يدرك المتتبع لثورة الإمام الحسين عليه السلام، أنها تجاوزت محليتها الجغرافية والإسلامية بكفاءة، وبرقت صورتها وأبعادها وقسماتها في الفكر الإنساني عامة والغربي خاصة، ويمكن رصد ذلك في الأنساق المختلفة سياسية، واجتماعية، وثقافية، وفكرية، وأخلاقية، وغير ذلك من توصيف صنعته آثارها في ذاكرة الفكر الغربي المعاصر، حيث استوعبت الرؤى الغربية النخبوية مبادئ هذه الثورة وبشّروا بها شرعة إنسانية.ومن بين تلك الأسماء المرموقة يطالعنا عالم الآثار الإنكليزي (وليم لوفتس)، الذي لم يخف إعجابه بشخصية الإمام الحسين وتضحيته في سبيل إنسانية الإنسان، قائلا: (لقد قدم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة). ومن هذا الرأي تتضح أهمية عرض الأنموذج الإنساني الكامل، الذي أثمر منظورا إصلاحيا حاد عن العنوانات الأخرى، التي تحشره في هذا الاتجاه أو ذاك، ويدرك منها أن الحياة رسالة لا يفهمها إلا الرساليون الذين يضحون من أجل الإنسان. وهكذا ألحت الرؤى الغربية المتتابعة على ذلك، وبشرّت بما يمكن أن ندعوه (مدرسة) تقارب ملكات الفكر الغربي، التي تسعى إلى صورة العدالة الاجتماعية المنعتقة من الفردانية التقليدية؛ لتنتشر في حيز أكبر كمرجعية اجتماعية أصيلة، وهو ما قرره الباحث الإنكليزي (جون أشر) في كتابه (رحلة إلى العراق) بقوله: (إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي).وهو الأمر الذي جعل البشرية تمقت ذهنية الهيمنة، التي طبعت طبقات من المجتمع، والدول العظمى التي تحرص على توسيع نفوذها بوسائل غير مشروعة؛ لاستغلال الخيرات الطبيعية والبشرية، وقد أكّد ذلك (فردريك جيمس) الذي رأى أن: (نداء الإمام الحسين وأي بطل شهيد آخر هو أن في هذا العالم مبادئ ثابتة في العدالة والرحمة والمودّة لا تغيير لها، ويؤكد لنا أنه كلّما ظهر شخص للدفاع عن هذه الصفات ودعا الناس إلى التمسّك بها، كتب لهذه القيم والمبادئ الثبات والديمومة).وهكذا ساير الفكر الغربي تلك الثورة، بعد أن عرفها فكرا نهل من مفجرها الكثير عملا وموقفا، ما أكسبها قوة روحية في الأوساط الأوروبية المثقفة والمتشوقة إلى قراءة أفكارها، بل لقد هذّبت الذوق المنهجي الذي انتهت إليها معظم رؤى جيلها المعاصر، بما أخرجها من العزلة الإنسانية التي ضربت على غيرها، وأكدت انفتاحها على جمهور واسع تعاطف مع أهل البيت عليهم السلام، وبهذا الصدد يقول المستشرق الألماني (يوليوس فلهاوزن) في كتابه (نهضة الدولة العربية): (بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكرياً، فإن لاستشهاده معنى كبيراً في مثاليته، وأثرا فعالاً في استدرار عطف كثير من المسلمين على آل البيت). لقد بين فلهاوزن أن هناك ثمة عداء تملك الجانب الأموي تجلّى بصورة سلبية نحو أهل البيت، وهو ما استهجنه الفكر الغربي المتعاطف مع مثالية الطرف العلوي؛ نظرا للمشاعر العدائية الأموية، التي لم تسمح بسماع صوت (الآخر)، فبّرز الواقع الثقافي الغربي الثورة الحسينية المتحررة من ثقافتها المحلية.وعلى وفق هذا النسق الفكري أوقفتنا الرؤى الغربية على هذه الحال، التي تستوعب إثارة مشاعر الولاء والتضامن والتوحد تجاه الآخر(المسلم) في ديانته، والإنساني في مقاصده، وبذلك تحولت العاطفة إلى وسيلة من وسائل التعبئة النفسية، وعلى هذا الصعيد كانت تضحية الإمام الحسين. وقد لمس ذلك الكاتب المؤرخ الإنكليزي السيد (برسي سايكس) في كتابه (تاريخ إيران) إذ يقول: (إن الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت، وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا).ومها يكن من أمر فإن المتتبع لواقع الفكر الغربي، يشعر بحراك مهم لكشف أثر النهضة الحسينية على ثقافته الوطنية؛ لذلك ألفنا هذا التفضيل الإيجابي الذي يذوّب القصور الذاتي عند جماعة المفكرين، الذين عاشوا الانبهار الحسيني، ومجدوه إزاء واقع الغرب، وهو أمر يوضح بما لا يقبل الشك المنجز الذي قدمته تلك الثورة قبل أربعة عشر قرنا سبق سبات العرب، فقد دافعت عن المعاني السامية بنقاء الشخصية الحسينية، بخلاف ما يثيره المغرضون ممن يحسبون على الإسلام، ودليلنا قول الكاتب الانجليزي المعروف (تشارلز ديكنز): (إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام).لقد أزال ديكنز المشكل الذي لم يستطع خصوم الثورة الحسينية هجره، وقد ركز على الفعل الاجتماعي المرافق للثورة، حيث اصطحاب النساء والأطفال، وهو بذلك يوضح المنهج الثوري والفكري المختلط بالمشاعر، ما يسمح بنفي الأفكار التي استشعرها الإمام الحسين بذهنيته المسبّقة، وهكذا لم يكن ديكنز بعيداً عن الأوهام الأموية التي أورثت رؤية متعصبة، أصّلت لأفكار موهومة في أجيالها الفكرية المتعاقبة، ولكنها لم تستطع أن تنتصر وتصمد صمود الشهيد المظلوم، كما يوضحه (توماس كارليل) الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي: (أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أن الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أن التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل. والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه).ولعله بذلك أدرك ما وقع لأحد المسلمين الذين سألوا الإمام علي بن الحسين عليهما السلام عن المنتصر، فكان الجواب: إذا أقيمت الصلاة فستعرف من المنتصر، في إشارة إلى بقاء الدين والقيم التي دافع عنها الحسين وحاربها خصومه، ما يمثل حلقة مفصلية من حلقات الصراع المزمن بين الحق والباطل، وهنا يقفز التأثير الحسيني الذي رصدته هذه العين الغربية، بل وأدهشها انتصار القيم التي رسخت في عدد محدود من المؤمنين، وبينت أن الغلبة لا تتم في ضوء المقاييس العددية مطلقا، بل إن منطق الغلبة سيكون لمن يكون أكثر استعدادا للدخول بقوة المبادئ إزاء الظلم، وهو ما راقبته عين المستشرق الغربي (بويد) بعين ثاقبة عندما ذكر أن: (من طبيعة الإنسان أنه يحب الجرأة والشجاعة والإقدام وعلو الروح والهمّة والشهامة. وهذا ما يدفع الحرية والعدالة الاستسلام أمام قوى الظلم والفساد. وهنا تكمن مروءة وعظمة الإمام الحسين. وأنه لمن دواعي سروري أن أكون ممـن يثني من كل أعماقه على هذه التضحية الكبرى، على الرغم من مرور 1300 سنة على وقوعها).وهكذا يمكن القول: لم يكن يعيب هؤلاء المفكرين الغربيين ألاَّ يشاركوا في معركة الكرامة لسلطة الزمن المعروفة، وقد عاشوها مشروعا إصلاحياً وأخلاقياً وهمّاً يومياً يراقب حركة الإنسانية المعذبّة والمشرئبة نحو الأنموذج الأسمى، الذي بعث مشروعه على الرغم من سنابك الخيل التي وطأت جسده الشريف بعد استشهاده، ومن غبار المعركة الذي طامن رهطه وأرهقهم جسدياً، ولكنه بقي أَلَقا عجز الأمويون عن إخماده، فارتفع ذكره شرقاً وغرباً لقرون مضت بعد ذلك، وعاود شذاه في مناخات مختلفة، استطالت على القرون والبقاع، ولم تنكمش كما أراد لها أعداؤها، وأنهوها بمشهد تراجيدي رهيب، أخذ بيد العالم الأنثروبولوجي الأمريكي (كارلتون كون) في قصة الشرق الأوسط ليقول: (إن مأساة مصرع الحسين بن علي تشكل أساساً لآلاف المسرحيات الفاجعة).د. صفاء برهان