بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
قال محمَّد بن منصور البغداديّ: لمَّا حَبَسَ الرَّشيدُ أبا العتاهية؛ جَعَلَ عَليهِ عَيْنًا يأتيه بما يقول؛ فرآه يومًا قد كَتَبَ على الحائط:
أَمَا وَاللهِ إنَّ الظُّلْمَ لُـؤْمٌ * وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي * وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
فأخبر بذلك الرَّشيد؛ فبَكَى، وأحضَرَهُ، واستحلَّه، وأعطاه ألفَ دينارٍ.
- - - - - - - - - - - - -
وقال الأصمعيُّ: صَنَعَ الرَّشيد يومًا طعامًا كثيرًا، وزَخْرَفَ مجالسَه، وأحضَرَ أبا العتاهية، فقال له: صِفْ لَنَا ما نحن فيه مِن نعيم هذه الدُّنيا؛ فقال:
عِـشْ مَا بَدَا لَكَ سَـالِمًا * في ظِلِّ شـاهِقَةِ القُصُورِ
فقال: أحسنتَ! ثُمَّ مَاذَا؟ فقالَ:
يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْـ * ـتَ لَدَى الرَّواحِ وفي البُكُورِ
فقال: أحسنت! ثمَّ ماذا؟ فقال:
فَإذَا النُّفُـوسُ تَقَعْقَعَتْ * فِي ظِلِّ حَشْـرَجَةِ الصُّدُورِ
فَهُنَـاكَ تَعْلَـمُ مُوقِنـًا * مَـا كُنْتَ إلاَّ فِي غُـرُورِ
فَبَكى الرَّشيدُ، فقال الفضلُ بنُ يحيى: بَعَثَ إليكَ أميرُ المؤمنين لتسرَّه فحزنتَه! فقال الرَّشيدُ: دَعْهُ؛ فإنَّه رَآنا في عمًى؛ فَكَرِهَ أنْ يزيدَنا عمًى
- - - - - - - - - - - - -
وقال أبو العتاهية: دَخَلْتُ على هارون الرَّشيد، فقال لي: أبو العتاهية؟ قلتُ: أبو العتاهية، قالَ: الَّذي يقول الشِّعْر؟ قلتُ: الَّذي يقول الشِّعر، قال: عِظْني وأَوْجِزْ؛ فقال:
لتَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرْفٍ وَلا نَفَسِ * وَإِنْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجَّابِ والْحَرَسِ
وَاعْلَـمْ بِأَنَّ سِـهَامَ المَوْتِ قَاصِـدةٌ * لِكُلِّ مُـدَّرِعٍ مِنَّا وَمُتَّـرِسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا * إنَّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى اليَـبَسِ