أبدع الحارث المحاسبي رحمه الله في كثير من العلوم والمعارف، فإلى جانب تبحره في علم الأصول والمعاملات، كانت له معرفة واسعة في علم الفقه، أبدع أيضًا في الرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة، وكتبه كثيرة الفوائد جمة المنافع، ويظهر ذلك واضحًا من خلال الثروة العلمية الهائلة من المصنفات التي خلفها لنا.
نسب الحارث المُحَاسِبي
هو الزاهد العارف شيخ الصوفية[1]، أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي، البصري الأصل[3]، ولد ونشأ بالبصرة[4]، وهو أحد الأئمة المشهورين[5]، قال عنه الشيخ شعيب الأرنؤوط: هو ثقة كبير الشأن، قليل المثل، كتب الحديث، وتفقه، وعرف مذاهب النساك وآثارهم وأخبارهم، وكان من العلم بموضع، وله تآليف كثيرة، جمة المنافع كثيرة الفوائد، وما عرفنا فيه جرحًا البتة[6]، وقال عنه الإمام الذهبي: هو صدوق في نفسه، وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه[7]، وقد سمي بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه[8].
علم الحارث المُحَاسِبي وكتبه
الحارث المحاسبي إمام المسلمين في الفقه والتصوف والحديث والكلام[9]، كان عالمًا بالأصول والمعاملات، وهو أستاذ أكثر البغداديين في عصره[10]، وعالم العارفين في زمانه وأستاذ السائرين[11]، وأحد من اجتمع له الزهد والمعرفة بعلم الظاهر والباطن، وله كتب كثيرة في الزهد، وفي أصول الديانات، وفي الرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة، وكتبه كثيرة الفوائد جمة المنافع[12]، قال جمع من الصوفية: إنها تبلغ مائتي مصنف[13]، وأهمها كتاب آداب النفوس، وكتاب شرح المعرفة، والمسائل في أعمال القلوب والجوارح، والمسائل في الزهد، والبعث والنشور، والرعاية لحقوق الله عز وجل[14].
وفاة الحارث المُحَاسِبي
توفي الحارث المحاسبي ببغداد سنة 243هـ= 857م، ولم يصلِ عليه إلا أربعة نفر، وكان قد ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئًا، قيل: لأن أباه كان يقول بالقدر[15]، فرأى من الورع أن لا يأخذ ميراثه[16]، وكان في ذلك مقتديًا بقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى»[17]، ومن أقوال االحارث المحاسبي المشهورة: "ترك الدنيا مع ذكرها صفة الزاهدين، وتركها مع نسيانها صفة العارفين"[18]، وقوله: "خيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم ولا دنياهم عن آخرتهم"[19].
[1] الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ= 1985م، 12/ 110.
[2] عرف بهذه النسبة لأنه كان يحاسب نفسه.
[3] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 2/ 57.
[4] الزركلي: الأعلام، 2/ 153.
[5] المزي: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ= 1980م، 5/ 208.
[6] بشار عواد معروف/ الشيخ شعيب الأرنؤوط: تحرير تقريب التهذيب، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1417هـ= 1997م، 1/ 232.
[7] الذهبي: ميزان الاعتدال، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1382هـ= 1963م، 1/ 430.
[8] حاجي خليفة: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة إرسيكا، إستانبول، تركيا، 2010م، 2/ 7.
[9] ابن كثير: طبقات الشافعيين، تحقيق: أحمد عمر هاشم، محمد زينهم محمد عزب، مكتبة الثقافة الدينية، 1413هـ= 1993م، ص126.
[10] الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002م، 2/ 153.
[11] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق: محمود محمد الطناحي، عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1413هـ، 2/ 275.
[12] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ= 2002م، 9/ 104.
[13] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، 2/ 276.
[14] الزركلي: الأعلام، 2/ 153.
[15] القول بالقدر: هو أن العبد هو الفاعل للخير والشر، وليست هي من فعل الله، تعالى عن قولهم. انظر: الشاطبي: الاعتصام، تحقيق: هشام بن إسماعيل الصيني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1429هـ= 2008م، 3/ 344، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القول بالقدر، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِى أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَالَ آدَمُ أَنْتَ الَّذِى أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَىْءٍ وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ». مسلم: كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، (2652).
[16] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 57، 58، والزركلي: الأعلام، 2/ 153، والزركلي: الأعلام، 2/ 153.
[17] أبي داود: كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر؟، (2911)، والنسائي (6348).
[18] المزي: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 5/ 211.
[19] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ= 1998م، ص60.
قصة الإسلام