قصة قصيرة: مدينتنا المتورّمة
جريدة المدى
0
حميدة العربي
1
مدينتنا، ساحرةٌ لعوب تغيّر ثوبها واسمها، بداية كل عهدٍ، وتنقلب على نفسها خوفاً من الجلاد أو طمعاً بما بين يديه.. مدينتنا،
حبلى بالوساوس والخرافات، يعشعش فيها السحر والجهل وأصناف الذنوب، تكدّس الأزبال والأوجاع والأسلحة. تستنكر العشق وتسخر من الورد والأفراح .
نسيتْ، ومنذ زمنٍ سحيق، يومها وغدها وتعيش في هوس البعيد..
مدينتنا ـ المتورطة ضمناً بيتمِنا ـ أرغمتنا على احتراف الكذب، وسيلة لدرءِ شرورها!
يتوسطها ملجأ الايتام، جدران حائلة تطوق حياتنا عنوة، وحماية لا تخلو من مذلة…. تقودها وجوه صارمة، تعاني نقصاً شديداً في المودّة، تشرف عشوائياً على قولبة عقولنا وتحجيم ارادتنا ..
يضمنا نحن.. أشقياء حُشرنا في الميتم غصباً.. جزاءاً لفقدان أبٍ، أوعقاباً لبقائنا أحياء دون إرادتهم
2
دوّى انفجار، ثم آخر.. توالت بعده الضربات، صُعق الأطفال وهاموا صارخين. هرب الرعيان
عنا خائفين، فتحوا الأبواب للشر وغابوا. تركونا عالقين، بين أن نشقى بطيئاً، أو على الباب
نموت. نتخطى عتبة الملجأ قسراً ونغامر صاغرين، تحت نيرانٍ عدوة. ماجت الدنيا بما فيها
من جحودٍ ضدنا، نحن جمع الأبرياء، ليس فينا ناضجٌ أو بارعٌ أو مدمن صبر.
3
انطلقنا تائهين، كل عصفورٍ على جبهة صياد ينازع.. أنوار خابية تحت الجسر تلهث.. أنسام خائفة بين الشجيرات ترتعش.. أفراح ذابلة وسط الظلام تختبئ، غزلان شريدة، على الأُفق تهيم..تودع ربيعها الثاني عشر وسط هجمة افتراسٍ ذكورية طالتها – دون وازعٍ – من أبناء مدينتنا..
المدينة التي تضع غرائزها فوق تقواها، وملذّاتها قبل رحمتها، وطيشها دون تفكيرها.. ها هي مدينتنا تتجاهل مصائبها المتراكمة، وتهمل سمعتها المتهاوية وتنسى ماضيها وحاضرها، وتستجيب لصرخةٍ طائشة من جاهلٍ يعلن: تلك الشُقيراء من بنات الملجأ… لتتجيش المدينة – عن بكرة أبيها – ضد صغيرةٍ عزلاء منكسرة، ذنبها الصارخ إنها أنثى، وحيدة !.. كلابٌ مسعورة نابحة تطاردها، وذئابٌ مكشرة الأنياب والنظرات تطوقها، غبار مندلع يتفجر حولها ويخنقها. عواءٌ فاحش يجرّح مسامعها الباكرة، تؤججه صرخات تحريضٍ داعرة تلوث حيائها، وتعكر تضاريس دربها، تشتت ذهنها وتبعثر خطواتها. تقف مصعوقةً ثم تركض لاهثةً والجمع خلفها..يقترب منها، ويضيّق عليها طوقَ خناقه. تكبو وتنهض، تقاوم بيأسٍ الأذرع الممتدة نحوها شراهةً والوجوه المتوعدة انقضاضا، تصرخ استغاثةً وفزعاً، تزوغ نظراتها وتترنح الدقائق، حولها، فيتمايل الكون، بما فيه،مضطربا. تنطفئ الشمس مرات وتشتعل. يهجم
الجمع عليها! تمتد يدٌ عجفاء الى نهدها، المتنامي، وتعصره باستماتة. تتهاوى من طولها، ذاوية. يرتطم رأسها بشئ ما، لعله الأرض.. تغرق في ظلام الغيبوبة !
4
ها هو ( بابا ) يتحرك، فارساً، داخل حكاية من ألف ليلة وليلة. يقترب منها، يترجل والضوء يرقص حوله.. يُلقي عليها – برقةٍ – مناديل عطرٍ وفراشاتٍ وريش طواويس. تمدُّ يديها، اليه، ابتهالاً…
ينسل – رشيقاً – خارج الطيف ويمضي.
5
استفاقت مشوشة البال، مثقلة الذهن، وسط بيئةٍ تستغرب أجواءها وأناس لا يخصها أحد منهم. يتجاذبها فضولهم المعلن والمستور. يلعنون، بلا هوادة، يومها. يترصدون فزعها دون محاولة لإطفاءه. يعدونها لفصلٍ درامي، تلوح معالمه بتلك الإشارات المريبة والحركات المبهمة والاستعدادات المتعجلة. غسلوها دون اهتمام أو مراعاة، حشروها داخل رداء أبيض بائد وغلفوها بعباءةٍ سوداء هالكة. فصلوا طفولة وجهها عن العالم ببرقع ضبابي، حجب عنهم دهشةَ تساؤلاتها وقلةَ حيلتها واستنكارها الصامت. لكنها صحت، تماماً، ونما شجبها ورفضها حين أجلسوها على منبرٍ صلدٍ، تنتظرُ مصيراً يخيفها انتظاره وتتمنى حادثاً جللاً يحطم صورة سجانها، الذي دخل عليها مزهواً بنواياه. تبصره ولكن لا تراه. غشاوة الذهول والبرقع المسدل تمنع عنها استيضاح صورته.. تغمض عينيها وتفتحها فتلمح عمامة وتسمع ألفاظاً من قواميس الكبار – شيخ وعروس ونكاح – تفسر لها سر اهتمامهم ومعنى مساعيهم!. تسبل أجفانها حيرة وجزعاً.. يأتيها صوت ( بابا ) نقياً يذكّرها أن تصمت في وجه الصخب، أن تفكر برويةٍ وتقرر بتأن ٍوتنفذ بصبر. فإذا بها تتأوه وتدعي، محرجة، بحاجتها للاختلاء وتتحجج بأعذارٍ طفولية لتفلت من شرنقة الطقوس تلك.
تندفع متوجسة وتختبئ مُتلصصة، ثم تلملم حولها سوادَ عباءتها وتخترق العيون الثاقبات.
تطلق أجنحتها، خفيفةً، للريح وتسمو .
لم يخطر ببال الهائجين، لعرسها، أن التي مرت كسهم الريح، كانت هي العروس.
6
إنها الآن، بعيداً، تحت أنفاس الشناشيل، في السكون الأعمق من ليلٍ بهيم. تتحاشى الضوء والأصوات والدرب المباشر. تستحثها رعدة الخوف لتمتلك اليقين، ويلهمها صمت الدرابين شعوراً، إنها تنضج في كل خطوة.. يرافقها وجه ( بابا ) الذي لا تعرف حباً سواه، أول من جاء بها، على جنح فراشة وآخر من غادر دونها، برصاصة غدرٍ، وهو ينشد، لطلابه، تراتيل حبٍ وسلام. أوصاها وعلمها، أن تمشي طويلاً ولا تعبر نهراً.. أن تعدو حثيثاً ولا تثير غباراً !
7
كبُرَتْ حاجتها لصوت ناي أو هديل حمامة، يبدد وحشة اختبائها ويشغل عنها بال مدينتها وأبنائها الهاجعين على أوهامهم، دون تبصر… فاجأتها أفكار محرضة، ماذا يظنون بعد نزالهم، غير المتكافئ، ضد طفولتها؟ ستؤمن بما يفرضون وتذعن لما يهدفون؟
لا! الموت أهون، من وطأة استبدادهم…. تهتف محمومة:
– آهٍ ايتها المدينة المتورمة جهلاً، أنا وانتِ – مُذ خلقنا – على طرفي نقيض.
8
نظَرتْ الى مدينتنا وهي تصغر مبتعدة، خلفها، فأدركت إن لها وجهاً مغايراً أفرزه طول احتمالها.. ومصيراً لا رجوع عنه، يؤكده اندفاعها.. ودرباً سالكاً، ترسمه اللحظات المتبددة تحت إيقاع خطوتها، يبشرها ويوعدها بإنها ستآوي الى ركنٍ لا ينتظر سوى أنفاسها وعيون لا تهادن غير طمأنينتها.. هناك حيث ينبعث السلام شجي النغمات، رائق النسمات، من مكان بعيدٍ.. قصيٍّ.. عميق. هناك.. خلف أمواج النهر.
استدارت مأخوذة لحشرجاتٍ تقترب متدفقة وفحيح يتصاعد لاهثا…. فإذا بغابة مشاعلٍ تزحف نحوها قدما.. خُيّلَ اليها إنها سمعت صوت ( بابا ) يناديها.. فتحت أجنحتها بانطلاق.. فارتسمت على صفحة الماء المترقرق صورةَ طيرٍ هزيلٍ مرفرف. طار، من سياج الجسر، عالياً..عاليا.. ثم هوى بانقضاضٍ حادٍ
نحو عشّته البديلة…. عندها، أصغى الفجر، ذاهلاً، لارتطام المدّ بالخوف الطفولي.
تلك.. كانت غزلان… صديقتي!