كان العربُ قبل الإسلام أُمةً يمكن أن يكونَ فنُّها الأولُ هو "الكلمةَ"، وكانَتْ بذلك تختلفُ وتتميَّز عن غيرِها مِن الحضارات القديمة، فإذا كان المصريون القدماء قد خلَّفوا آثارًا في التحنيط والنحت والعمارة، وخلَّف اليونان آثارًا في الفكر الفلسفيِّ والإنتاج المسرحي؛ فقد خلَّف العرب آثارًا كثيرةً في الشعر الجميل والنثر المُحكَم.
وكان نزولُ القرآن معجزة الإسلام، وطرحُه التحدِّي لمخالفِيه في أن يأتوا بقول بليغٍ مثلِه - كان هذا التحدِّي دلالةً من ناحيةٍ على الاعتراف بقوة العرب في هذا المجال، وحافزًا من ناحية أخرى على مواصلة التجويد في بناء العبارة، وانتقل فنُّ القول من كونه مجردَ تراث قوميٍّ يُعتَزُّ به، إلى كونه شعائرَ دينيةً يُتعبَّدُ بالتأمُّل في محاربيها.
ولم يكن الإسلام دينًا فقط، ولكنه كان كذلك دولةً وحضارة، وفي سبيل أن تستقرَّ الدولة وتنتشر الحضارة، كان لا بد مِن خوض كثيرٍ مِن ألوان الصراعات؛ من بينها صراعات القوة بالطبع، ولكنْ إلى جانبها - بل في درجة أهمَّ منها - صراعاتُ الكلمة.
كان مِن مستلزمات تحويل القبائل إلى دولةٍ أن تنشأ الدواوين والسِّجلات، وتُقيَّد الرواتب، وتُحصَى الأنفس، وتُبنَى المساجد للتعبُّد والتعلم، وتُقام بيوت القضاء، وتُنظَّم العَلاقات بين حاكم الدولة وحكام الأقاليم وقُضاتِها، وبين الدولة وما جاوَرها مِن دول أخرى، ولم يكن تنظيمُ ذلك ممكنًا إلا من خلال الكلمة "كتابةً" أو "خطابة".
وعندما بدأ هذا التنظيم، واجَهَه قلةُ خبرة أبناء القبائل في شؤون الدولة، ولكن أعان عليه أن هذه الحضارة لم تكن للعرب فقط؛ وإنما كانت للمسلمين جميعهم، وأن جانبًا كبيرًا ممن دخلوا هذا الدينَ الجديد كانوا أبناء حضارات أخرى عريقةٍ مُنظَّمة - في فارس، وفي مصر، وفي الشام - وأسرَعَ هؤلاء فتعلَّم منهم العربية مَن لم يكن يُجِيدها، وأسهَموا إلى جانب إخوانهم العرب في صناعة الكلمة تأليفًا وتنظيمًا وكتابةً، حتى وإن فاتَهم في البَدْء الإسهام في الخطابة؛ لحداثة تعلُّم اللغة، وعدمِ إحكام نطقها.
لكن العرب أنفسَهم كان لديهم مِن الدوافع الدينيَّة والسياسية ما دفعهم إلى مزيد من الإسهام والإنعاش لحركة الخطابة، وكان الجدلُ الدينيُّ قد بدأ أولًا بين أنصار العقيدة وأعدائها، وكانَتْ مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تشهَدُ وفودَ القبائل التي تجيء ومعها شاعرُها وخطيبها، ويكون لدى المسلمين أيضًا شاعرُهم وخطيبهم، ويبدأ الحوار، لكن ذلك الجدل انتقل بعد فترة ليصير جدلًا بين المسلمين بعضهم والبعض الآخر، عندما بدأ انقسام المسلمين في الرأي حول بعض القضايا الدينية، ثم تشعَّب فأصبح انقسامًا إلى فِرَق وأحزاب، كلُّ فرقةٍ تتشيَّع إلى رأيٍ وتُناصِره، وتتَّخِذ بالطبع الخطابةَ في المحافل العامة وسيلةً إلى إثبات رأيها.
ومِن هنا شاع في المساجد والأسواق وأماكن التقاء الناس ذلك اللونُ مِن الخطابة الجدليَّة السياسية أو الدينية، ولا ننسى قبل كل شيءٍ أن الإسلام جعل "الخطابة" ركنًا من أركان العبادات عندما شرَعها مرة كلَّ أسبوع في صلاة الجمعة.
تحوَّلت فنون الكلمة إذًا إلى أدوات رئيسة في بناء هيكل الدولة والحضارة، لكنها كذلك كان لا بد أن تلعب دورًا رئيسًا في تثقيف الأمة وشرحِ العقيدة الجديدة للناس، ونشأت حول القرآن وبلاغته علومٌ كثيرة تُفسِّر جوانب الإعجاز أو أسرار اللغة، من خلال هذا النص المُقدَّس، ومن غير المبالغة أن يقال: إن معظم العلومِ التي اصطلح على تسميتِها بالعلوم الدينية والعربية تدور في هذه الدائرة التي أشرنا إليها، وقد وُلِدت كلُّها في فترات زمنية متقاربة، في العصر الذي شهِد بناء الدولة والحضارة واستقرارَهما.
مع هذا الاهتمام الذي أخذَتْه الكلمةُ في الحضارة العربية، بدأ اهتمامٌ مُوازٍ بالمتكلِّم، كاتبًا كان أو خطيبًا، وبصناعة الكلام وأدواتها، ولم تَعُد تُترك الأمور بلا إعداد، فالخطيب لا يؤثِّر فقط من خلال كلماته، ولكن من خلال طريقة نطق هذه الكلمات وطريقة تنغيمها، بل طريقة وقفتِه وهيئته وملبسه، ومِن ثم بدأت أبحاثٌ حول الخطابة من هذه الزاوية، ولعل أشهرها ما دوَّنه الجاحظ في "البيان والتبيين".
أما "الكُتَّاب"، فقد أصبحوا يحتلُّون مكانةً مرموقة في الدولة، ولهم "وزارة" خاصة بهم يُطلَق عليها "ديوان الإنشاء"، ورئيسُهم يحتلُّ مكانًا مرموقًا في بلاط الحكم، هؤلاء الكُتَّاب ينبغي العناية بوسائل وأدوات كتابتهم، بَدْءًا من نوع الأقلام التي يكتبون بها، وطريقة "بريها"، إلى نوع الأحبار التي يستعملونها، إلى الأساليب التي تناسب المقامات المختلفة التي يكتبون فيها، وملاءمة كلِّ أسلوب منها لموقفٍ معين أو لطبقة معينة، مما يمكن أن يدخل الآن في مفهوم "البروتوكول" بمعناه الحديث، ولكن أيضًا كانَتْ هناك عنايةٌ بألوان الثقافة التي ينبغي أن تتوافر للكاتب؛ مِن معرفة بالتاريخ والجغرافيا، وخصائص الشعوب وقوانينها، ودقائق التشريع والعلوم المفردة له، وأسرار علوم اللغة وخصائص العبارات، ووسائل التزيين في العبارة، وطرق أدائها المختلفة، وقد أُلِّفَت كتبٌ تجمع هذه الوسائل كلَّها وتُقدِّمُها لمن يودُّ أن يتخصص في صناعة الكتابة ويبرع فيها، ومِن أشهر هذه الكتب كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي، وهو موسوعة ضخمة تقع في أربعة عشر مجلدًا كبيرًا.
ولقد كان مِن نتيجة كلِّ ذلك أنْ أصبحَ لهؤلاء الكُتَّاب بصرٌ بدقائق اللغة وعلوم الأدب، وأصبحوا من خلال ممارستِهم للكتابة أقدرَ على النظر إلى الأدب وعلومه نظرةً كلية تختلف عن نظرة العلماء المتخصصين، الذين قد يهتمُّ كلُّ واحد منهم بفرع من فروع الدراسات اللُّغوية أو الأدبية، دون أن تمتدَّ نظرته إلى بقية الجوانب، ولعل ذلك هو ما دفع الجاحظَ إلى أن يقول: "طلبتُ علم الشعر عند الأصمعي فوجدتُه لا يُحسن إلا غريبَه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا ينقُل إلا ما اتصل بالأخبار، فعطفت على أبي عُبيدة فوجدتُه لا يتقن إلا ما اتصل بالأخبار وتعلَّق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكُتَّاب؛ كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبدالملك الزيات".
إلى جانب جهد هؤلاء الكتَّاب ودورِهم الذي قاموا به في تطوير دور الكلمة والدراسات التي دارت حولها - وفي مقدمتها الدراسات الأدبية والبلاغية - نجدُ دورَ علماء الدين مِن المتكلمين والمفسِّرين على نحوٍ خاصٍّ، والروايات تحكي أن التأليف البلاغيَّ عَرَف أولَ ثمارِه نتيجةً للنقاش بين الكتَّاب وهذه الطائفة من العلماء؛ فقد رُوي أن رجلًا في زيِّ الكتَّاب بمجلس الفضل بن الربيع سأل أبا عُبيدة مَعْمَر بن المُثنَّى - (توفي عام 206هـ) - عن قوله تعالى: ﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الصافات: 65]: كيف وقع تشبيه طَلْع أشجار النارِ برؤوس الشياطين، وإنما يقع تشبيهُ المجهول بمعلومٍ لكي يُقرِّبه إلى الذهن، والتشبيهُ هنا يتمُّ بين مجهولينِ، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عُرِف مثلُه، وهذا لم يُعرَف؟! فعزم أبو عُبيدة عند سماعه للسؤال على وضع كتابٍ في "مجاز القرآن" يُفسِّر به هذا التعبير وأمثاله في القرآن وفي كلام العرب، ويُعَد هذا الكتابُ الذي كتب في فترة مبكرة الشرارةَ الأولى للتأليف في هذا الفرعِ، الذي سيُقدَّر له أن تتضاعف أغصانه، وأن تتكاثر ثماره.
على أن اهتمامات علماء الكلام والتفسير بالبلاغة لم تقف عند الاهتمامات الصُّدْفوية التي تُجيب على تساؤلات عابرة كتلك؛ وإنما امتدَّ لكي يشكل مبحثًا رئيسًا في مداخل علوم الكلام وأصول الفقه والتفسير، فعلماء الكلام الذين يبحثون عن صفات الله تعالى، ويقفون أمام صنعة "الكلام"، وكون كلام الله مُعجِزًا لا يساويه ولا يدانيه كلامُ البشر - يمتدُّون ببحوثهم إلى معرفة الأوجه والخصائص التي تميَّز بها ذلك الكلامُ المُعجِز، وذلك يقودُهم إلى صلب علوم البلاغة ومباحثها الرئيسة، وكذلك علماء التفسير عندما يأخُذونَ في التناول التفصيليِّ لتفسير آيات القرآن، يقفون بالضرورة أمام الأسرار التعبيرية في هذا النص المُعجِز، ويكفي في هذا المقام الإشارةُ إلى علماء مثل أبي بكر الباقلاني من المتكلمين - (توفي عام 403 هـ) - وكتابه حول "إعجاز القرآن"، ومحاولته تفسيرَ ذلك الإعجاز على أُسُسٍ بيانية، معارضًا بذلك اتجاه مَن سبَقوه وفسَّروا ذلك الإعجاز بما أسمَوه "بالصرفة"؛ أي: بصرف الله تعالى قدرةَ العرب عن معارضة القرآن.
لكن عمل المتكلمين الشديد النضج في هذا المجال تمثَّل في مؤلَّفات عبدالقاهر الجُرجاني - (المتوفى عام 471 هـ) - ففي كتاب "دلائل الإعجاز" لا يصل عبدالقاهر فقط إلى تبيين الخصائص البلاغية للأسلوب القرآنيِّ، ولكنه من خلال ذلك يصل أيضًا إلى وضع نظريةٍ تُقدِّم أسسًا موضوعية للقِيَم الجمالية في التعبير، وهذه الأسس تضمَّنتها نظريتُه الشهيرة، التي عُرِفت باسم "نظرية النظم"، التي كانت أساسًا بُنِي عليه "علم المعاني".
على أن كتاب عبدالقاهر الثاني، وهو "أسرار البلاغة"، يُمثِّل - مِن بعض الزوايا - شدة الصلة بين الدراسات التي قامت على أساس دينيٍّ، والدراسات الجمالية المتصلة بفنون القول الأخرى مثل الشِّعر مثلًا، فمع أن الكِتاب امتدادٌ لنظرية عبدالقاهر في الإعجاز التي أشرنا إليها التي تضمَّنها كتابه السابق، فإن "أسرار البلاغة" يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الشِّعر كمادة في تفسير نظريته وشرح مبادئها، وهو بذلك يتحوَّل إلى ناقد جماليٍّ وإلى بلاغي من الدرجة الأولى، وإن كانت جذوره ودوافعه تنتمي إلى علم الكلام ودوافعه الدينية.
نلتقي بالمباحث البلاغية كذلك عند علماء التفسير القرآني، مع أن هذه المباحث تتناثر في كثير من كتب التفسير، فإن كتاب تفسير الكشاف للزمخشري - المتوفى 476 هـ - يُعَد مِن أوضح الأمثلة على شدة التلاحم بين الدراسات البلاغية والدراسات القرآنية؛ فقد عمد الزمخشريُّ في تفسيرِه إلى نظرية النظم التي وضعها مِن قَبْلِه عبدالقاهر الجرجاني، وفسَّر على أساسها الإعجازَ القرآنيَّ كما قلنا، عمد الزمخشري إلى هذه النظرية وحاول أن يُطبِّقها على النصوص القرآنية أثناء تفسيره لها، ولقد أسهم بذلك في تعميق كثير من المسائل البلاغية، بل إنه أسهم إسهامًا مباشرًا في تبويب هذه المسائل على النحو الذي نعرفه اليوم، فإذا كانت علوم البلاغة اليوم تشتمل على فروع المعاني والبيان والبديع، فإن الذي اهتدى إلى مصطلح "علم المعاني" وأطلق هذا الاسم على مجموع المسائل التي يبحث فيها هذا الفرع، كان هو الزمخشري في تفسيره للكشاف.
إلى جانب الكتاب وعلماء الكلام والتفسير، أسهم الشعراءُ بدورٍ كبير في إثارةِ مشاكل تعبيرية استوجبَتْ بحوثًا نظرية لمعرفة مدى صلتها بالتراث القديم، أو مدى كونها شيئًا جديدًا "بديعًا".
وكانتِ الحركةُ الشِّعرية في أوائل العصر العباسيِّ على نحوٍ خاصٍّ قد نزعت - تحت عوامل الرفاهية والترف في مظاهر الحياة من ناحية أخرى - نزعت الحركة الشعرية إلى الإكثار من استخدامِ تعابيرَ كانت تَرِدُ في القرآن والشِّعر القديم، ولكن دون إفراط، وإلى استحداث ألوان أخرى من التعابير، وقد تجمَّع حول استخدام هذه الخصائص مجموعةٌ مِن الشعراء، عُرِفوا في ذلك العصر بالشعراء المُحدَثين، كان مِن أبرزهم: بشَّار بن بُرد، وأبو نواس، ومسلم بن الوليد، وأبو تَمَّام، وقد قامتِ الدراساتُ البلاغية لكي تناقش مدى الجدة والأصالة في تعبيراتهم، وكان مِن أبرز ما كُتب حول هذه الحركة "كتاب البديع" لعبدالله بن المعتز.
هذه العوامل كلُّها كانت وراء مئاتِ المؤلَّفات، وعشرات الاتجاهات التي ساعدت على تكوين التراث الذي يوجد الآن بين أيدينا قسمٌ كبير منه، وليست هناك وسيلةٌ للإلمام بتفاصيل ذلك التراث وتاريخه ونحن بصدد دراسة مدخل له، وكذلك أيضًا لا يكفي الإلمامُ بتاريخه والكتابة عنه مِن خارجه، ولعل الوسيلة التي تُعيننا على تذوُّق هذا التراث والاقتراب منه إلى حدٍّ ما، هي اختيار مجموعةٍ من نصوصه، والوقوف أمامها، ومتابعة التطور من خلالها.
م