صورة أرشيفية لجندي ألماني
إميل أمين - القاهرة - سكاي نيوز عربية
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعيون العالم على ألمانيا وجيشها، ويدور السؤال على الألسنة: هل تعاود برلين سيرتها العسكرية الأولى مرة أخرى؟
وشهدت الأيام القليلة الماضية احتدام النقاش حول تحوّل ألمانيا إلى قوة عسكرية عالمية من جديد، وبخاصة بعد اعتزام وزيرة الدفاع الألمانية، أنغريت كرامب كارينباور، تحويل جيش بلادها إلى قوة كبرى فاعلة خارجيا وداخليا.
سبعة عقود ونيف هي عمر ما عرف بـ"الطابع التحريمي"، أي منع ألمانيا من بناء قوة مسلحة جديدة يمكنها عند لحظة بعينها أن تكون حجر عثرة أوروبيا ودوليا، والجميع لا ينسى ست سنوات من "الحرب الكونية" الطاحنة التي سقط فيها أكثر من 70 مليون قتيل من جراء رغبة ألمانية نازية.
ويمكن اليوم الجزم بأن ألمانيا تخلصت من ذلك العبء الإيديولوجي السيء، غير أن واقع الحال فعليا يشير إلى أن خطط نشوء وارتقاء العسكرية الألمانية مرة جديدة، لا تزال تواجه بمخاوف كبيرة نظرا لرواسب تاريخية ارتبطت بسمعة هذا الجيش وصورته، فهل من جدل ألماني داخلي تجاه تلك القضية؟
وقبل النظر إلى خارج ألمانيا أوروبيا أو أميركيا، يمكن التأكيد بوجود نقاشات ساخنة تدور عبر الأطر السياسية للدوائر الحزبية الألمانية، حيث كانت قضية ترديد وعد الانضمام إلى الجيش الألماني مبعثها منذ بضعة أيام.
فالوعد الذي يقول: "أنذر نفسي لخدمة جمهورية ألمانيا الاتحادية بوفاء والدفاع بشجاعة عن حق الشعب الألماني وحريته "، والذي يريد الشباب الألماني ترديده أمام عموم الألمان قبل التحاقهم بالخدمة العسكرية، لقى تشجيعا من وزيرة الدفاع الألمانية ومن أطراف أخرى قوية فاعلة مثل الحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، والأسقف البروتستانتي العسكري، زيغورد رينك ساند، في حين بدا حزب اليسار وحده من يعارض هذا الوعد.
الذين يوافقون على القسم يؤكدون أنها خطوة سليمة في سياق تصحيح الأوضاع ورفع "الصورة التحريمية" التي انسحبت على ألمانيا منذ العام 1945، ويرون أنه من حق الجيش الألماني أن يظهر إلى العلن وأن يشارك بقوة وفاعلية داخل البلاد بداية، وأن يقوم بدوره على الصعيد العالمي، وأن ملفات التاريخ الخاصة بالحرب العالمية الثانية قد ألقيت في بحور النسيان.
إلا أنه على الجانب المقابل هناك من تجتاحه المخاوف من تلك الصحوة لاسيما إذا وضعت في الاعتبار أجواء عودة اليمين الألماني المتطرف والذي يكشف يوما تلو الآخر عن ميول تستدعي ذاكرة العقود الأولى من القرن العشرين، وارتفاع الأصوات الداعية إلى "الرايخ الثالث".
ليس سرا أن هناك اليوم في الداخل الألماني من يؤمن بفكر "ألمانية الآرية"، وألمانيا فوق الجميع، وهذا ما حدث قبل بضعة أشهر في إحدى المدن الألمانية وهي كيمنتس، حيث نزل إلى الشوارع آلاف من مواطني المدينة ملوحين بالأعلام الألمانية ومؤدين التحية النازية، التي يعاقب عليها القانون الألماني بالحبس.
إن ما يزعج بعض الألمان بالفعل هو أن دعوات إحياء القوات المسلحة الألمانية تواكب دعوات جماعات سياسية آخذة في الصعود المخيف مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، والذي قدر له أن يفوز بنحو 100 مقعد في "البوندستاغ الألماني" خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وتبرز المخاوف من مطالب البديل والنازيين الجدد وأولئك الراغبين بتغيير شكل الخارطة السياسية للبلاد، ودعوتهم لإسقاط النظام الألماني الحالي، والذي يصفونه بأنه فاشل، ويرون أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، قد فقدت السيطرة على المشهد الألماني الداخلي.
ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: هل يمكن أن يطمئن الألمان كافة والأوروبيون خاصة إلى مستقبل قارتهم في ظل جيش ألماني يمتلك تكنولوجيا فائقة التقدم، وسياسيين متطرفين أقرب ما يكونوا إلى رجالات الحقبة النازية؟
وقبل أن يطفو حديث الوعد العسكري وترديده، ودعوات وزيرة الدفاع الألمانية، وردود الأفعال تجاهها، كانت أوروبا تعيش ولا تزال حالة قديمة – جديدة من المخاوف بسبب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي اعتبره عدد من كبار السياسيين الأوربيين أمرا يخل بمفهوم التوازن بين القوى الأوروبية، حيث يمكن أن تطغى دولة على أخرى، وفي مقدمة الذين رفعوا صوتهم بالتحذير من الوضع الجديد اللورد المحافظ هيز لتاين، والذي ذهب إلى أن خروج بريطانيا عمليا يضع القارة الأوروبية تحت زعامة ألمانيا، وهذا هو هدف الألمان الحقيقي الذي لم يتمكن هتلر من تحقيقه في الحرب العالمية الثانية، بينما تحققه برلين الآن بالوسائل السلمية.
ولا يعني كون ألمانيا أنها قلب الاقتصاد الأوروبي اليوم أنها بعيدة عن صحوة الصناعات العسكرية العائدة بقوة في سماوات الأسواق العالمية، لا سيما الغواصات والدبابات، والسلاح الألماني مشهود له بكفاءة فائقة، هذا إلى جانب دور الاستخبارات الألمانية المتصاعد بقوة في العالم.
وعلى الجانب الآخر من الأطلسي لا تبدو أميركا في حالة ارتياح إزاء النهضة العسكرية الألمانية وإن لم تعلن عن ذلك بصوت عال، غير أن عند مفكري أميركا حسابات تتخوف من آمال وأحلام ألمانيا الذي تزخمه حركات مثل "بغيدا"، وتقف وراءه جهرا تارة وسرا تارة أخرى قيادات ألمانية شابة يمكنها أن تغيّر وجه العالم خلال عقد من الزمن.
لقد بات الصعود الألماني الواثق وتحول الدولة التي عانت مرارة الهزيمة غداة الحرب العالمية الثانية إلى قوة دولية كبرى مؤثرة في مسارات العالم مستقبلا، يزعج الأميركيين المصممين على جعل القرن الحادي والعشرين قرنا أميركيا بامتياز.
وخير دليل على هذا الانزعاج، تعمد واشنطن زرع جواسيسها داخل وزارة الدفاع الألمانية، ووصول الأمر إلى حد التجسس على هاتف المستشارة ميركل شخصيا.
كذلك وقبل أعوام بدا وكأن هناك أزمة بين الأميركيين والألمان، لا سيما وأن واشنطن ترفض إعادة رصيد الذهب الألماني المحتفظ به منذ عقود لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
يمكن الاستنتاج بأن التجسس الأميركي على ألمانيا وموقفها من احتياطيها الذهبي، يعنيان أن واشنطن متوجسة وقلقة من ملامح التحول "الجيوبوليتيكي" العالمي، وألمانيا في طليعته، والخلاصة أن ألمانيا تضع نهاية لزمن الطابع التحريمي.