كان الفرزدق أحد الثلاثة الكبار بين شعراء العصر الأموي، بل كان عند بعض أهل المعرفة بالشعر أبرزهم مكانة وأغزرهم شاعرية وأجزلهم لفظًا وأفخمهم أداء وأوجزهم عبارة وأطولهم باعًا حتى قيل بأن في شعره نحوًا من ثلث اللغة العربية.
نسب الفرزدق ومولده
هو همّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية التميمي الدارمي، أبو فراس، الشهير بالفرزدق[1]، ولد في البصرة سنة 20هـ= 641م، وأدرك أبوه الإسلام فاعتنقه[2]، وكان من سراة قومه ورئيسهم[3]، وله مناقب مشهورة ومحامد مأثورة[4]، وأما أمه فهي لبنة بنت قرظة الضبية[5]، أيضًا كان جده عظيم القدر في الجاهلية، وعُرف عنه افتداء الموؤودات، فروي أنه افتدى ثلاثمائة موءودة قبل ظهور الإسلام[6]، وقد مدح الفرزدق جده مفتخرًا به قائلًا:
وجدّي الذي مَنَعَ الوائداتِ ... وأحيا الوئيدَ فلم يوأدِ[7].
نشأة الفرزدق وحياته
نشأ الفرزدق في البصرة في منعة من قومه، وتجوّل في البادية فتطبع بطباعها من قوة شكيمة وغلظة وجفاف[8]، وهو من الشعراء المعمّرين، وعاصر عددًا كبيرًا من الشعراء، من أشعرهم جرير والأخطل، وقد استمر الهجاء بينه وبين جرير أربعين عامًا، وبلغ من شهرة هذا الهجاء أن انقسم الناس من حولهما إلى فرزدقيًا وجريريًا، أيضًا عاصر الفرزدق عددًا من الخلفاء الأمويين مثل عبد الملك بن مروان، وأبناءه الوليد وهشام وسليمان[9].
شعر الفرزدق
الفرزدق أحد الشعراء الذين قام على مناكبهم صرح الشعر العربي في عصر بني أمية، فهو لم يدع بابًا إلا وطرقه ولا فنًا إلا ونظم فيه، فنال إعجاب الناس وتقدير أهل اللغة والنحو فراحوا يقولون[10]: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب ونصف أخبار الناس[11]، أما شعره الذي قيل فيه الكثير، فيمتاز بفخامة العبارة وجزالة اللفظ، وهو من أفخر شعراء العرب، وقد قضت العوامل السياسية والاجتماعية أن يلتحم الفرزدق مع جرير في تبادل الهجاء بينهما لمدة أربعين سنة[12].
أيضًا يعتبر الفرزدق أحد ثلاثة من فحول الشعراء في العصر الأموي إضافة إلى جرير والأخطل، لم يتفق الناس على تقديم واحد منهم، على الآخر، وقد اشتمل شعره على سائر الفنون، فقد خاض في الرثاء والغزل والفخر والهجاء والمديح[13]، وكان شريفًا في قومه، عزيز الجانب، يحمي من يستجير بقبر أبيه وكان لا ينشد الشعر بين يدي الخلفاء والأمراء إلا قاعدًا، وأراد سليمان بن عبد الملك أن يقيمه فثارت طائفة من قومه فأذن له سليمان بالجلوس[14].
الفرزدق وجرير
اختلف أهل المعرفة بالشعر في الفرزدق وجرير والمفاضلة بينهما والأكثرون على أن جريرًا أشعر من الفرزدق، على أنه قد قيل للمفضل الضبي الفرزدق أشعر أم جرير فقال الفرزدق، وقد أنصف أبو الفرج الإصبهاني حيث قال: من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم جريرًا وقال يونس بن حبيب ما شهدت مشهدًا قط ذكر فيه جرير والفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما[15].
وللفرزدق كثير من الأخبار مع جرير والأخطل، ومهاجاته لهما أشهر من أن تذكر[16]، فقد كان الفرزدق وجرير والأخطل مقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية[17]، وكان بين الفرزدق وجرير مهاجاة ونقائض نحو أربعين عامًا، وأجمعت أهل المعرفة بالشعر على أنه ليس في شعراء الإسلام مثل جرير والفرزدق والأخطل[18].
مدح الفرزدق لعلي زين العابدين بن الحسين
عن أبي عمرو بن العلاء قال: شهدت الفرزدق وهو يجود بنفسه، فما رأيت أحسن ثقة بالله منه، وترجى له الزلفى والفائدة وعظيم العائدة بحميته في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه لزين العابدين علي بن الحسين، وإعرابه عن الرغبة والرهبة[19]، وذلك أن هشام بن عبد الملك أراد الحج في خلافة أخيه الوليد وطاف بالبيت ولما أراد أن يستلم الحجر فلم يستطيع من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه وقام أهل الشام حوله، وبينما هو كذلك أقبل علي زين العابدين بن الحسين وجعل يطوف بالبيت ولما بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس له عنه حتى يستلمه هيبة له وإجلالًا وتقديرًا فقال أهل الشام لهشام بن عبد الملك من هذا؟ فقال لا أعرفه، فقال الفرزدق وكان حاضرًا: أنا أعرفه وأنشد:
هذا سَـلـيلُ حســـين وابــن فاطمــــة ... بنت الرسول الذي انجابت به الظّلمُ
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والــــبــــيــــت يـــــعرفـــــــــه والحـــــــــلّ والحـــــــــــــرمُ
هذا ابن خير عبــــاد الله كــــــــــلّهـــــــم ... هـــــــذا النـــــــــّـــــــقي التـــّــــقىّ الطاهر العلمُ[20].
وفاة الفرزدق
توفي الفرزدق في بادية البصرة في سنة 110هـ= 728م في أول خلافة هشام بن عبد الملك[21]، وقيل: كانت وفاته سنة 112ه، وقيل: سنة 114ه[22]، ولما بلغ جرير موته قال:
هلك الفرزدق بعدما جدّعته ... ليت الفرزدق كان عاش قليلا
ثم أطرق طويلا وبكى[23]، وقال: أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده، ولقد كان نجمًا واحدًا وكل واحد منا مشغول بصاحبه، وقلما مات ضد أو صديق إلا وتبعه صاحبه[24]، وقد روي أن الفرزدق عاش ما يقرب المائة سنة، وقيل: أنه بلغ مائة وثلاثين سنة والأول أصح[25].
قصة الإسلام
[1] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 6/ 86، سمي بالفرزدق لضخامة وجهه وعبوسه، فالفرزدق لقب غلب عليه ومعناه الرغيف أو فتات الخبز. انظر: المرزباني: معجم الشعراء، مكتبة القدسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1402هـ= 1982م، ص486.
[2] عمر فاروق الطبَّاع: شرح ديوان الفرزدق، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ= 1997م، ص18.
[3] ياقوت الحموي: معجم الأدباء، تحقيق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ= 1993م، 6/ 2785.
[4] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 6/ 86.
[5] المرزباني: معجم الشعراء، مكتبة القدسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1402هـ= 1982م، ص486.
[6] ياقوت الحموي: معجم الأدباء، تحقيق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ= 1993م، 6/ 2785.
[7] ابن الأثير: أسد الغابة ط العلمية، تحقيق: علي محمد معوض، عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415هـ= 1994م، 3/ 22.
[8] علي فاعور: شرح ديوان الفرزدق، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1407هـ= 1987م، ص5.
[9] عمر فاروق الطبَّاع: شرح ديوان الفرزدق، ص19.
[10] علي فاعور: شرح ديوان الفرزدق، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1407هـ= 1987م، ص8.
[11] الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، 2002م، 8/ 93.
[12] علي فاعور: شرح ديوان الفرزدق، ص8، 9.
[13] عمر فاروق الطبَّاع: شرح ديوان الفرزدق، ص20.
[14] الزركلي: الأعلام، 8/ 93.
[15] الصفدي: الوافي بالوفيات، 27/ 225.
[16] الزركلي: الأعلام، 8/ 93.
[17] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 7/ 148.
[18] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 321.
[19] ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ= 1986م، 2/ 59.
[20] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 2/ 1148، وابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 2/ 59، 60.
[21] المرزباني: معجم الشعراء، ص486، والزركلي: الأعلام، 8/ 93.
[22] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، 1420هـ= 2000م، 27/ 224.
[23] ابن قتيبة: الشعر والشعراء، دار الحديث، القاهرة، 1423هـ،1/ 472.
[24] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 326، 327.
[25] المرزباني: معجم الشعراء، ص486، 487.