نظرية الحرباء، هل وجدنا بديلا للنسبية العامة؟
منذ عدة أيام، انتشر خبر يقول أن نظرية جديدة قد تحل محل النسبية؛ فباستخدام نظام محاكاة أعطت هذه النظرية نتيجة مثل ما تعطيه النسبية العامة لأينشتاين (1)، فهل يعني ذلك أننا وجدنا بديلًا للنسبية العامة بعد استمرارها لأكثر من مئة عام؟
هناك مسعى رئيسي يميزنا نحن البشر عن باقي الأجناس وهو السعي نحو الحقيقة والولوج في طرق السؤال والفضول، ننتظر في دواخلنا أن يستريح ذلك الجزء من نفوسنا بعد أن يقف على الحقيقة الكاملة أو الفهم التام حيث لا يبقى غموض مؤرق. ربما كان هذا هو الدافع الأكبر للعلماء حتى يستمروا في اكتشاف النظريات وابتكار الاختراعات؛ أن يصلوا إلى هذه الراحة. لكن من ينظر في الأمر يجد أنه ما إن يشعر العلماء أنهم اقتربوا من الفهم التام؛ حتى تظهر لهم المشكلات والتناقضات مما قد يدفعهم لتغيير أفكارهم المسبقة بالكامل، وهكذا تستمر دورة العلم.
نيوتن وأينشتاين
في القرن التاسع عشر كانت قوانين نيوتن هي المسيطرة في المجتمع العلمي في تفسير الجاذبية، فاستطاعت بنجاح أن تتوافق مع الحركات على الأرض وكذلك دوران الكواكب في السماء إلا مشكلة بسيطة في حركة كوكب عطارد التي لم تتوافق مع القوانين. هنا، اعتبر نيوتن أن هذا موضع التدخل الإلهي وقد كان رجلًا متدينًا فاستقر على هذا التفسير. لم يفكر حينها أن نظريته تحتاج إلى تعديل حتى وإن توافقت مع عدة ظواهر أخرى. تمر السنون ويخرج أينشتاين بنظرية النسبية الخاصة ثم العامة عام 1915م التي استطاعت بدورها أن تفسر ما لم تستطع قوانين نيوتن تفسيره، ليس حركة كوكب عطارد فحسب، بل تنبأت بالعديد من الظواهر أيضًا مثل انحناء الضوء الذي اختبرت صحته في كسوف الشمس الشهير عام 1919م وغيرها من الظواهر. فتعتبر نظرية النسبية العامة هي السائدة في الفيزياء حاليًا مع نظرية ميكانيكا الكم. وبالرغم من عدم توافق النظريتين معًا إلا أن كلا منهما قد أثبتت كفاءتها في تفسير ما تعنى به.
الحقيقة أنه ليس هناك نظرية نجحت في هذا الكم من الاختبارات مثل نظرية النسبية كما أنها تستخدم في عدة تطبيقات مثل جهاز التتبع عن بعد (GPS)، بالإضافة إلى كونها ذات أصل رياضي ثابت مما حقّق لها الرواج لأكثر من مائة عام حتى الآن. بالرغم من ذلك، كانت هناك مشكلتان رئيسيتان.
المادة المظلمة والطاقة المظلمة
ربطت النسبية العامة بين أشياء كانت تعتبر منفصلة قبل ذلك مثل الجاذبية والزمن ومثل الكتلة والضوء؛ فباستطاعتنا من خلال مراقبة مجرة ما وبرصد الضوء الذي تشعه أن نحدد كمية المادة التي تحتوي عليها تلك المجرة وبالتالي تحديد كتلتها، ثم نعلم من الكتلة كيف يجب أن تكون سرعة دوران المجرة حول مركزها. حسنًا، المشكلة هنا أنه عندما قام العلماء بتطبيق قوانين النسبية العامة على المجرات التي تم رصدها، كانت هناك مجرات تتوافق مع نتائج القوانين كما يجب، لكن هناك مجرات أخرى لم تتفق أبدًا حيث كانت السرعة التي تدور بها المجرة تدل على كتلة مادة أكبر كثيرًا من تلك التي نرصدها من خلال الضوء الساطع منها.
كيف يمكن أن يحدث هذا؟ كيف يمكن لقانون أن يفسر حركة مجرة ولا يفسر الأخرى؟ ونحن لا نتحدث عن أي قانون إننا نتحدث عن واحد استطاعت صحته أن تثبت من خلال العديد من الاختبارات. هذا ما دفع العلماء إلى افتراض في غاية الجرأة فقالوا أن هذه المجرات التي لابد وأنها تحتوي على الكثير من المادة فوق التي نراها، تحتوي فعلًا على هذه المادة التي لا نراها، وأطلقوا على هذه المادة اسم المادة المظلمة (Dark Matter)، إنها مادة لا يمكن لنا لمسها ولا رؤيتها، لا تتفاعل مع أي شيء ولا تعلن عن وجودها بأية طريقة إلا من خلال تأثيرها الجذبوي. هكذا ستتوافق كمية المادة مع القانون وحلت المشكلة. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن يفكر العلماء في ماهية المادة المظلمة وما هي الجسيمات التي تتكون منها. أكثر الجسيمات ترشيحًا للمنصب هو جسيم يدعى الويمب (- Weakly interacting massive particle WIMP) أي الجسيم ذو الكتلة ضعيف التفاعل. ولا حاجة للقول أن رصد جسيمًا من خصائصه أنه ضعيف التفاعل مع المادة العادية أمر صعب للغاية. مع ذلك، قام العلماء بإجراء العديد من التجارب سعيًا وراء هذا الويمب، لكن النتيجة لا شيء.
مع هذا، دعنا نسلم بوجود المادة المظلمة، دعنا نضيف كتلتها ونحسب أثرها الجذبوي عسى نسلم من التناقضات. فهل سلمنا فعلًا منها؟ هنا نعود إلى عام 1927م حين اكتشف العالم (جورج لوميتر) أن المجرات تتباعد عن بعضها واستنتج من ذلك أن الكون يتمدد. بعد ذلك، ظهر أن الكون لا يتمدد فحسب بل إنه يتمدد بمعدل متسارع أي أن تمدده الآن أسرع من السابق. وهذا لا يتماشى مع تأثير جاذبية المادة العادية والمظلمة أيضًا. فما السبب في هذا التسارع؟ هنا افترض العلماء أيضًا أن هناك طاقة ما هي التي تسبّب تسارع تمدد الكون وأطلقوا عليها الطاقة المظلمة (Dark Energy) . لكن من أين أتت الطاقة المظلمة؟ وما المجال الذي يسببها؟ لا ندري. حتى إن قيمتها تمثل مشكلة كبيرة حيث إنها تقدر ب 7 × 10−30 g/cm3 فلماذا هذه القيمة بالتحديد التي تسمح بتكتل النجوم والمجرات؟ فلو كانت قيمة الطاقة المظلمة أكبر قليلًا لكان الكون هباءً منثورًا، ولو كانت أقل قليلًا لانسحق على نفسه. البعض يقول هناك أكوان متعددة لكن لا دليل على ذلك وهكذا نظل ندور في دائرة من الافتراضات لحل هذه الأسئلة الصعبة.
صورة توضح نسبة المادة العادية (5%) والمادة المظلمة (27%) والطاقة المظلمة (68%) من الكون.
الجاذبية الدالية ونظرية الحرباء
تأمل قليلًا هذا الوضع حيث يصبح 95% من الكون يتألف من مادة وطاقة مظلمتين لا نعرف ماهيتهما، صحيح هناك عدة أدلة تشير إلى وجودهما لكننا لا نستطيع أن نرصدهما أو أن نجد دليلًا قاطعا يجزم بوجودهما. لِمَ نفترض وجود مادة وطاقة كي تتفق نتائج القوانين مع البيانات المرصودة؟ أليس الأوقع أن تكون قوانين الجاذبية التي نعرفها هي التي تحتاج إلى تعديل؟ هذا ما حمل بعض العلماء على العمل على نظريات جاذبية معدلة مثل نظرية الجاذبية الدالية أو (F (r) gravity). أول من اقترح نظرية الجاذبية الدالية هو العالم الأسترالي (هانز أدولف) عام1970م، وتقول النظرية ببساطة إن كانت هناك مجرات تخضع لقانون الجاذبية الذي نعلمه وأخرى لا تفعل فإن هذا بسبب أن الجاذبية نفسها تختلف من مكان لآخر في الكون. في الحقيقة، الجاذبية الدالية ليست نظرية واحدة بل هي مجموعة من النظريات تشترك جميعها في افتراض أن الجاذبية في مكان ما في الفضاء تتفاعل مع البيئة حيث أن الكتلة تتغير بتغير المادة نفسها، وبذلك لم نعد بحاجة إلى المادة المظلمة كي تعوض إخفاق القوانين (2).
تعتبر نظريات الجاذبية المعدلة مجالا واعدا للبحث فنحن نخشى دائما أن نخطئ نفس أخطاء الماضي مثلما كان يعتقد العلماء في مادة الأثير التي كانت أيضًا لا نراها و تملأ الكون كله ثم ثبت أنها محض خيال. ومن نظريات الجاذبية المعدلة واحدة تدعى الحرباء (Chameleon Theory). اقترحت هذه النظرية في البداية لتفسير الطاقة المظلمة (3) إذ تقول أن هناك مجال يدعى مجال الحرباء هو المسئول عن تأثير الطاقة المظلمة ومثله مثل باقي المجالات تنشأ عنه جسيمات دقيقة تسمى جسيمات الكاميليون (الحرباء) كما في الإلكترونات وغيرها من الجسيمات.
لكن الاختلاف هنا بين جسيم الكاميليون وغيره أنه ليس لديه كتلة ثابتة بل إن كتلته تعتمد على مقدار المادة المحيطة به، فإذا كانت هناك كمية كبيرة من المادة كما هو الحال على الأرض يصبح جسيم الكاميليون ذا كتلة كبيرة ويصبح مجال الكاميليون ذا تأثير ضعيف، والعكس في حالات الفراغ كما في الفضاء يصبح جسيم الكاميليون ذا كتلة ضئيلة والمجال ذا قوة كبيرة. لفهم هذا، دعنا نتخيل أن مجال الكاميليون كأسرة مشاغبة والجسيم هو الأب الذي يضبط هذه الأسرة. وحين تختلط هذه الأسرة بالناس، يزداد حزم الأب (كتلة الجسيم) فتهدأ الأسرة ويقل شغبها (تأثير المجال) أما إذا خلوا بأنفسهم (في الفراغ) يقل حزم الأب وينطلق الأولاد في شغبهم. وهنا يتضح لماذا سميت النظرية بالحرباء لأن خصائص مجال الكاميليون تتغير وفقا للقرب أو البعد عن المادة كما يتغير لون الحرباء تبعا للبيئة التي تحيط بها. يقول العالم (مولر) من جامعة كاليفورنيا عن هذه النظرية: «لدى جسيم الكاميليون كل الخصائص ليكون جسيم المادة المظلمة؛ إنه يفسر المشاهدات الكونية ولا يتعارض مع النظريات الحالية».
سميت النظرية بالحرباء لأن خصائص مجال الكاميليون تتغير وفقا للقرب أو البعد عن المادة كما يتغير لون الحرباء تبعا للبيئة التي تحيط بها.
والآن، كيف تحل النظرية مشكلة الجاذبية؟ لنفكر في الأمر على أن الطاقة المظلمة والجاذبية قوتان متعارضتان فالأولى تفرق المادة عن بعضها والثانية تقربها وتضمها. ومن يحل هذا النزاع هو المادة نفسها إذ أنها تضغط زر الإغلاق على مجال الكاميليون -الذي يمثل الطاقة المظلمة- فتنتصر الجاذبية وهذا عكس ما كنا نعتقده؛ أن الطاقة المظلمة واحدة سواء وجدت المادة أم لا. بكلمات أخرى، يزداد تأثير الطاقة المظلمة ويتمدد الكون أكثر في الفراغ بينما تُترك تجمعات المادة كالمجرات والنجوم بلا شيءٍ يبعثرها كما نرى في الكون المشاهَد.
توضح الصورة الفرق بين تصور تأثير الطاقة المظلمة في نظرية الحرباء (على اليمين) حيث يختفي اللون الأزرق (مجال الكاميليون) حول المادة، وبين الطاقة المظلمة في مفهوم الثابت الكوني (على اليسار) حيث يظل اللون الأزرق كما هو.
نظام محاكاة يثبت نجاح نظرية الحرباء
منذ عدة أيام، قام فريق من العلماء بجامعة درهام في بريطانيا بعمل نظام محاكاة على حواسيب فائقة واستخدموا فيه نظرية الحرباء لينظروا هل يمكن لمجرة مثل مجرتنا أن تتكون تحت هذه القوانين (4). وكانت النتيجة أنه بالفعل تكونت مجرة حلزونية شبيهة لمجرتنا (درب التبانة)، حتى أنهم اختبروا وجود ثقب أسود فائق الكتلة في المركز كما في مجرتنا؛ حيث أن وجود ثقب أسود يؤثر على تجمع المادة وتكون المجرات من خلال الإشعاع الذي يبثه ما يمكن أن يطيح بالغبار المتجمّع. وبعد تطبيق نظرية الحرباء مع وجود ثقب أسود وجدوا أنه مازال يمكن للمجرة الحلزونية أن تتكون أيضًا. فما الذي يعنيه هذا؟ هذا يعني أنه ليست النسبية العامة الطريقة الوحيدة لتفسير نشأة مجرة مثل مجرتنا وأن هناك طرق أخرى. لكن هل هذا يكفي لإثبات صحة النظرية؟ لا، فهذه التجربة السابقة هي تجربة تأكيدية لا تثبت صحة النظرية بشكل يقطع الشك بحيث لا يكون هناك سبيل آخر للتفسير. فلابد أن توجد تجربة تجزم نتيجة لها بخطأ النظرية، فإن لم يحدث هذا أيقنَا أننا على صواب.
سيخبرنا المستقبل؟
في الواقع، هذا لم يكن أول اختبار لنظرية الحرباء فقد أجريت تجربة أخرى منذ أربعة أعوام وللأسف لم تنجح النظرية هذه المرة. استخدم العلماء جهاز يسمى مقياس تداخل الذرات (Atom Interferometer) حيث وضعوا كرةً من الألومونيوم في حجرة صغيرة فارغة تمامًا من الهواء لخلق حالة تشبه الفراغ الذي في الفضاء، ومن أعلى هذه الكرة سمحوا لذرات السيزيوم أن تسقط بحرية. تعتبر كرة الألمونيوم هنا وسط الفراغ مصدرًا لتأثير الحرباء؛ فبينما تسقط ذرات السيزيوم من أعلى بفعل الجاذبية يفترض أن يُظهر الاختلاف في كثافة المادة تأثير الحرباء ولكن النتائج لم تعطِ أي دليل لقوة مختلفة غير قوة الجاذبية. يأمل العلماء في إعادة التجربة في الفضاء لأن تأثير الكاميليون لابد وأنه متضائل للغاية هنا على الأرض لدرجة لا نستطيع معها كشفه. وفي نفس الوقت، يسعى فريق جامعة درهام إلى إجراء اختبار جديد من خلال التليسكوب مصفوف الكيلومتر المربعSquare Kilometer Array) Telescope) الذي سيتم بناؤه في العام القادم مرورا بعشرين دولة منها أستراليا وجنوب أفريقيا.
صورة توضح تجربة مقياس تداخل الذرات حيث توجد كرة الألومونيوم في مركز الحجرة الفارغة وتسقط عليها ذرات السيزيوم.
هل نظرية النسبية خاطئة؟
ستعطينا البيانات من هذا التليسكوب نظرة أكثر شمولية للكون وتسفر عن هيئته الأولى فربما تثبت صحة نظرية الحرباء بالفعل لكن هل حينها تبطل النسبية؟ حسنًا، الأمر لا يتعلق بهدم النظريات بقدر تعلقه بالقرب من الوصف الأقرب للطبيعة فكما كانت نظرية أينشتاين أعم وأشمل من نظرية نيوتن يمكن أن نصل إلى نظرية أعم وأشمل من النسبية في المستقبل بحيث تكون النسبية حالة خاصة منها. لكن ما زال أمامنا الكثير لنصل إلى نظرية صلبة وناجحة مثلها. فليس الغرض من هذا المقال أن نقول أن النسبية خاطئة أو أنه لا وجود للمادة المظلمة أو الطاقة المظلمة، بل الهدف أن نكون على دراية بمشكلات ما نعرف ونواجهها عسانا نصل إلى الاتساق بدون تناقضات. للأسف يبدو أننا ما نزال شديدي البعد عن ذلك، مع هذا، ما تحمله الأيام القادمة يستدعي أن نترقب بحماس.