مما لا شك فيه أن أبو الطيب المتنبي هو أحد أكثر شعراء العرب شهرة، وأحد أفذاذ الزمان وأحد مفاخر الأدب العربي، وسيد شعراء عصره وإمام من جاء بعده، له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة، فهو الشاعر الحكيم الذي أثر بشخصه وبشعره في الكثير من الشعراء والحكام، فهو لم يكن مجرد شاعر يملك من الفصاحة والبلاغة ما لا يملكه غيره من الشعراء فقط، بل كان له شخصيته المتميزة التي كان يعتز بها كثير ما في قصائده ومجالسه الشعرية.
نسب المتنبي ومولده
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور[1]، ولد في كِندة إحدى مناطق الكوفة بالعراق سنة 303هـ= 915م[2]، وكان أبويه فقيرين فبلغ بهمته وعبقريته أسمى مراتب الشهرة[3].
نشأة المتنبي
ولد المتنبي من أب فقير معدم يعمل سقا يبيع الماء في الكوفة، وعندما ظهرت نجابته في صغره وصار يحفظ كل ما يسمع من شعر أو نثر وقال الشعر قبل أن يحسن القراءة والكتابة رحل به والده إلى الشام، وهناك تلقى العلم والأدب عن علمائها ثم دخل البادية وأخذ لغة العرب عن فصحائها فأصبح بذلك نابغة زمانه وفاق شعراء عصره وجاد نظمه ونثره[4].
سبب تسميته بالمتنبي
سبب تسمية المتنبي بهذا الاسم تناوله الكثير من المؤرخين، فيقول ابن خلكان: أنه قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة بين الكوفة والشام، وقد تبعه خلق كثيرون، فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الدولة الإخشيدية حينذاك فأسره وحبسه، وبقي المتنبي محبوسًا إلى أن تاب فأُطلق سراحه، وهذا أصح ما قيل، وقيل: إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر[5]، وقيل غير ذلك.
علم المتنبي باللغة والأدب
بلغ أبو الطيب المتنبي من العلم باللغة العربية وغريبها وشواهدها ما لا نعلمه لشاعر آخر من شعرائنا، وقد بلغ في هذا أن عُدَّ في عصره من علماء اللغة[6]، وقد رُويت لنا حوادث وأقوال متفرقة تبين اشتهاره بمعرفة اللغة وتعرب عن رأي معاصريه فيه: فيُحكى أن أبا الطيب اجتمع هو وأبو علي الفارسي أحد الأئمة في علم العربية في عصره، فقال له أبو علي: كم لنا من الجموع على وزن فِعلى؟ فقال المتنبي لوقته: حِجْلَى وظِرْبَى[7]، قال أبو علي: فطالعتُ كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثًا فلم أجد[8]، كما قيل: أنه كان لا يُسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر[9].
المتنبي وسيف الدولة الحمداني
التحق أبو الطيب المتنبي ببلاط الأمير سيف الدولة الحمداني في سنة 337هـ[10]، ولم يكن سيف الدولة الحمداني أميرًا فحسب، بل كان شاعرًا وأديبًا، أحبّ الشعراء وأغدق عليهم الكثير من الهبات والعطايا، وظل أبو الطيب المتنبي إلى جوار سيف الدولة مادحًا إياه في كثير من قصائده ورأى فيه الصاحب والصديق، وشاركه في فتوحاته ورافقه في معاركه، ولقد كان سيف الدولة سخيًا كريمًا مع أبي الطيب المتنبي حتى أنه أهداه ثيابًا ورمحًا وفرسًا وأغدق عليه الكثير من الأموال، غير أن العلاقة بين سيف الدولة والمتنبي بدأت تضطرب بسبب الوشاة والحاقدين على المتنبي الذين نجحوا في أن يوغروا صدر سيف الدولة عليه، فخرج المتنبي من عند سيف الدولة ولم يفكر في العودة إليه مرة أخرى[11].
المتنبي وكافور الإخشيدي
فارق المتنبي سيف الدولة الحمداني وانتقل إلى مصر في سنة 346هـ[12]، فاستدعاه حاكمها كافور الإخشيدي وأعد له دارًا وحمل إليه آلافًا من الدراهم، وأغدق عليه الكثير من الخير، وكان كافور الإخشيدي كعادة الحكام والسلاطين في تلك الحقبة يهتم بالأدب ويشجع الشعراء ويقربهم له ويقدم لهم الهبات والعطايا، ومن ثم مضى المتنبي في مدح كافور الإخشيدي بقصائده مجسدًا فيها مكانة كافور وكفاءته ومقدرته وكرمه وعطائه[13]، ومعبرًا عن رغبته في أن يجعله كافور الإخشيدي أميرًا على إحدى ولايات ملكه مكررًا طلبه في جميع القصائد التي مدحه بها[14].
لقد كانت الولاية ذلك الحلم الكبير الذي كان يراود المتنبي بين الحين والآخر مذكرًا كافورًا بها في كل قصائده، ولكن كافور كان يخشى ذلك ويرفضه، مما جعل المتنبي يشعر أنه يعيش عيشة المغضوب عليه فقرر الفرار في سنة 350 هجريًا، وخرج من مصر مخلفًا وراءه النقمة على كافور الإخشيدي هاجيًا إياه بأقبح ما يكون الهجاء، ثم اتجه المتنبي بعد ذلك إلى العراق حتى وصل إلى الكوفة ومكث بها بضعة شهور، ثم اتجه إلى بغداد واستقر به المطاف هناك[15].
المتنبي في بلاد فارس
بعد فترة من بقاء المتنبي في العراق ورد إليه كتابان أحدهما من سيف الدولة يدعوه إلى العودة لحلب، والثاني من الأديب الكبير ابن العميد الفارسي وزير عضد الدولة ابن بويه يطلب منه زيارته بأرجان في بلاد فارس، إلا أن المتنبي أجاب على دعوة سيف الدولة بالرفض، واستعد للرحيل من الكوفة إلى ابن العميد في أرجان، ولما وصل المتنبي إلى أرجان أفرد له ابن العميد له دارًا نزلها، ولبث المتنبي عند ابن العميد مدة شهرين مدحه خلالها بعدة قصائد، وبينما يتأهب للعودة إلى الكوفة إذ جاه كتاب من عضد الدولة يطلبه، فسار المتنبي إلى عضد الدولة في شيراز ومدحه بمجموعة من القصائد وصفه فيها بأبي الشجاع وأثنى عليه وعلى عطاياه وبما منحه من مكانة رفيعة، ثم انصرف من عنده عائدًا إلى الكوفة[16].
مقتل المتنبي
تعددت الروايات حول مقتل المتنبي، إلا أن الرواية التي أجمع المؤرخون عليها تقول: أن المتنبي كان قد هجا رجلًا اسمه ضبة، وكان لضبة هذا خال يُسمى فاتك الأسدي، وبعد أن انصرف أبو الطيب المتنبي من عضد الدولة عائدًا إلى الكوفة صار فاتك الأسدي يتتبع أثره ليقتله بسبب هجائه لابن اخته ضبة، ولما وصل المتنبي إلى منطقة قريبة من بغداد تُسمى دير العاقول هاجمه فاتك الأسدي وأصحابه، وعندما شعر المتنبي بالهزيمة همَّ بالفرار فقال له أحد غلمانه يا سيدي: أتفر وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فرجع المتنبي لمحاربتهم مكرهًا خشية العار، وقاتلهم حتى قتل هو وولده ومن معه، وسُرق ما كان معهم من متاع ومال وكتب، فكان هذا البيت سبب قتله وذلك سنة 354هـ= 965م[17].
مختارات من شعر المتنبي
قصائد المتنبي كلها تدل على حكمته وفلسفته وفصاحته، وسوف نختارهنا بعض الأبيات مما يعذب لفظه ويسهل حفظه وجميعها يجمع بين الحكمة والبلاغة، مثال على ذلك قوله:
أنـا الــذي نــظــر الأعـــمـى إلـى أدبـــي ... وأسـمــعـــت كلمـــاتي مــن به صــمـــم
فالخــــيل والـــليل والبـــيداء تـــــعرفـني ... والسـتيف والرمــح والقرطـاس والقـلـم
ذو الــعــقــــل يـشـقـى فـي النّـعيـم بـعقله … وأخـــــو الجـــهـالـة في الشّــقـاوة ينعـم
مــــــا كـــل مــا يتـــمنى الــمرء يـدركه ... تـجـري الـرياح بـمـا لا تــشتهي السفن
وإذا أتــــتـــك مــــذمــــتــي من نـــاقص ... فــــهـــي الـــشــهــادة لــي بأني كـامـــل
بــــذا قضــت الأيــام مــا بــيـن أهـــلـها ... مــصـائب قــوم عـــــند قـــوم فــوائـــــد
علـى قــــدر أهـــل الــعـزم تأتي العزائم ... وتــأتـــي عـــلــى قــدر الــكـرامِ المكارم
وتــعظـم في عينِ الصـغير صـغـارهـا ... وتــصـغـر فـي عين العـظـيم العـظــائــم
[1] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1/ 120.
[2] ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ= 1995م، 71/ 82، والزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002م، 1/ 115.
[3] أحمد سعيد البغدادي: أمثال المتنبي وحياته بين الألم والأمل، مطبعة حجازي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1353هـ= 1934م، ص5.
[4] أحمد سعيد البغدادي: أمثال المتنبي وحياته بين الألم والأمل، ص6.
[5] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 122.
[6] عبد الوهاب عزام، ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، مصر، 2014م، ص247.
[7] حجلى جمع حجل، وهو طائر معروف، وظربى جمع ظربان وهي دويبة منتنة الريح.
[8] الذهبي: تاريخ الإسلام، بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 8/ 69.
[9] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 120.
[10] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 71/ 82.
[11] جمال حامد: سلسلة شعراء قتلتهم الكلمات (أبو الطيب المتنبي)، دار غراب، مدينة نصر، القاهرة، 2008، ص43- 55.
[12] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 71/ 82.
[13] جمال حامد: سلسلة شعراء قتلتهم الكلمات (أبو الطيب المتنبي)، ص56- 58.
[14] أحمد سعيد البغدادي: أمثال المتنبي وحياته بين الألم والأمل، ص36.
[15] جمال حامد: سلسلة شعراء قتلتهم الكلمات (أبو الطيب المتنبي)، ص65- 83.
[16] جمال حامد: سلسلة شعراء قتلتهم الكلمات (أبو الطيب المتنبي)، ص85- 98.
[17] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 14/ 165- 167، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 123.
قصة الإسلام