ميلاد الفن على ضفاف بلاد ما بين النهرين
يعتبر فن العمارة وفن النحت من الفنون التي حظيت بتواجدٍ وانتشارٍ كبيرين خلال فترات متعاقبة من التاريخ، والتي عملت على تجسيد كل حضارة مرَّت على البسيطة وإعطائها الطابع الخاص بها.
العراق.. بلدٌ عربي، تقع حدوده الجغرافية في غرب القارة الآسيوية، تقابله في الشمال حدود الجمهورية التركية، ويتلامس في الجنوب مع أشقائه من الأصل العربي: دولتيَّ الكويت والمملكة العربية السعودية، وتحدّه دولة إيران من الشرق، وجيرانه سوريا والأردن من الغرب، تلك هي الجغرافية الحديثة لدولة كانت مترامية الأطراف، وشاسعة المساحة، وكبيرة النفوذ في الماضي السحيق، تاركةً أكبر الأثر على عُمق وجودها في قلب التاريخ الإنساني.
يعتبر فن العمارة وفن النحت من الفنون التي حظيت بتواجد وانتشار كبيرين خلال فترات متعاقبة من التاريخ، والتي عملت على تجسيد كل حضارة مرت على البسيطة، وإعطائها الطابع الخاص بها. ولأن العراق مرت عليه حضارات متعاقبة في وقتِ ما قبل الميلاد، كان لفن العمارة تنوعه الفريد بتنوع هذه الحضارات على هذه الأرض، لتُثبت العراق لكثيرين أنها كانت مهد الفن قبل أن يُسجِّل التاريخ أرقامه على أيام هذا العالم.
الحضارة السومرية
تُعد الحضارة السومرية من أول وأقدم الحضارات التي ظهرت في بلاد الرافدين، وكانت هذه الحضارة صاحبةَ فضلٍ كبير، ليس على الفرد العراقي القديم فحسب، بل أيضًا على الإنسانية جمعاء، فكما ساهمت في خلق أناسٍ بعيدين كل البعد عن التخلف والبدائية ليرسموا من إبداعاتهم الفكرية صورةً مُشرقةً عن الفرد العراقي القديم، فقد أهدت إلى العالم اختراعَ الكتابة الذي مكَّن البشرية خلال تلك الفترة من العمل على رسم صورةٍ للحياة الإنسانية لتلك المرحلة في شتَّى جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والدينية والتاريخية والسياسية.
إن الأسس الأولى للتفكير الهندسي للبناء ولفن المعمار نبعت من العصر السومري، الذي كان له طابعه الخاص فيما ترك من أبنية مختلفة. ولقد تميز هذا العصر بالتنوع في فن العمارة بين ما هو ديني وما هو دنيوي. تنتمي المعابد إلى نوع العمارة الدينية التي تتسم بالتطور عبر الوقت، حيث كان المعبد نمطًا معماريًّا تتميز خواصه المعمارية تبعًا لوظيفته، فهو يتكون من أربعة جدران تشير إلى الاتجاهات الأربعة، ويتكون من عدة غرف يتواجد في أكبرها تمثالٌ خاص بالإله أو الرمز المعبود، وقد شُيِّدَت المعابد على مصاطبَ كي تُصبح فيما بعد «زقورات»* مرتفعة تعمل على تسهيل الاتصال بين السماء والأرض.
أما الشكل الدنيوي، فتمثَّل في القصور التي تواجدت لأول مرة في تاريخ العراق القديم، التي قام بتشييدها بعض حكام دويلات المدن السومرية بغرض السكن والإدارة. وهذه القصور تختلف في خواصها المعمارية الفنية عن المعابد، كونها محاطة بأسوار ضخمة مزودة في بعض الأحيان بأبراج دفاعية لحمايتها. كما تُعتبر القصور أكثر تعقيدًا في تركيبها المعماري من المعابد، فإذا كان المعبد انتصارًا للعمارة العمودية، فإن القصور تُعدُّ تفوقًا لامتداد العمارة الأفقية.
وفي النحت، عَمَدَ الفنان السومري إلى التعبير عن المضامين الدينية والدنيوية من خلال أعماله النحتية التي تجسدت من خلال الأشكال المختلفة على هيئاتٍ بشرية وحيوانية ومركَّبة ونباتية، وتجسيدات أخرى ثمثَّلت في أشكال أخرى مثل نهري دجلة والفرات، وسلال من الفاكهة والخضروات، وزهريات ذات أشكال حيوانية بالإضافة إلى الهدايا والنذور.
تعد زقورة أور من أشهر معالم الحضارة السومرية الموجودة حتى الآن قرب مدينة الناصرية بالعراق.
الحضارة الأكدية
عاش الأكديون قرونًا طويلةً من الزمن في جنوبي بلاد الرافدين قبل أن يصبحوا قوةً ذات شأن، ويؤسسوا دولةً لهم على يد ملكهم «سرجون الأكدي» في منتصف القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، ذلك الملك الذي كان الطابع الأسطوري هو الغالب في سرد تفاصيل حياته، وفي خلال فترة حكم الأكديين مروا بالعديد من لحظات النصر والهزيمة التي سجَّلها التاريخ. وعلى الرغم من المعرفة المنقوصة عنهم والتي يرجع سببها إلى عدم استطاعة الكشف حتى الآن عن مدينتهم (أكد)، إلا أن هناك القليل من أنقاضها التي تحكي عن تلك الحضارة.
لم يكن الأكديون ذوي بصمةٍ واضحةٍ في فن العمارة، فعندما استولى الأكديون على المدن السومرية على يد سرجون الأكدي وقاموا بتوحيدها، عملوا على البناء على ما هو موجود، فقاموا بإعادة بناء وتوسعة المعابد السومرية القائمة، كما قاموا ببناء القصور الملكية للحكم بكل وسائل الراحة الممكنة، ولم ينسوا في ذلك كله بناء القلاع القوية والضخمة لتحصين أنفسهم، وبالتالي فإن الأنقاض المتبقية من هذه الحضارة لا تعكس أي تغيرات في الأسلوب المعماري أو الابتكارات الإنشائية. أما فيما يتعلق بالنحت، فقد تم اكتشاف مجموعة من التماثيل مثل تمثال الرأس البرونزي الذي يُعتقد بأنه يعود إلى سرجون نفسه. ورغم بعض العطب الذي أصاب بعضًا من تلك التماثيل، إلا إنها تُعتبر أفضل منتجاتٍ للفن القديم في الشرق الأوسط. (6)
قناع محارب مصنوع من البرونز يُعتقد بأنه للملك سرجون الأكدي
الحضارة البابلية
انقسم العصر البابلي إلى حضارتين حكمتا العراق، أُطلِقَ على الحضارة الأولى فترة العهد البابلي القديم، التي كان من أبرز حكامها «حمورابي»، والثانية أُطلِقَ عليها الفترة البابلية الحديثة وكان من أبرز حكامها «نبوخذ نصر». وقد ورث البابليون عن السومريين والأكديين دولةً واسعةً على جانبٍ من النظام السياسي والاجتماعي، وعلى درجةٍ من الثقافة والحضارة، فلم يجدوا عناءً في بناء دولتهم.
اتسمت العمارة في هذه الحضارة، خاصَّةً العصر البابلي القديم، ببناء القصور الضخمة التي فاقت بضخامتها واتساعها أبنية المعابد، كي تليق بالملوك العظام الذين تفاخروا بألقابهم، والتي تُعبر عن نوعٍ من الروح الملكية باعتبارهم ممثلي الآلهة. وكانت أبنية المعابد قليلة، وكانت تشبه في تصميمها المعماري نفس تقاليد العمارة الدينية في أبنية معابد العصور السابقة. وفي العصر البابلي الحديث، يطالعنا فن الرسم الجداري المزجج في بوابة عشتار العظيمة الذي يكشف لنا عن القوة الرمزية المقدسة التي تصورها رسوم البوابة المتمثلة بالحيوانات الخرافية الموجودة فيها. (8)
لقد مارس النحَّات البابلي النحتَ البارز الذي تميز بتجسيم الأشكال، ولقد عُدَّ الفن البابلي على قمة الهرم من حيث الجودة التي وصل إليها الفن في المراحل السابقة. ولعل التطور الحضاري البابلي تميز بخصوصية دينية متطورة، وظهرت منحوتات بصفوف متبادلة على بوابة عشتار الشهيرة لمجموعة من الأسود والثيران والتنانين، وفي العصر البابلي الحديث بدأ التصوير الجداري الموجود في زخارف ورسوم القاعات البابلية الحديثة كقاعة العرش، وكرسوم الأسود على السور الخارجي لبوابة عشتار.
بوابة عشتار الشهيرة منحوت عليها مجموعة من الأسود والثيران والتنانين وذلك على شكل صفوف متبادلة
الحضارة الآشورية
تعد الحضارة الأشورية إحدى الحضارات التي قامت على ضفاف الرافدين، ويمكن وصفها بالوصف المعاصر لهذه الأيام بأنها كانت «قوة عظمى»، وذلك لحدودها الشاسعة المترامية، ولقدراتها العسكرية المُذهلة، ولمحاولتها التحكم في مصائر الشعوب، ولسيطرتها على العالم خلال الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد، ولقوة حكًامها، ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجيدة.
ورغم ذلك كله، لم تغفل تلك الحضارة ذات اليد الغليظة وصاحبة الحملات العسكرية المتلاحقة واحدة تلو الأخرى، الفن الذي كان موجودًا في وقته آنذاك بصورته المعمارية إلى جانب النحت، فقد اهتم الملوك الأشوريون كثيرًا بالإنجازات المعمارية، لا سيما أبنية المعابد، بغرض استخدام الكتابة لتسجيل أعمالهم على جدرانها، لذلك أشار هؤلاء الملوك إلى إعادة إعمار المعابد التي أطال عمرها الزمن أو التي تأثرت بفعل التغيرات المناخية.
ففي العصر الآشوري القديم، كان هناك اهتمامٌ خاص ببناء المعابد وإعادة إعمارها، وذلك لما لها من أهمية دينية، حيث كانت تُمثل علاقة روحية بين الملك والآلهة، وبالتالي انعكاس ذلك على عقيدة الشعب. واستمر هذا الحال في العصر الآشوري الوسيط مع القيام ببناء أبراج مرتفعة لهذه المعابد واستخدام عناصر بنائية أخرى غير الطوب اللبِن مثل حجر الكَلْس، وذلك لتقوية المعابد وحمايتها من الفيضانات. وفي العصر الآشوري الحديث، استمر بناء المعابد جنبًا إلى جنب مع بناء القصور، هذا إلى جانب المنحوتات الجدارية والتماثيل الحيوانية المركَّبة.
كانت العصور الآشورية من أكثر العصور القديمة التي عنت بفن النحت، حيث عُرِفَ عن بلاد الرافدين افتقارها للأحجار، خاصَّةً في قسمها الجنوبي، أما القسم الشمالي فقد امتاز بوجود أنواعٍ من الحجارة به، إذ تُعد بلاد آشور من المصادر المهمة التي امتازت بوجود مناطق صخرية تحتوي على أحجار الكَلْس والرخام والمرمر، لذلك عَمَد الآشوريون إلى استخدام هذه الأحجار في إكساء جدران قصورهم وإكساء سور مدينة (نينوى) التي عُرِفَت باسم المدينة العظيمة وكانت تُعتبر ثالث العواصم الآشورية، إلى جانب إقامة المنحوتات المتنوعة منها كالثيران المجنَّحة، وتماثيل الملوك وِمَسلَّاتهم.
نحت يُبرز براعة الآشوريية في استخدام الصخور وصنع لوحات فنية غاية في الإبداع
استطاع العراق القديم خلال تعاقب وتلاحق تلك الحضارات عليه، أن يُثبٍت وجودًا قديمًا، ويكتب تاريخًا، ويوثق فنًّا كان نواةً عملت البشرية على تطويرها وتنميتها إلى أن أصبح هذا الفن له مناهجه التي تُدرَّس، وممارسين بذلوا الجهود من أجل ترسيخ فنٍّ قيِّمٍ وراقٍ هدفه الأعلى السمو بالنفس البشرية والارتقاء بها إلى عالمٍ أوسع نحو هدفٍ فلسفيٍّ قوامه الحب، والخير، والجمال.