اهتمَّ المنهج الإسلامي منذ بداية نزوله بتوعية المسلمين لكل ما فيه الخير لدينهم ودنياهم؛ فأمرهم بالعلم وحضَّ عليه، ورغَّبهم في استخدام هذا العلم في إصلاح كل جوانب الحياة.

ومن أهمِّ هذه المجالات التي أبدع فيها المنهج الإسلامي مجال الوقاية من الأمراض؛ فقد ظهر فيه بجلاء حرص الإسلام ليس فقط على الأمة الإسلامية ولكن على عموم الإنسانية؛ فإن الأمراض إذا انتشرت في مجتمع فإنها لا تخصُّ دِينًا دون دين, ولا تختار عنصرًا دون عنصر، ولكنها تؤثِّر سلبًا على حياة العموم من الناس.

وعليه فقد جاء الإسلام بمنهج معجز؛ فيه سلامة الجسد والنفس والمجتمع.. وكيف لا يكون معجزًا وقد جاء من عند رب العالمين؟!

ففي الوقت الذي كانت القذارة في كل شيء سمة مميزة لحياة الأوربيين -حتى اعْتُبِرَت الأوساخ التي تعلق بالجسم والملبس هي من البركة، ومن الأشياء التي تُعطي القوة للأبدان! وحتى وصل الأمر إلى أن الإنسان كان لا يغتسل في العام كله إلاَّ مرَّة أو مرتين - في هذا الوقت نزل المنهج الإسلامي في عمق الصحراء, وبعيدًا عن حياة المدن والحضارات العملاقة؛ يُرشد الناس إلى الطهارة ووجوب الغُسْل وإلى استحبابه.

فالغُسْل واجب عند الجنابة وعند الحيض، وغير ذلك، وهو مستحَبٌّ في العيدين والإحرام وغيرهما، واختلف العلماء في وجوبه أو استحبابه يوم الجمعة، والغالب أنه مستحَبٌّ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ».

بل إنه حدَّد للمسلم فترة زمنية قصوى للفارق بين الغُسْلَين، فقال صلى الله عليه وسلم: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ».

ووصل بعض الفقهاء بأنواع الغُسْل المختلفة إلى سبعة عشر نوعًا من الغُسْل للدلالة على أهميته، ودعا الإسلام إلى طهارة الأعضاء المختلفة من الجسم، واهتمَّ بالأعضاء التي تكثر فيها الأمراض أو يحتمل فيها حدوث الوسخ.

ففي طهارة الفم قال صلى الله عليه وسلم: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ». وقال ابن عباس رضي الله عنه: "لقد كنَّا نُؤْمَرُ بالسواك، حتى ظننَّا أن سينزل به قرآن".

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طهارة ونظافة الأماكن التي يُتَوَقَّع فيها العرق والأوساخ والميكروبات، بل جعل ذلك من سنن الفطرة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ».

ولك أن تتخيل مدى رُقِيِّ هذا الدين الذي يأمر بهذه الآداب في هذا العمق من التاريخ، وفي هذا المكان في الصحراء، وفي هذه الظروف الصعبة التي نشأ فيها الإسلام.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضًا- بالتنزُّه من قذارة البول والغائط، وشدَّد في ذلك حتى إنه مرَّ على قبرين؛ فقال لأصحابه يُحدِّثهم عن صاحبي هذين القبرين، وذلك كما روى ابن عباس رضي الله عنه: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».

وفي غير الطهارة، فقد حضَّ الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم المسلمين على حماية أنفسهم من آثار الطعام الزائد عن الحاجة، وحذَّرهم من آثار التخمة؛ فقال: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ الآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتِ الآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ».

كما أمرهم بالحفاظ على نظافة الأطعمة والأشربة، فقال صلى الله عليه وسلم: «غَطُّوا الإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ».

وقد ذهب التشريع الإسلامي إلى أبعد من ذلك، حين منع أتباعه من كل خبيث يؤدِّي إلى ضرر بالصحة الجسدية والنفسية ويضرُّ كذلك بالمجتمع؛ فحرَّم الإسلام الخمر وما يندرج في حكمها كالمخدرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ».

وبذلك حمى المسلمين من الأضرار الصحية الخطيرة للخمور والمخدرات، كما حمى البشرية جميعًا من الآثار الضارَّة للمخمورين، سواء نتيجة للحوادث أو للجريمة، أو لغير ذلك من الآثار السيئة لغياب العقل.

والذي ذكرناه في الخمر ينطبق كذلك على تحريم الفواحش؛ فالإسلام حرَّم الزنا وكل العلاقات غير المشروعة؛ وبذلك لم يحفظ فقط صحَّة المسلمين ونسلهم وأخلاقهم، ولكن كان لذلك مردود على المجتمع بكامله مسلمين وغير مسلمين، ولا يخفى على أحد أن انتشار الأمراض الجنسية في البلاد الإسلامية أقل بكثير منه في البلاد غير الإسلامية؛ وما ذلك إلاَّ لكون الإسلام يمنع هذه الموبقات.

وما أروع ما قاله صلى الله عليه وسلم حين قال: «لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا». ولا يخفى على أحد أن أمراض الإيدز والإيبولا، وغيرها من الأمراض الجنسية القاتلة لم تكن معروفة قبل ذلك، ولم تظهر إلاَّ بظهور الفاحشة في المجتمعات.

وحرَّم الإسلام - أيضًا - أكل الميتة؛ لما في ذلك من أضرار جسيمة بالصحة أثبتَها الآن الطبُّ الحديث.

ومما جعلني أشعر بالفخر الشديد وأنا في زيارة لأمريكا، أني وجدتهم يفتخرون بأنه إذا مات لهم طائر أو حيوان قبل الذبح فإنهم لا يأكلونه؛ لأنه يكون ضارًّا بالصحة، وهذا لم يكتشفوه إلاَّ منذ أعوام قليلة، بينما أوربا إلى الآن تأكل الميتة! وهذا يجعل الأمريكان يفتخرون بمنهجهم الصحي على الأوربيين!

فقلتُ في نفسي وأمام الأمريكان، وغيرهم: ما أروع ديننا الذي حرَّم علينا هذا الذي اكتشفتموه حديثًا! فإنه حرَّم ذلك علينا منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.. فسبحان الذي يعلم السر وأخفي!

ولا أشكُّ - من هذا المنطلق - في أن السجائر حرام، وأن الذي يتناولها آثم، فالدين الذي حرَّم على أتباعه الخبائث لا يمكن أن يُحِلَّ لهم شرب السجائر بكل ما فيها من خبث وضرر؛ فإنها لم تترك عضوًا من أعضاء الجسم إلاَّ وألحقت به ضررًا خطيرًا، فعودة إلى الإسلام أيها المسلمون!

ولم يهتمّ الإسلام فقط بصحة الجسد بل اهتمَّ كذلك بصحة النفس؛ فأمر بذِكْرِ الله عز وجل، وجعل ذلك اطمئنانًا للقلب؛ فقال تعالى {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وحضَّ المسلمين على الرفق والرحمة، وحُسن الخُلق ولين الجانب وطيب الكلام، وجعل في التبسم صدقة، وجعل في أدب المعاملات أجرًا، وشجَّع المسلمين على نسيان أخطاء الآخرين، وعلى العفو والمغفرة، وعظَّم لهم قيمة الرضا بما قسم الله تعالى، وجعل لهم الجنة عوضًا عمَّا أصابهم من مصائب إذا صبروا عليها.

ولا شكَّ أن كل هذا يصبُّ في تكوين صحة نفسية جيدة، ويسمو بالروح ويُطمْئِن القلب، ويرتفع بأخلاق المسلم وقيمه وأهدافه إلى درجات راقية لا يتخيَّلها غير المسلم، ولا شكَّ أن معدل الأمراض النفسية من قلق واضطراب واكتئاب أعلى بكثير في بلاد الغرب منها في بلاد المسلمين، وليس أدلّ على ذلك من مراجعة نسب الانتحار هنا وهناك لتعلم قيمة الإسلام.

وانطلاقًا من حفاظ الإسلام على صحة الفرد والمجتمع فإن الإسلام لم يحضَّ فقط على الاهتمام بالجسد والنفس، بل اهتمَّ كذلك بما يُلبس من ثياب؛ فالثياب النظيفة الجميلة تعود بالفائدة على صاحبها وعلى من يعيشون إلى جواره، بل على من يراه وإن كان لا يعرفه.

ففي أول ما نزل من القرآن نجد قول الله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وما أروع أن يكون اهتمام الإسلام من أول يوم نزل فيه للبشر بظاهرهم كما يهتمُّ بباطنهم، فهو يقرن التوحيد بنظافة الإنسان فيقول: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 3، 4] واللفظ يحتمل ظاهر المعنى، وإن كانت له تأويلات أخرى.

كما أنَّ التشريع الإسلامي عدَّ الثوب نجسًا بمجرَّد وصول شيء من النجاسة إليه؛ كالبول والغائط والدم، ولا تصحُّ الصلاة فيه إلاَّ أن تزول النجاسة، حتى لو كانت النجاسة قليلة.. قال أحمد بن حنبل عن الثوب الذي أصابه بول أو غائط: "يعيد الصلاة من قليله وكثيره". أي من قليل النجاسة أو كثيرها ، كذلك ينجس الماء إذا وقع فيه من النجاسة ما يُغَيِّر لونه أو طعمه أو رائحته ، وكل ذلك يهدف إلى عدم استعمال شيء وصل إليه قذر أو وسخ.

ولا يهتمُّ المسلم فقط بنظافة نفسه وثيابه، بل يجب أن يهتم بنظافة البيئة التي حوله، وهذا بحث يحتاج إلى كثير تفصيل، ليس هذا موضعه.

وإذا كان عطاء الإسلام فيما يخصُّ الوقاية من الأمراض على هذا النحو من الرقي؛ فإنه لا يقف عاجزًا أمام الأمراض إذا حدثت، فلا يكتفي فقط بالأمر بالتداوي، ولكن يحضُّ - وبشدَّة - على منع انتشار الأمراض في المجتمع، فيما يُعرف بـ "الحَجر الصحي"!

وإنَّ المرء ليقف مبهورًا أمام عظمة التوجيه النبوي الذي يحدُّ من انتشار الأمراض في المجتمع، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ». فهو بذلك يوضِّح لك أبسط وسائل الوقاية من الأمراض - وأنجحها في ذات الوقت - وهذا كله منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام!

ثم هو يختار أمراضًا خطيرة بعينها -عُلِم الآن على وجه اليقين أنها تنتقل بالعدوى- ويحذِّر منها تحذيرًا بيِّنًا ظاهرًا لا يحتمل التأويل؛ فتراه يقول - مثلاً - في أمر مرض الجُذام الخطير: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ».

ثم هو يضع أعظم قواعد الحجر الصحي بالنسبة للأوبئة الخطيرة كالطاعون فيقول: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا»، وهذا هو قمة ما وصل إليه الطب الحديث في محاولة الحدِّ من انتشار الأوبئة الخطيرة كالطاعون.

وأخيرًا.. فإن المنهج الإسلامي في الوقاية من الأمراض لكي يضمن الدقَّة في التطبيق، والحرص في أداء القواعد الصحية، فإنه يربط كل هذه القواعد برضا الله عز وجل، وبالزجر والمثوبة، والجنة والنار؛ فليس الغرض فقط هو الحياة الدنيوية السعيدة - وإن كان هذا متحققًا إن شاء الله - ولكن الهدف أسمى من ذلك وأجلّ، وهو سعادة الآخرة.

فنجد مثلاً في تعظيم أمر السواك وطهارة الفم ونظافته أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ" . فهو لا يحقق نظافة وصحة فقط، بل يحقق أجرًا ومثوبة! ونجده صلى الله عليه وسلم يقول في أمر الوضوء والغُسْل، وذلك كما روى أبو مالك الأشعري رضي الله عنه: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ» . فجعل هذا الطهور وهذه النظافة نصف الإيمان.

ونجده يعطي أجرًا عظيمًا لمن ساهم في منع انتشار الطاعون، حتى يصل هذا الأجر إلى الشهادة في سبيل الله! فيقول لأُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنه، عندما سألته عن الطاعون: «إِنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ».

وهذا هو روعة ما جاءت به الحضارة التشريعية فيما يخصُّ الطبّ الوقائي في الإسلام.

المصدر: كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني