كان حلمًا عجيبًا جدًّا، قام الرجل من نومه فجأة خائفًا يصرخ والعرق ينزل منه ويقطر من جوانبه كأن أصابه المطر أو حل به شيء لم يكن يقدر على أن يقف في وجهه، كانت الساعة تدنو من الثالثة قبل الفجر، ظل الرجل في سريره مقعدًا لا حراك به لمدة دقائق وهو في ذهول شديد من هول ما رأى، وهو في كل لحظة يستحضر هذه الصورة التي رآها في منامه الرهيب والتي أقعدته في هذه الساعة المبكرة من اليوم، الرجل في ذهول شديد لا يدري كيف حصل له مثل هذا الحلم في منامه، فقد وجد نفسه في منامه يُفرغ معدته في برميل لا يمتلئ بل على الدوام يريد المزيد والمزيد مما في بطنه، فهو لا يمتلئ أبدًا، وباطن هذا البرميل يزداد كلما ازداد الرجل في التقيؤ، كان هذا حلمًا مزعجًا جدًّا للرجل ولا يجد له تفسيرًا، فهو أول مرة يرى شيئًا هكذا.
لم ينعم الرجل بالنوم طيلة هذه الساعات حتى ابتدر الوقت وظهر النور الذي ينبئ بحركة الناس، ثم ظل الرجل مدة طويلة يقلب نظره فيما رأى ويحاول أن يجد في نفسه تفسيرًا لما حصل له في منامه وهو لا يعثر على شيء، وهو يحس بأن أمعاءه تشتعل اشتعالًا كأنه كان يفرغ بطنه بالفعل كما حصل في المنام، فاختلط على الرجل الحقيقة بالخيال والواقع بالحلم، وبدا يتصور الأحلام بصورة أخرى غير التي كان يراها، فقد كان يرى أن كل الأحلام ليست دليلًا على شيء في الواقع، وأنه لا يمكن أن يكون الحلم في وقت من الأوقات محذرًا لشخص أو منبئًا له عن شيء في واقعه، غير أنه منذ هذه اللحظة وقد أحس أن في هذا الحلم رسالة تريد أن تقول له شيئًا، وأن المنام أعمق كثيرًا مما كان يظن من قبل من أنه لا يدل على شيء، بل لا بد أن يكون هذا المنام دالًّا على شيء، ثم قرر أن يخوض رحلة بحث حول هذا المنام الذي رآه وظل يبحث عن أي تفسيرات دينية أو روحانية لهذا الحلم العجيب الذي رآه.
قام الرجل من سريره الذي كان مقعدًا به لا يتحرك وهمَّ به النشاط ودب في قلبه السعي ولم يجد في نفسه أي حاجة لطعام أو شراب حتى أنه قام ولم يتناول إفطاره، كان كل همه أن يجد معنى لحلمه العجيب ذلك، قام الرجل بطلب النصيحة من أخته في هذا المنام، فأشارت إليه بأن يذهب إلى أحد الفقهاء المشهورين والمعروفين بتفسيرهم للأحلام على طريقة الشيخ ابن سيرين عليه رحمة الله.
قام الرجل بسحب سيارته في اتجاهه إلى هذا العالم الجليل في ناحية المدينة، حيث يجد هناك الفقيه الذي سيسأله عن منامه، وكانت عشرات الأسئلة تتوارد على خاطر الرجل لا يجد لها تفسيرًا ولا يجد لها مدفعًا؛ ثم إذا به يصل إلى هذا الفقه بعد تسع ساعات من السفر، فلما رأى أحد الناس مارًّا بالمكان الذي يسكن فيه الفقيه سأله عن الفقيه كي يدله تحديدًا عن مكانه الذي يجلس فيه، وكانت شهرة الفقيه كبيرة جدًّا حتى أنه وجد مكان الفقيه سريعًا وبلا عناء.
وانتظر الرجل لعدة ساعات قبل أن يأخذ دوره بين الذاهبين إلى الشيخ، وما أن أنبأ هذا الرجلُ الشيخَ بنبأ هذا المنام إذا بالشيخ يقول: لقد أفطرتَ رمضان عامدًا متعمدًا لعدة سنين.
فصُعِقَ الرجل بما سمع وخاف على نفسه جدًّا من أين علم الشيخ بهذا الأمر وهو لا يعرفني ولا أعرفه كيف حصل هذا، كان هذا الرجل لا يؤمن بالأديان ويكفر بما أنزل الرحمن، وظل ملحدًا مدة تزيد على خمس وعشرين سنة، فهو ينكر كل ما يتخطى نطاق المادة، فهو لا يؤمن إلا بما رأت عينه وما سمعت أذنه وما أحسه بلسانه، أما ما عدا ذلك من الغيبيات والجنة والنار والملائكة فهو لا يؤمن بشيء من ذلك على الإطلاق.
غارت عينا هذا الرجل بالدموع وهو يتمعن في الشيخ الذي تعلوه المهابة بلحيته الكبيرة البيضاء التي فيها الكثير من معاني المحبة والعظمة والوقار، ثم صرخ الرجل ناطقًا بالشهادتين فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
فعلت وجه الشيخ ابتسامة كبيرة ونظر إلى الرجل برقة وهو يقول: لعلك لم تسلم إلا هذه الساعة، فقال الرجل بكلمات تختنق بماء الدموع وهو لا يكاد يصدق ما يسمع: لقد ظللت مدة سنوات طويلة على الإلحاد لا أؤمن برب ولا نبي ولا كتاب، واليوم قد قاربت سنًّا كبيرة وقد كنت أفطر رمضان عامدًا متعمدًا طيلة هذه السنوات التي مضت من عمري.
تمعن الفقيه في الرجل طويلًا وهو يرى عيناها التي غارت بالدموع التي انسكبت كالمطر الجارف، وحانت من الشيخ تنهيدة عميقة قال بعدها: الحمد لله الذي هداك بعد هذه المدة من عصيانه، ولولا هداية الله لنا ما اهتدينا مهما فعلنا.
ازدرد الرجل ريقه وعلى جبهته الكثير من الأسئلة وفي عينيه الكثير من الدموع، وقال للشيخ: الآن ليس هناك رقاب تُعْتَق وليس لدي ما يكفي من أموال لكي أطعم المئات ممن يستحقون الطعام، وصيام هذه السنين التي مضت لا أقدر عليه أبدًا ولا أطيقه.
ابتسم الفقيه وقال للرجل قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، ثم قال أيضًا: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفار الرحيم}، ثم واصل الفقيه قائلًا: أنت الآن قد تبت إلى الله، فأكثر من الصدقات والصلوات يغفر لك الله إن شاء والله لا يضيق على عباده أبدًا ولا يحملهم بما لا يطيقون.
فقام الرجل وقد أحس بشيء من الأمان في صدره، وعاهد الله أن يكون من الطائعين المحسنين، وأن يترك ما كان فيه من ضلالات وأوهام، وأدرك جيدًا أن عقله الصغير لا يقدر على أن يحيط بالخالق العظيم سبحانه وتعالى.
هكذا كانت قصتنا كلها عبرة وعظة لمن تسول له نفسه أن يتنكب طريق الحق وأن يسلك في طرق الغواية والعماية، فالله سبحانه وتعالى يرسل الرسائل إلى العبد كي يعرفه بطريقه المستقيم، وعلى العبد أن يفهم هذه الرسائل قبل فوات الأوان وألا يسوِّف التوبة، فإن الموت أقرب إلى الإنسان من شراك النعل، فعلى الإنسان أن يحسن فهم رسائل الله سبحانه وتعالى له، ولا يهمل في ذلك حتى لا يكون عبرة لغيره، فالتوبة هامة جدًّا لمن رزقه الله إياها، رزقنا الله التوبة، آمين.