من هو طرفة بن العبد ؟
لم يكن طرفة مجرّد شاب غرير قال الشعر، وهو يافع، وظل يقوله حتى عُلّق على خشب الصلب، ويد المنية تلتف حول عنقه.
كذلك لم يكن طرفة مجرد شاعر قتله الشعر في ريعان صباه وهو ابن العشرين ربيعًا.
إنما كان طرفة نموذجًا فريدًا لتجربة حياتية عميقة، غنية، صادقة التمثيل لما هو عليه إنسان الجاهلية الضائع بين متطلبات عيش كثيرة يقابلها شحّ في الموارد كبير، وبين حياة اجتماعية شديدة الحرية ظاهرًا، مكبلة عمليًّا بقيود العرف والعادات والتقاليد يصعب على نفس جياشة وقلب متوقد، الالتزام بها دون صدام، دون تمرد، دون كلمة احتجاج أو سخرية مُرَّة.
لقد اشتهر طرفة بمعلقته التي عدت ثاني معلقات الجاهلية أهمية … وعُرف طرفة بالصورة التي أعطاها عن نفسه في هذه المعلقة، صورة المظلوم يعتب على ظالميه من أهله ويتألم من جفوتهم، في حين لا يريد لهم إلا الخير، ويقدم لهم شعره وسيفه يذودان عنهم ويطعنان في أعدائهم؛ وصورة الشاب المقبل على الحياة يعب منها وكأنه مع العمر في سباق، أو كأنه استشعر قصر العمر فأحب أن يستغل كل دقيقة منه في استنفاد المتع…. لكن هذه الصورة تمثل جانبًا واحدًا من شخصية طرفة. لأن هذا الشاعر يجسد خير تجسيد عنفوان العربي وإباءه، كما يمثل تعلقه بقومه وحفاظه عليهم واستخفافه بكل كبير وإن ملكًا، لثقته بأن قومه يصنعون الملوك وقد يهزون عرشًا أو يدكون قصرًا.
حياة طرفة في سطور
– ولد طرفة بن العبد حوالي عام: 543م، لأب بكري وأم غير بكرية. اسمه الحقيقي عمرو. وطرفه لقب غلب عليه ببيت قاله وهو:
لا تعجلا بالبكاءِ اليوم مُطَرِّفًا
ولا أميريكُما بالدار إذ وَقَفا
توفي والده وهو صغير. حاول أعمامه وضع يدهم على إرث والده فهجاهم، فحذروه. فراح ينفق على لهوه وملذّاته وعلى رفقة السوء بلا حساب، فزجره أهله. وإذ لم يمتنع تحاشوه وابتعدوا عن التعامل معه.
حين أفلس وافتقر توجّه إلى أهله فخذلوه. ثم انطلق في الأرض يسعى بَحثًا عن غنىً سريع لم يحصل عليه. عاد إلى أهله متبرمًا بحياة التشرد، قانعًا بالعمل لأخيه معبد راعيًا لإبله.
أنشد طرفة معلقته وذكر فيها بالخير قيس بن خالد وعمرو بن مرثد، فمدحهما بكثرة المال والولد. فقاسمه عمرو بن مرثد ماله ومال أولاده. بعدها ردّ إبل أخيه وأنفق ما تبقى له.
افتقر من جديد وعاد يبحث عن غنىً سريع. فقصد عمرو بن هند ملك الحيرة وأخاه قابوسًا. نادمهما كما كان يفعل صهره عبد عمرو بن بشر، ومدحهما كما كان يفعل خاله المتلمس. وفي لحظة طيش وعجرفة هجاهما هو وخاله، فوصلهما الهجاء في قصة طويلة.
صمم الملك على الانتقام من الشاعرين طويلي اللسان، فأرسلهما إلى عامله في البحرين مع رسالة بيد كل منهما أقنعهما أنها أمر لعامله بمكافأتهما. شك المتلمس في فحوى الكتاب وعرضه على صبي يقرأ من صبيان الحيرة، فعرف أنه أمر للعامل بقتله، لا بإجازته، فألقى كتابه وفرّ.
لم يفعل طرفة فعل خاله، معتقدًا أن الملك لا يجرؤ على الغدر ببكري بين أهله. لكن الملك غدر، وأودى بطرفة غروره فسعى إلى حتفه بظلفه.
تلقى عامل البحرين، ربيعة بن الحارث العبد، كتاب الملك وأطلع طرفة على ما فيه معطيًا إياه فرصة للهرب. لكن طرفة رفض الهرب ولم يصدق العامل وأصر على قبض الجائزة.
حبسه عامل البحرين ورفض تنفيذ الحكم به، فأرسل عمرو بن هند التغلبي عبد بن هند بن جرذ عاملًا على البحرين وأمره بقتل العامل السابق وطرفة معًا.
انتدب العامل الجديد رجلًا من الحواثر يقال له أبو ريشة فقتله.
يذكر الأصفهاني أن العامل هو المكعبر، عامل البحرين وعمان، وأنه نفذ تعليمات الملك فقطع يدي طرفة ورجليه ودفنه حيًّا.
يذكر الجهشياري أن طرفة قتل مصلوبًا وأنه قال قبل موته:
من مبلغ أحياء بكر بن وائل
بأن ابن كعب راكب، غير راجل
على ناقة لم يركب الفحل ظهرها
مشذبة أطرافها بالمناجل
بعث الحواثر بدية الشاعر إلى أهله فقبلوها وذلك سُبّة بحق طرفة.
يذكر الزوزني أن العامل خيره في ميتته فقال: اسقني خمرًا فإذا ثملت فأفصد كاحلي. ففعل حتى مات.
تجربة طرفة الحياتية
1- علاقته بالرفاق:
من المعروف أن طرفة أنفق ماله الموروث إنفاق غر جاهل، مقبل على الحياة مستنفد متع اليوم، هاربًا من التفكير بغد لا يضمن فيه لنفسه شيئًا. وظل كذلك: ينفق عن سعة والأصدقاء يتحلقون حوله، إلى أن افتقر ونفد ماله. تلفت حواليه فوجد الأصدقاء يبتعدون والرفاق يتخلون، والأهل الذين كانوا يلومون وينصحون باتوا ناقمين متجنبين. لقد غدا وحيدًا، وحيدًا، فتألم وندت عنه صيحة أسىً: “أفردت إفراد البعير المعبد”. وكانت التجربة قاسية، تركت أثرًا عميقًا في نفسه، وتجلت في شعره.
2- علاقته بأخيه معبد:
إننا لا نعرف الكثير عن علاقة طرفة بوالده، لكن إذا صح افتراضنا أن العبد كان متزوجًا من امرأة أخرى بكرية هي أم معبد، غير وردة أم طرفة، وقبل زواجه من هذه، فإن تمييزًا في المعاملة، لا شك واقع بين طرفة وأخيه: فهذا بالنسبة إلى البكريين هو أصيل الجذرين، وبصفته الولد البكر يستقطب العناية ويكون له نوع من السلطة على الأخ الصغير.
والواقع أن طرفة، حين احتاج إلى مساعدة معبد أخيه لم يبادر هذا إلى تقديم مساعدة عفوية، بل عرض عليه عملًا عنده وهو عمل غير ذي شأن ولا بمستوى طموح الشاعر، بل إنه أقرب إلى عمل السوقة والخدم والخاملين، نقصد به رعي الإبل.
وحين أحس معبد من أخيه تقصيرًا في رعاية إبله، وانشغالًا عنها بالركض خلف القوافي الشاردة، قرعه وأنبه وهدده بأنه لن يتهاون معه إذا فقدت الإبل، وأن الشعر لن تكون له أدنى شفاعة عنده.
وحين فقدت الإبل، لم يتهاون معبد مع الشاعر، بل حقق فعلًا تهديده وتطلب إعادة إبله بأية وسيلة: لم يرق، ولم يسامح كما يفعل الأخ، ولم يقدم قط مساعدة بل بقي متفرجًا مع المتفرجين منتظرًا شأن الأغراب البعداء.
ووجد طرفة نفسه يدق الأبواب ويسعى إلى باب كل جواد كريم من عائلته طلبًا لعون، ولا عون. ليس إلا اللوم والتقريع والتهرب.
ويجد طرفة نفسه مرة أخرى فريسة للأسى والتخلي، ويأسف على أنه لم يكن من ذوي اليسار ولا من السادة الكثيري الخير، الكثيري الولد، ويتمنى لو أنه كان قيس بن خالد أو عمرو بن مرثد.
ويسمع السيدان الكريمان بالأمنية، فيعدانها مدحًا يتوجب عليهما إثابته فيثيبان.
هكذا ابتسم الحظ لطرفة إذ وجد من يقبض عملة الشعر ويقايضها بالإبل، فخامره الزهو بموهبته الشعرية إذ غدت رأسمالًا مؤكَّد الربح … رد الإبل لمعبد وبقي له منها ما يغذي مرحلة جديدة من اللهو والإنفاق والتبذير، إلى أن يفتقر .