِيزَانَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَوَضَعَهُ فِي إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ ، فَأَخَذَ حَجَراً مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ فَوَضَعَهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ أَخَذَ كَفّاً مِنْ تُرَابٍ فَوَضَعَهُ عَلَى الْحَجَرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ ثُمَّ رَفَعَ الْمِيزَانَ ، فَاسْتَوَى فَخَرَّتِ الْعُلَمَاءُ سُجَّداً لِلَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ، هَذَا عِلْمٌ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُنَا وَاللَّهِ لَقَدْ وَضَعْنَا أَلْفاً فَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ .
فَقَالَ الْخَضِرُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّ سُلْطَانَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَاهِرٌ لِخَلْقِهِ ، وَأَمْرَهُ نَافِذٌ فِيهِمْ وَحُكْمَهُ جَارٍ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى خَلْقَهُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ، فَابْتَلَى الْعَالِمَ بِالْعَالِمِ وَالْجَاهِلَ بِالْجَاهِلِ وَالْعَالِمَ بِالْجَاهِلِ وَالْجَاهِلَ بِالْعَالِمِ ، وَإِنَّهُ ابْتَلَاكَ بِي وَابْتَلَانِي بِكَ .
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : صَدَقْتَ فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذَا الْمَثَلِ ؟
فَقَالَ الْخَضِرُ : هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ لَكَ صَاحِبُ الصُّورِ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكَّنَ لَكَ فِي الْبِلَادِ وَأَعْطَاكَ مِنْهَا مَا لَمْ يُعْطِ أَحَداً وَأَوْطَأَكَ مِنْهَا مَا لَمْ يُوطِئْ أَحَداً فَلَمْ تَشْبَعْ ، فَأَبَتْ نَفْسُكَ شَرَهاً حَتَّى بَلَغْتَ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ مَا لَمْ يَطَأْهُ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ لَكَ صَاحِبُ الصُّورِ ، إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَا يَشْبَعُ أَبَداً دُونَ أَنْ يُحْثَى عَلَيْهِ التُّرَابُ وَلَا مَلَأَ جَوْفَهُ إِلَّا التُّرَابُ .
فَبَكَى ذُو الْقَرْنَيْنِ ثُمَّ قَالَ : صَدَقْتَ يَا خَضِرُ فِي ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ ، لَا جَرَمَ لَا أَطْلُبُ أَثَراً فِي الْبِلَادِ بَعْدَ مَسِيرِي هَذَا حَتَّى أَمُوتَ .
ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعاً حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ الظُّلْمَةِ وَطَأَ الْوَادِيَ الَّذِي فِيهِ الزَّبَرْجَدُ ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُ لَمَّا سَمِعُوا خَشْخَشَةً تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَأَقْدَامِ دَوَابِّهِمْ : مَا هَذَا تَحْتَنَا يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ ؟!
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ : خُذُوا مِنْهُ ، فَإِنَّهُ مَنْ أَخَذَ نَدِمَ وَمَنْ تَرَكَ نَدِمَ .
فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ الشَّيْءَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الظُّلْمَةِ إِذَا هُوَ الزَّبَرْجَدُ .
فَنَدِمَ الْآخِذُ وَالتَّارِكُ .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ :
رَحِمَ اللَّهُ أَخِي ذَا الْقَرْنَيْنِ ، لَوْ ظَفِرَ بِوَادِي الزَّبَرْجَدِ فِي مُبْتَدَاهُ مَا تَرَكَ مِنْهَا شَيْئاً حَتَّى يُخْرِجَهُ إِلَى النَّاسِ ، لِأَنَّهُ كَانَ رَاغِباً فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ ظَفِرَ بِهِ وَهُوَ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا .
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ وَمَلِكَ مُلُوكَ الطَّوَائِفِ وَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ بِشَهْرَرُوزَ .
المصدر : (البحار : ج57، ص112.)
*
عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) قَالَ :
عَنْ الْبَاقِرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ :
﴿وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ .
وَكُنْتُ مُطْرِقاً إِلَى الْأَرْضِ ، فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى فَوْقُ ثُمَّ قَالَ :
ارْفَعْ رَأْسَكَ !
فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَنَظَرْتُ إِلَى السَّقْفِ قَدِ انْفَرَجَ حَتَّى خَلَصَ بَصَرِي إِلَى نُورٍ سَاطِعٍ وَحَارَ بَصَرِي دُونَهُ .
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِي : رَأَى إِبْرَاهِيمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هَكَذَا .
ثُمَّ قَالَ لِي : أَطْرِقْ ! فَأَطْرَقْتُ .
ثُمَّ قَالَ : ارْفَعْ رَأْسَكَ ! فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا السَّقْفُ عَلَى حَالِهِ .
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَقَامَ وَأَخْرَجَنِي مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ وَأَدْخَلَنِي بَيْتاً آخَرَ ، فَخَلَعَ ثِيَابَهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَاباً غَيْرَهَا ثُمَّ قَالَ لِي : غُضَّ بَصَرَكَ !
فَغَضَضْتُ بَصَرِي . فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَا تَفْتَحْ عَيْنَيْكَ .
فَلَبِثْتُ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ لِي : تَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ ؟
قُلْتُ لَا !
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَنْتَ فِي الظُّلْمَةِ الَّتِي سَلَكَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ .
فَقُلْتُ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَفْتَحَ عَيْنِي فَأَرَاكَ ؟
فَقَالَ لِي : افْتَحْ فَإِنَّكَ لَا تَرَى شَيْئاً .
فَفَتَحْتُ عَيْنِي فَإِذَا أَنَا فِي ظُلْمَةٍ لَا أُبْصِرُ فِيهَا مَوْضِعَ قَدَمَيَّ .
ثُمَّ سَارَ قَلِيلًا وَوَقَفَ فَقَالَ : هَلْ تَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ ؟
فَقُلْتُ لَا أَدْرِي !!
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَى عَيْنِ الْحَيَاةِ الَّتِي شَرِبَ مِنْهَا الْخَضِرُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) .
وَسِرْنَا فَخَرَجْنَا مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ إِلَى عَالَمٍ آخَرَ ، فَسَلَكْنَا فِيهِ فَرَأَيْنَا كَهَيْئَةِ عَالَمِنَا هَذَا فِي بِنَائِهِ وَمَسَاكِنِهِ وَأَهْلِهِ ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى عَالَمٍ ثَالِثٍ كَهَيْئَةِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَتَّى وَرَدْنَا عَلَى خَمْسَةِ عَوَالِمَ .
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِي : هَذِهِ مَلَكُوتُ الْأَرْضِ وَلَمْ يَرَهَا إِبْرَاهِيمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، وَإِنَّمَا رَأَى مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ عَالَماً كُلُّ عَالَمٍ كَهَيْئَةِ مَا رَأَيْتُ . كُلَّمَا مَضَى مِنَّا إِمَامٌ سَكَنَ إِحْدَى هَذِهِ الْعَوَالِمِ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمُ الْقَائِمَ فِي عَالَمِنَا الَّذِي نَحْنُ سَاكِنُوهُ .
ثُمَّ قَالَ لِي : غُضَّ بَصَرَكَ !
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَإِذَا فِي الْبَيْتِ الَّذِي خَرَجْنَا مِنْهُ ، فَنَزَعَ ذَلِكَ الثِّيَابَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَعُدْنَا إِلَى مَجْلِسِنَا .
فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ ، كَمْ مَضَى مِنَ النَّهَارِ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ثَلَاثُ سَاعَاتٍ .
المصدر : (الاختصاص : ص323.)