لست من مشايعي هذه اللغة، حتى لو أوردت هنا أمثلة تجيزها بتخريجات متباينة، كأن تكون الكلمة الثانية (الفاعل) بدلاً، أو أن يكون المصاحب للفعل لا محل له في الإعراب.
يقول ابن مالك:
وجرِّد الفعل إذا ما أُسنِدا
لاثنين أو جمع كفاز الشُّهدا
مع ذلك، فهناك لغة اصطُلح عليها (أكلوني البراغيث)، وهي تجيز معنى "فاعلين" لفعل واحد، فواو الجماعة والبراغيث يدلان على من قام بالفعل.
ونحن في الدارجة نقول غلّبوني الأولاد، سألوني الناس، رجعوا الحجاج...إلخ
يقول لنا ابن مالك إن الفعل يجب إفراده حتى لو كان الفاعل مثنًى أو مجموعًا- أي لا تتصل به علامة تثنية ولا علامة جمع، فنقول: سافر علي، وسافر الأخوان، وسافر الرجال، ونجحت الطالبتان، ونجحت الطالبات، ويبارك الأهلون.
أما لغة (أكلوني البراغيث) فيسميها ابن مالك لغة: "يتعاقبون فيكم ملائكة" (لأن هناك حديثًا شريفًا توقف فيه على هذا الاستخدام- صحيح البخاري، رقم 555).
وعليه فإننا نخطّئ من يقول اليوم: عادوا الأخوة، ضحكتا الفتاتان.
تلك هي القاعدة المطّردة في لغتنا الفصحى شعرًا ونثرًا.
أصل الاستعمال:
كانت قبيلة طَـيّـِئ تلحق الفعل علامة التثنية أو الجمع (انظر: الخفاجي- شرح دُرّة الغوّاص، ص 152، والقاموس المحيط ج4، 413 (الواو)، كذلك وردت هذه اللغة في قبيلة بَلْحارث بن كعب وقبيلة أزْد شَنُوءة- وهما من قبائل اليمن ولهما وشيجة صلة بقبيلة طَيِّـئ.
لا نستبعد وجود هذه الظاهرة في العربية القديمة، فهي قائمة في اللغات السامية، ومنها العبرية: أكلوا الضيوف= אכלו האורחים، وقرأت لها نماذج على الشبكة وردت في الأمهرية وفي الأكدية والسُّريانية.
عدَّ الحريري هذه الظاهرة من اللحن، وهذا يدل على شيوعها فعلاً (دُرّة الغواص، ص 145- مادة 96)، لكن شارحه الخَفاجي رد عليه فقال:
"وليس الأمر كما ذكره، فإن في هذه لغة قوم من العرب، يجعلون الألف والواو حرفي علامة للتثنية والجمع، وتعرف بين النحاة بلغة "أكلوني البراغيث" لأنه مثالها الذي اشتهرت به لغة طيئ، كما قاله الزمَخْشَري، وقد وقع منها في الآيات والأحاديث وكلام الفصحاء ما لا يُحصى"
(شرح درة الغواص، ص 152).
فمن الآيات التي وردت فيها هذه الظاهرة:
وأسرّوا النجوى الذين ظلموا- الأنبياء، 3- أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بيّن من هم، فقال: الذين – وهي بدل من الواو في كلمة (أسروا)، وقيل على حذف القول، فهي فاعل آخر، وتقديره – يقول الذين...، وقول آخر إن (الذين) مفعول به لفعل محذوف تقديره (أعني).
كانت هناك آراء مختلفة للمفسرين والنحاة واللغويين لكي تسوّغ هذا الاستخدام.
ومن الآيات التي توقف عليها النحاة كذلك: ثم عَمُوا وصمّوا كثير منهم- المائدة، 71.
لكن العربية الفصيحة المعيارية تخلصت من هذه الظاهرة رغم أننا ما زلنا نحتفظ بأمثلة من التراث ونحفظها.
عُرفت الظاهرة باسم (أكلوني البراغيث)، لأن سيبويهِ مثّل لها في الكتاب، وذكر التعبير على أنه للخليل بن أحمد ( الكتاب، ج1، ص276) فقال بعد أن ذكر الخليل:
"واعلم أن من العرب من يقول – ضربوني قومك، ضرباني أخواك، فشبهوا هذه بالتاء التي يظهرونها في "قالت" فلانة، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامة، كما جعلوا للمؤنث علامة" (ج1، ص 275- مؤسسة الأعلمي).
وعليه فهناك من أعرب (وأسروا) – الواو علامة جمع، (الذين) فاعل في محل رفع.
ما أكثر أبيات الشعر التي تورد هذه الظاهرة، أورد منها:
رأين الغواني الشيبَ لاح بعارضي
فأعرضن عني بالخدود النواضر
(أي رأت الغواني)
نسب هذا البيت في أكثر من مصدر لأبي عبد الرحمن العُتْبي (منها: الأغاني، ج 14، ص 199 دار الفكر)، لكني وجدته أيضًا منسوبًا إلى عمر بن أبي ربيعة (ديوانه، ص 195- دار الكتاب العربي):
ابن قيس الرُّقَيّات:
تولّى قتال المارقين بنفسه
وقد أسلماه مُبْعَد وحَميم
(أي أسلمه مبعد وحميم)
عروة بن الورد:
دعيني للغنى أسعى فإني
رأيت الناس شرُّهمُ الفقيرُ
وأبعدهم وأهونهم عليهم
وإن كانا له نسبٌ وخِيرُ
(أي كان له نسب وخير)
مجنون ليلى:
ولو أحدقوا بي الإنس والجن كلهم
لكي يمنعوني أن أجيك لجيتُ
آخر:
يلومونني في اشتراء النخيـ (م) ل أهلي فكلهمُ يعذل
من الطريف أن الذين أشاعوا التعبير "أكلوني البراغيث" لم يفطنوا إلى تحويل الضمير إلى الغائب فيقولون: "أكلوه أو أكلوها البراغيث"، فلماذا "أكلوني"؟