مرحبا
ما المقصود بعلم الجمال ؟
علم معياري فلسفي، يدرس المبادئ العامة للموقف الجمالي الإنساني إزاء الواقع والفنون بكل أشكالها، فهو علم يحلل المفاهيم والتصورات الجمالية، ويبحث في المسائل التي يثيرها تأمل موضوعات التجربة الجمالية، كالأحكام، والقيم الجمالية، المنهج الجمالي، والقوانين الجمالية. إنه علم الأحكام التقويمية التي تميز بين الجميل والقبيح، وتعبر عن تمثل الإنسان للعالم تمثلاً جمالياً محكوماً بجوهر قوانين تطور الفن وأشكاله المختلفة، إنه بذلك علم ماهية الوعي الجمالي ووظيفته بصورة عامة، وعلم الفن، وماهيته ووظيفته -باعتبار أن الفن أرقى مظهر له- بصورة خاصة. وبهذا يكون موضوع علم الجمال الظواهر الجمالية المختلفة وقوانين الوعي الجمالي في الحياة والفن، والنشاط الجمالي وعلاقته بسائر نشاطات الإنسانية الأخرى.
وكلمة «أستطيقا» يونانية الأصل Aisthesis «ايستيزيس»، وتعني الإحساس أو الإدراك الحسي القائم على أساس الخيال والشعور كوسيلة لتمييز موضوعات الجمال.
تاريخ التفكير الجمالي
يرجع ظهور إرهاصات علم الجمال إلى الحضارات القديمة في بابل ومصر والهند والصين. وقد تطورت التأملات الجمالية بدرجة كبيرة في اليونان القديمة، حيث وضع مفكروها هذه التأملات في صياغة نظرية تناولت حقيقة الجمال ومعناه ومعاييره والعوامل الموضوعية والذاتية في القيم الجمالية. وجاء الفلاسفة اليونانيون بعد ذلك فعالجوا هذه المسائل الجمالية معالجة منهجية علمية، وكان أكسينوفان Xenophon (القرن السادس ق.م) أول من اهتم بالمسائل الجمالية، وعدَّ معيار القيمة الجمالية هو نفسه معيار المنفعة والأخلاق، فوحد بين الجمال والخير والمنفعة. أما ديمقريطس (460-370ق.م) Democritus ، فكان أول فيلسوف يوناني ينظر إلى الجمال نظرة موضوعية مادية، فالجمال عنده انتظام أجزاء الأشياء المادية وتناسبها.
كما أكدت الفلسفة السفسطائية إنسانية الظاهرة الجمالية باعتبار أن الإنسان محورها، وأبرزت قيمة الإدراك الحسي والانطباعات المرافقة له، وطالبت بحرية الفرد في التعبير عن مكنوناته العاطفية وانفعالاته.
وأنزل بروتاغوراس Protagoras قيمة الجمال في مجمل نظرته النسبية إلى القيم الإنسانية وفق مذهبه القائل «الإنسان معيار كل شيء». أما غورجياس Gorgias فقد صاغ نظرته في الجمال مبتعداً عن ربطها بفكرة الحقيقة، فشدد على الخطابة لسحر تراكيبها اللغوية التي تتجاوز الإقناع العقلي إلى حد إثارة الانفعالات والعواطف وسلب الإنسان إرادته. وعدّ فيثاغورث المعيار الجمالي رياضياً هندسياً يقوم على الاعتدال والائتلاف، وهدف العمل الفني التعبير عن الحقيقة بصدق. وبدأت مع سقراط Socrates معارضة أي نظرية تجعل الفن غاية لذاته وتقيمه على المعيار الحسي، فقد رأى أن الجميل هو ما يحقق الخير النافع، وأن الجمال له غاية هادفة، فأقام الفن على أساس النظر العقلي لا على إثارة الانفعال.
وبنى أفلاطون [ر] Plato فلسفته الجمالية على أساس أنطولوجي، مستمداً فلسفته من النظرية الجمالية الفيثاغورثية والنظرة السقراطية، فصاغ أكثر النظريات الجمالية تماسكاً في المرحلة الإغريقية، وكان أول فيلسوف يهتم بتسجيل موقف معين من ظاهرة الجمال، فأقام للجمال مثالاً Ideal هو «الجمال بالذات»، ذلك الذي يحتذيه الصانع في خلقه لموجودات العالم الحسي. وقد حدد أفلاطون «الجمال بالذات» بالحب الإلهي والخير والجمال الإلهي، وهو المثل الأعلى الذي تشارك به جزئيات العالم المحسوس، ومن هنا جاءت فكرة المحاكاة imitation، وأصبح الفن محاكاة العالم الحسي لعالم المثل.
ولم يكن لأرسطو Aristotle نظرية في الجمال تحدد معنى أو مفهوم الشيء الجميل، بل قدم شرحاً فقط لعملية الحكم الجمالي دون تعريفه وبيان خصائصه ووجوده كظاهرة جمالية، ونقض آراء أستاذه أفلاطون، فأشاد بمفهوم المحاكاة وقصره على الفنون نافياً شمولها كل أنواع الإبداع، ولاسيما النظر الفلسفي، وأكد أن الفن ليس محاكاة الجميل في ذاته، وإنما هو محاكاة للطبيعة كما تتجلى وتظهر، لكن وفقاً لمعيار عقلي كلي، فالفن مكمل للطبيعة، والجميل ليس مفارقاً وإنما هو موضوعي كامن في الواقع. وقد فصل أرسطو موضوع القيمة الجمالية عن القيمة الأخلاقية، فأثر هذا على تحليله لفن المأساة. كما اهتم بالمسائل التطبيقية للممارسة الفنية من عنايته بدراسة الجمال العام المطلق. ويعد كتابه في الشعر «بويطيقا» نظرية جمالية تطبيقية. كما أوضح أن قيمة الفن تكمن في فعله في النفس البشري أي في وظيفته التطهيرية التي تقوم على التحرر من بعض الانفعالات والهيجانات والعواطف السلبية عبر معايشتها فنياً. فالفنون مثل الموسيقى والدراما توقظ المشاعر والعواطف الأخلاقية وتدعو الإنسان إلى اتخاذ موقف أخلاقي، ذلك لأن الانفعال الفني الذي يتوهج حماسة هو انفعال النفس بوصفها حاملة للحياة الأخلاقية. وبهذا قدمت نظرية أرسطو في الجمال والفن صورة مثالية عن الإنسان تتمثل في الثقافة الشاملة والارتقاء إلى أعلى مراتب الأخلاق والنشاط السياسي.
وقام شيشرون (106-43ق.م) بتقديم النظرة اليونانية إلى الجمال في صورة مبسطة عملية، ارتكز بفضلها علم الجمال الكلاسيكي اليوناني الروماني إلى فكرة جوهرية وهي فكرة الكوزموس cosmos التي تعني بآن واحد نظام الكون والترتيب والجمال والزينة.
ومع أفلوطين (205-270م) Plotinus تم الانتقال من النظرة الجمالية اليونانية الكونية إلى النظرة الصوفية اللامادية، من الجمال الخارجي إلى الجمال الداخلي النفسي، فالتحرر من المادة يقود إلى الجمال الإلهي المطلق، لأن الجمال هو الخير، والبحث عنه توق إلى الاتصال بالعالم المثالي ومعاينة المبدأ الإلهي. والجمال قرين التناسب والنظام، وموح للخير، فالجميل عنده متجانس مع الإلهي والأخلاقي، إنه المعقول المدرك في علاقته بالخير أول الأشياء وأسماها، والواحد الجميل والحق المتعالي قمة الوجود.
أما لدى العرب والمسلمين، فقد بقي مفهوم الجمال متجاذباً بين أهل النقل وأهل العقل، فتأثر المعتزلة بما جاءت به الأفلاطونية من أن الحق والخير والجمال هي ماهية واحدة. وعبروا، بوصفهم ممثلي التيار العقلاني في الإسلام، عن هذه النظرة، وربطوا الجمال بالعقل والشرع معاً، فما هو حسن في نظر الشرع يعد حسناً في نظر العقل، فالعقل هو أساس القيمة الجمالية، لكن لم تكن للمعتزلة أبحاث تفصيلية في هذا الصدد.
وارتبط موقف المتصوفين المسلمين من الجمال وتفسيره بالجمال الإلهي، فميز الغزالي بين طائفتين من الظواهر الجمالية، طائفة تدرك بالحواس وطائفة ثانية هي ظواهر الجمال المعنوي التي تتصل بالصفات الباطنة وأداة إدراكها القلب، فالقلب أو الوجدان هو قوة إدراك الجمال في المعنويات.
واندمجت، في العصور الوسطى المسيحية، الأفكار الجمالية مع الدراسات اللاهوتية التي تهتم بالعلاقة بين العدل السماوي والشر الأرضي. ولم يكن ممكناً تصور الجمال إلا بوصفه أثراً إلهياً رمزياً في العالم الطبيعي. وكذلك جمال الفن فهو ذو دلالة رمزية فقط، إنه ضرب من التشبه بالإلهي أو ضرب من حلول الجمال السماوي في الأثر الفني.
فاعتقد أوغسطين Augustine أن الجمال هو التجلي الرمزي للألوهية، ويتمثل في نظام الوجود وترتيبه وتناسبه وفي وحدة الكون السارية في مختلف مظاهره. أما الفلاسفة الذين جاءوا بعده في العصور الوسطى المسيحية أمثال بونافنتورا Bonaventura، أنسلم St. Anselm، الإكويني St. Aquinas، فقد بقوا أمناء للرؤية الأفلاطونية، فبدا الجمال الفني دلالة على الحقائق الروحية، وتأثروا على رغم التباين في توجهاتهم الفلسفية، بتعاليم القديس أوغسطين الأفلاطونية. كما تأثروا بتاسوعيات أفلوطين (حول الجميل والصانع والمثال الجمالي)، التي تضمنت فلسفة جمالية صوفية.
واهتم فلاسفة عصر التنوير، روسو وديدرو ، بالظاهرات الجمالية، ونظرا إلى الطبيعة بوصفها نموذج النشاط الجمالي، وتمسك ديدرو باعتبار الإنسان معيار الجمال، وأكد هوبز على الجانب الاجتماعي في القيمة الجمالية، فنظر إلى الجمال نظرة تطورية، وقال إن الحكم الجمالي هو حكم قيمة مرتبط بزمان ومكان وشخص معين.
وكان للمدرسة الإنكليزية تأثيرها الكبير في تفسير الجمال وربطه بالإحساس والتمييز بين الشعور الخالص بالجمال وبين المنفعة، على يد كل من هيوم Hume الذي أرسى الاتجاه الذاتي في علم الجمال. ولوك Locke، وأدموند بيرك مؤلف كتاب «أصل مفهومي الجلال والجمال» الذي اعتمد في دراساته الجمالية على علم النفس الاختباري، ولهذا أمكن عده أحد مؤسسي علم الجمال التجريبي، وكذلك وليم هوغارت في كتابه «تحليل الجمال» الذي أكد فيه ضرورة الرجوع إلى الطبيعة كمعيار للتعرف على القيم الجمالية ومعرفة تكوين الأحكام الجمالية.
ومن أهم المفكرين في تاريخ التفكير الجمالي، في العصر الحديث، رجل التنوير الألماني ألكسندر باومغارتن A.Boumgarten، الذي كان أول من استخدم مصطلح «الأستطيقا» للدلالة على علم الجمال في كتاب نشره سنة 1750 باللغة اللاتينية بعنوان «الأستطيقا» Aesthetica، والذي يعد رائداً في الجماليات الحديثة، كان قد قصد به تأسيس علم مستقل (علم الجمال) يبحث في العلاقة بين الشعور والإحساس والكمال، أي قسم المعرفة الحسية الدنيا. وقد جعل مهمة علم الجمال، بوصفه علماً فلسفياً، التوفيق بين ميدان الشعور الحسي وميدان الفكر العقلي، ومن ثم التوفيق بين حقيقة الشعر والفن من ناحية وحقيقة الفلسفة من ناحية أخرى.
وقد استخدم كَنت Kant في كتابه «نقد العقل المحض» الأستطيقا بمعنى علم المبادئ القبلية للحساسية وللإدراك الحسي وهي الزمان والمكان. لكنه في كتابه «نقد ملكة الحكم» (1790)، الذي يعد دعامة قوية في بناء علم الجمال، تجاوز من سبقه ووضع نظرية نقدية جمالية أكثر تكاملاً وشمولية ومعارضة للنظرية الأفلاطونية. فقد استعمل كَنت أستطيقا بمعنى «الحكم التقديري الخاص بالجمال». وقد جهد كَنت في تحليل الشروط الأولية للحكم الجمالي ساعياً إلى تأسيس منطق للذوق على غرار ما أنجزه بالنسبة لميداني العلم والأخلاق بالاعتماد على المنهج الترانسندنتالي (المتعالي)، فرفض تفسير التجربة الجمالية بردها إلى عوامل خارجية، وأكد الصفة الذاتية للحكم الجمالي، أنه حكم حدس مرتبط بالذات، أي حكم ذوقي ذاتي. ولما كانت الشروط الذاتية لملكات الحكم واحدة عند كل الناس، فأحكام الذوق تتصف بالكلية. لهذا يعرف كنت الجمال أنه «قانونية بدون قانون»، وهو رمز الأخلاقية.
واستمر هذا المناخ الفلسفي النقدي في علم الجمال حتى ظهور محاولة هيغل Hegel الموسوعية للتوفيق بين الأفلوطينية Neoplatonism والكانتية، لإرساء فلسفة ميتافيزيقية مثالية للجمال والفن. فبحث في التناقضات الجدلية للقيمة الجمالية والعوامل الموضوعية التي تتحكم بتطور الجمال وتحققه الفني. وانطلق في كتابه «علم الجمال» من فرضيته القائلة أن الفن وسيلة الروح المطلق في وعيها لذاتها، وهو تحقيق لفكرة المطلق، فالروح في اتجاهها إلى المثل العليا تتجه إلى الجمال وإلى الحقيقة وإلى الألوهية، فالجمال هو التجلي الحسي للفكرة.
وبتحليل تطور العلاقة الجمالية، تمكن هيغل من وضع تفسير فلسفي لتاريخ الفن ومراحله الأساسية الثلاث: المرحلة الرمزية القديمة (فن العمارة)، والمرحلة الكلاسيكية اليونانية (النحت)، ثم المرحلة الرومانسية في العصور الحديثة (الموسيقى والشعر). وقد أكد هيغل أن موضوع علم الجمال هو الجمال الفني وليس الجمال الطبيعي، لأن الجمال الفني أرفع مقاماً بوصفه وليد إبداع الروح والوعي والحرية.