فيليب برونو طبيب نفساني وكاتب وأستاذ في جامعة السوربون. قدّم حوالي عشرين عملا للمكتبة الفرنسية في مجال العلاقات داخل الأسرة وخارجها. من كتبه: «كلمات الجسد»، و«الانفعالات»، و«500 سنة من الطب النفساني» و«تاريخ الجنس»، الخ. «العبقرية» تتجاور في كثير من الأحيان مع «الجنون». هذا ما يحاول مؤلف هذا الكتاب، «العبقرية والجنون»، أن يكشفه عبر الغوص في تفاصيل حياة عدد من كبار المشاهير في مختلف الميادين.
هكذا نقرأ عن «أزمات الهذيان» لدى الشاعر رامبو وحالات الإحباط النفسي «العصاب الاكتئابي» لدى الشاعر الكبير غوته والموسيقار المبدع «شومان»، والإدمان الكامل للمخدرات لدى بودلير صاحب ديوان «أزهار الشر»، أحد أهم المجموعات الشعرية في التاريخ الإنساني أو لدى الكاتب المسرحي جان كوكتو، ونوبات الانفعال الجنوني لدى مايكل انجلو، والميول الانتحارية لدى الفنانين غوغان وفان غوخ والروائية فريجينيا وولف،
وعصاب بيتهوفن أو الفيلسوف ويتغستاين وانهيار الفيلسوف نيتشه أو النحّاتة كامي كلوديل بعد قصة حبّها الشهيرة والمريرة مع النحّات الكبير رودان. هذه القائمة يمكن أن تطول كثيرا وتشمل ميادين الأدب والرسم والموسيقى والفلسفة وغيرها... وفي كل الحالات «يتجاور» الإبداع مع ميل نحو تصرفات غير عقلانية.
ينقل المؤلف في بداية هذا الكتاب حوارا للروائي الفرنسي لاندريه موروا مع أحد الأطباء جاء فيه: «هل ترى، دكتور، أن جميع الروائيين، رجالا ونساءً، مصابون بعصاب نفساني»؟ فيجيب الطبيب: «يمكن القول بدقة أكبر أنهم ربما كانوا قد أُصيبوا كلهم بالعصاب لو لم يكونوا روائيين... العصاب يصنع الفنان، والفن يشفي العصاب». هكذا يبدو «العصاب لدى المبدعين» يشكّل في حالات كثيرة «تفرّد مسيرتهم الفنية».
لكن مسألة العلاقة بين العبقرية والجنون والإبداع مطروحة منذ الأزمنة القديمة. وكان أرسطو نفسه قد طرحها في نص يحمل عنوان «رجل العبقرية والكآبة». وكان يعني بتلك الكآبة ذلك «الحزن الحالم المتعلق مع صورة الفنان». وقد لاحظ أرسطو أن رابطة ما «توحّد بين الإبداع وتقلبات المزاج».
وكان ديدرو قد تحدث عن «قرب العبقرية من الجنون». وكان الأطباء النفسانيون الأوائل في القرن التاسع عشر قد ناقشوا بإسهاب تلك «القرابة». وما يؤكده المؤلف عبر قائمة طويلة من الحالات المدروسة هو أن «المبدع إنسان مزاجي، متفرّد، كائن غير مستقر، مسكون بالعمل الذي يقوم به، وفي الحالات القصوى قريب من الجنون».
لكن ما هي العبقرية؟ وما هو الجنون؟ وما هي الصورة التي تمتلكها عن العبقرية؟ هل هي للبطل الخالص الذي نؤدي الطقوس له؟ أم هي صورة الموهبة الخارقة لمن يحمل قدرات مولودة معه؟ وما هي صورة الجنون؟ العنف أو الهذيان؟ الهلوسات أو الانهيار العصبي؟ ولماذا يكون الجنون خلاّقا؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها المؤلف ويحاول في هذا الكتاب الإجابة عليها.
ويشير المؤلف إلى العديد من الدراسات التي اطّلع عليها منذ فترة قريبة عن الحالة الصحية لرجال عظيمين، والتي تنمّ كلها عن «ضحالة» كبيرة إذا جرى الأخذ بالمظهر «الطبي» فقط عندهم. فموزارت كان مصابا بالتهاب الكلى وكريستوف كولومبس بداء المفاصل ـ الروماتزم
وجون ميلتون بضعف البصر ومارتن لوثر بالدوخة وهتلر بمرض بركنسون وسينيك اليوناني بالربو وكافكا بفقدان الشهية إلى الطعام والسويفت بمرض الزهايمر وتشارلز ديكنز بعسر القراءة والفهم... والقائمة يمكن أن تطول أيضا.
لكن ما يتم تأكيده في التحليلات المقدّمة هو أن هذه الأمراض كلها لا تفسر «سر حياة وإنتاج» هؤلاء المبدعين. ولا يمكن أيضاً تفسير ذلك لأية «عاهة» عقلية، إذ «لا يمكن بأية حالة من الأحوال تفسير الإنتاج المبدع بواسطة حالة مرضية ما» كما يقول المؤلف ليؤكد مباشرة «هناك مكونات عديدة تتدخل في تشكيل العبقرية أو الفن اللذين سوف يحتفظان دائما بشيء من السر».
مع ذلك يرى المؤلف أن الفكرة القديمة التي تربط بين العبقرية والجنون تجد «بعض عناصر الإجابة» في المفهوم الحديث لاضطرابات المزاج. والطب النفساني المعاصر يميّز بين المزاج والشخصية باعتبارهما محورين لتعقيد الكائن الإنساني. لكن إذا كانت الشخصية تُبنى إلى حد كبير من خلال التاريخ الشخصي لصاحبها وأنها قابلة للعلاج وللتحليل فإن المزاج واضطراباته تخضع كثيرا للبحر المحيط.
وبعد فصل يتحدث فيه المؤلف عن «تاريخ» فكرة ارتباط العبقرية بالجنون، يكرس الفصول الأربعة الأخرى من الكتاب للبحث بالتتالي في «طبيعة العبقرية» و«آليات العبقرية» و«حدود العبقرية» و«سر العبقرية».
العبقرية لها سماتها الخاصة في الفهم العام للبشر، الفهم الشعبي، فهي إمّا تكون عفوية مباشرة، وهي التي يسميها المؤلف ب«العبقرية العشوائية، المتوحشة» مثل تلك التي تمثّلت إلى حد كبير في شخصية الشاعر الكبير «آرثر رامبو».
يقول المؤلف: «يبدو لي أنه من الجوهري الإلحاح على حالة رامبو التي يمكن أن تقدم لنا أحد المفاتيح من أجل فهم التمفصل بين العبقرية والجنون». ثم ينقل عن الكاتب الألماني الكبير ستيفان زفايج كتابته في مقدمة أعمال رامبو باللغة الألمانية: «لم يكن يعرف أي كابح ولم يكن هناك شيء يمكن أن يكبل حركته».
بل ويؤكد المؤلف أن رامبو نفسه يدرك أشكال الهذيان والجنون التي تترصده. وهذا ما عبر عنه في عمله الشهير «فصل في الجحيم» عندما بدأ بالقول: «رشفت جرعة من السم. إن إنسانا يريد قتل نفسه هو إنسان معذب، أليس كذلك؟ اعتقدت أنني في الجحيم، وأنا فيه».
وهناك العبقرية الهادئة الرصينة والتي يسميها المؤلف ب«العبقرية الدؤوبة» التي يتميز أصحابها بقدرة خارقة على مثابرة العمل تجعل منهم «بشرا استثنائيين». وبهذا المعنى «العبقرية ليست شيئا آخر سوى قدرة هائلة على الصبر»، كما قال ذات مرّة المفكر الفرنسي «بوفون».
الأمثلة المقدّمة على مثل هذه العبقرية كثيرة ومن بينها نابليون بونابرت الذي كان يوصف بأنه «لا يتعب»، وكان هو نفسه يسعى إلى صيانة مثل هذه الفكرة عنه ولذلك كان يحرص أحيانا على ترك شمعة مضيئة في مكان إقامته كي «يعطي الانطباع» أنه يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل.
وكان فلوبير، مؤلف «مدام بوفاري» نموذجا بليغا في عالم الأدب على قدرة المثابرة. وينقل عنه المؤلف ما كتبه في رسالة لصديق وجاء فيه: «الأحد صباحا، 16 مايو 1869، الساعة الخامسة صباحا بعد أربع دقائق... أنهيت كتابي. إنني أجلس وأكتب منذ البارحة، الساعة الثامنة صباحا».
وهناك العبقرية المناقضة بعمق لما يوجد في مجتمعها وتتميز بنوع من العزلة والزهد والتهميش. و«العبقري» يبدو هنا، بنظر الجميع تقريبا، أنه «مجنون». و«العزلة» تغدو بالنسبة للعبقري «ضرورة للعالم الداخلي» الذي يخرسه «الضجيج».
يقول المؤلف: «المبدع هو كائن غير اجتماعي بعمق، ويعيش على هامش أنماط السلوك السائدة مما يؤدي غالبا إلى وصفه بالجنون، على أساس أن الجنون مرادف هنا لرفض الخضوع للمجتمع». الأمثلة على العباقرة الذين عزلوا أنفسهم دائما أو لفترات طويلة كثيرة.
ومن بينهم الموسيقار الكندي «غلين غولد» الذي بدأ العزف على البيانو في سن الثالثة وألّف قطعا موسيقية وهو في الخامسة وأصبح موسيقيا شهيرا وهو في الثالثة عشرة. ثم عزل نفسه تماما وهو في الثانية والثلاثين. والنحّاتة «كامي كلوديل»، أخت الشاعر بول كلوديل،
والتي أنهت حياتها في أحد المصحّات العقلية «كانت العزلة هي إحدى العلامات المبكّرة على جنونها لاحقا». وكان «غي دو موباسان»، المعروف بحياته الماجنة، قد قرر عزل نفسه لشهور طويلة عام 1881 «من أجل العمل بعنف في إطار عزلة مطلقة»، على حد قوله.
وكانت المنافي أو «الصعلكة» دون هدف معين قد ساهمت في «تفتّق» العبقرية لدى بعض المبدعين. هذا ما يشير المؤلف في حالات كثيرة مثل ديكارت في نفيه إلى هولندة ثم السويد وترحال مونتين وستاندال إلى إيطاليا،
وحياة التشرّد التي عاشها نيتشه خلال تسع سنوات ما بين عام 1879 و1888 في أوروبا والتي «كان لها النصيب الأهم» في إنتاجه لتلك الفترة، أي كتبه «هكذا تكلّم زرادشت» عام 1883 و«ما وراء الخير والشر» عام 1886 و«شجرة نسب الأخلاق» عام 1887.
وفي الحالات القصوى يقال عن العبقري أنه «إنسان متفرّد» بل و«مجنون»، إذ يتحلّى غالبا بسلوكيات غير مألوفة لدى معاصريه. وسقراط نفسه كانوا قد وصفوه بالقول: «كان يلبس نفس المعطف في جميع الفصول ويمشي حافي القدمين على الجليد كما على الأرض الحارقة تحت شمس اليويان وكان يرقص ويقفز وحيدا غالبا».
وفي المحصلة كان «المتفرّدون» وراء المشاريع الكبرى التي وجّهت مسيرة البشرية، وبكل الاتجاهات البنّاءة أو المدمّرة، وفي جميع الميادين العسكرية والسياسية والفكرية «عباقرة» و«مجانين» إلى هذه الدرجة أو تلك.
*الكتاب:العبقرية والجنون
*الناشر:اوديل جاكوب - باريس 2007
*الصفحات :246 صفحة القطع المتوسط