لماذا يتبرأ أدباء من أعمالهم الأولى؟
للعمل الأول عند الأدباء فرحة خاصة. به تنتقل كتاباتهم من مرحلة القُصاصات والأوراق المُتفرّقة، إلى كتاب تحمله أرفف قاعات المعارض. يصبحون بعدها كُتّاباً بصكوك تُسمّى بـ"أرقام الإيداع"، ورغبة في ذلك، يُصاب البعض بالتسرّع، لا سيما وأن البداية تفتقر للخبرة التي تجنّبنا الوقوع في الخطأ، فيخرج العمل ضعيفاً، وبه من التأثّر ما يجلعه أحياناً مُطابقاً لكتابات الآخرين، ومن ثم ونتيجة لما يلقاه الكاتب الشاب من نقدٍ موجّه إلى إصداره، يُدرِك أنه كان حَرياً به لو تمهّل قليلاً، أو ربما أرسله إلى ناقدٍ لقراءته ليُبدي رأيه فيه قبل النشر، لا بعده.
هذا الأمر لا يقتصر على "الكتّاب الصِغار"، أو من أصحاب الموهبة المتواضعة، بل هناك مَن أصبحوا رموزاً ثقافية، لكنهم ظلّوا مُتبرّئين من أعمالهم الأولى، التي تعرضها لكم الميادين الثقافية.
محمود درويش عن مجموعته الأولى: لا اعترف بها
رغم ما وصل إليه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش من مكانة أدبية، إلا أنه أعلن تبرؤه من عمله الأول. ففي حوار له مع الصحافي اللبناني عبده وازن لمجلة "الكرمل" عام 2006، تحدّث درويش عن مجموعته "عصافير بلا أجنحة"، مُعتبراً إياها "قصائد مراهقة شخصية وشعرية". وقد صدرت، بحسب درويش "في أيام الفتوّة"، وقد حذفها من أعماله كليّة، ولا يعترف بها البتّة.
لكن ألا يحقّ للشاعر حَذف بعض ما نُشِرَ له قديماً؟ يرى درويش في حواره أن من حقّه حَذف ما يشاء، ولكنه يعود ليؤكّد شيئاً جوهرياً، من خلال تساؤله عن مدى صواب رأي الشاعر في ما كتب، مُضيفاً: "للقارئ رأي أيضاً".
ظلّ الحَذف من سِمات درويش، حتى أنه يقول في الحوار الذي أُجرِيَ بمناسبة صدور الطبعة الــ 13 لمجموعته الشعرية الكاملة "حين اضطُررتُ لقراءة أعمالي الأولى من أجل تصحيح الأخطاء الطباعية، استعداداً لطبعة جديدة، وليس من قبيل مراقبة تطوّري، شعرتُ بكثير من الحَرَج. أي أنني لا أنظر إلى الماضي بعين الرضا، وأتمنّى عندما اقرأ هذه الأعمال، ألا أكون قد نشرتها كلها". مُضيفاً في موضعٍ آخر "لو أُتيحَ لي الحَذف، ربما حذفت أكثر من نصف أعمالي. لكن هذا الأمر ليس في يدي، وليس من حقّي على ما يبدو".
محمد عبد النبي: وصيتي لأصدقائي ألا ينشروا هذين العملين
"في الوصل والاحتراق"، هو عنوان المجموعة القصصية الأولى للروائي المصري محمّد عبد النبي، الذي يسعى دائماً إلى إخفائها، سواء بعدم طباعتها مُجدَّداً، أو بتجنّب الحديث عنها، مُؤكّداً أنها كُتِبَتْ في سنِّ مُبكِرة، إبان فترة دراسته في المرحلة الثانوية الأزهرية.
يحكي عبد النبي للميادين الثقافية عن كيفيّة خروج قصصه الأولى في تلك المجموعة، قائلاً: "علمت بمسابقة ينظمّها صندوق التنمية الثقافية في مصر، ومن ثم جمعت قُصاصاتي الورقية دافعاً بها إلى المسابقة، ولحُسن الحظ أو لسوئه، فزت بالمركز الأول، وكانت الجائزة عبارة عن: نَشْر العمل، و5 آلاف جنيه، ورحلة إلى إيطاليا".
لكن لماذا يرفض عبد النبي عمله الأول؟ يؤكّد صاحب "في غرفة العنكبوت" الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة "البوكر" للرواية العربية، أنه جاء بداية من إسم العمل، والذي يشبه العناوين التي كانت سائِدة في تلك الفترة، مشيراً إلى أن مجموعته "تحمل قدراً كبيراً من السَذاجة، كما أن بها تقليد شديد، ليس بمعنى السرقة، ولكن لبعض أساليب الكُتّاب الذين أُعجِبت بهم في تلك المرحلة، وللحق كان بها أيضاً قدر من الخيال، جعل الكاتب الراحل محمّد مستجاب يُصرّ على منحها الجائزة الأولى، وكان ضمن لجنة التحكيم".
عمل آخر يرفضه محمّد عبد النبي وهو "أطياف حبيسة"، صدرت عن (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، وكانت مشكلته بحسب قوله: "التأثّر الشديد بكتابات الآخرين، فقد كنت مُتأثّراً بإدوارد الخراط"، وهو التأثِر الذي وصفه بـ"الفاضِح، لا الواضِح فقط".
لكن عبد النبي يؤكّد أن موقفه من عمليه السابقين ليس إنكاراً، "لكن قد نسمّيه تجاوزاً، فعندما أعدت طباعة عمل قديم نشرت "وردة للخونة" باعتبارها عملي الأول، فهذا اعتراف بالخطأ، وليس دعوة إلى أن يكون كل كتاب أفضل من سابقيه، مع التأكيد على أن يكون هناك حد أدنى من قبول العمل فنياً".
يرى عبد النبي أن الخطأ الذي وقع فيه بنشر عمله الأول؛ ليس بعيداً عن أحد، عازياً السبب إلى بداية فعل الكتابة في سنٍّ صغيرة، ومن ثم ينجز الكاتب عمله الأول مُبكراً، "لذلك عليه أن يرسل مخطوطته إلى بعض الأشخاص ليبدوا رأيهم فيها قبل طباعتها"، مُشيراً إلى أحقيّته في إقصاء هذين العملين من قائمة أعماله، قبل أن يختتم حديثه قائلاً "وصيّتي ألا ينشر أصدقائي هذين العملين ضمن أعمالي الكاملة بعد وفاتي".
شاعر شاب: لا يبدأ الإنسان كبيراً
"السيرة.. الذين ليس لهم أحد يذكرهم"، هو عنوان الديوان الأول للشاعر المصري الشاب أيوب رزيق (19 عاماً)، والذي سيصدر عن دار "فهرس" للنشر والتوزيع، ضمن فعاليات (معرض القاهرة الدولي للكتاب) في دورته الـ51.
في الحديث عن تجربته مع نشر العمل الأول يؤكّد رزيق للميادين الثقافية، ضرورة طباعة التجربة الأولى، مهما كان مستواها الفني، حتى لا يتوقّف الكاتب عند تلك المرحلة. "إن لم يُنشر العمل الأول فلن يكون هناك ديوان ثانٍ"، ثم يضيف أن الكتاب الأول غالباً ما يكون أضعف مما يليه "فالكاتب لا بدّ من أن يمرّ بمراحل تطوّر، تجعله دائماً ينظر إلى عمله الأول باعتباره الأضعف، فطبيعي أن يكتسب في طريقه خبرة أكبر".
لكي يطمئن إذا ما كان ديوانه صالحاً للنشر أرسل زريق عدداً من المسودّات إلى بعض الثقات ممَن "لهم علاقة بالأدب، ومُتذوّقين له"، فقام بالتعديلات المطلوبة حتى وصل الديوان إلى شكله الحالي.
لزريق رأي حول التنكّر للأعمال الأولى إذ يعتبر أنه ليس من حق الكاتب أن يطلب حَذف أي عمل له من تاريخه، "ما دام نُشِر؛ فقد أصبح مِلكاً للقارئ، كما أن للقارئ الحق في أن يعرف مراحل تطوّر كاتبه، وكيف كانت بدايته، فليس طبيعياً أن يبدأ الإنسان كبيراً".