خطبة الإمام السجاد (عليه السلام)
أمام يزيد وأهل الشام
*
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَاقِبِ وَغَيْرُهُ ، رُوِيَ أَنَّ يَزِيدَ لَعَنَهُ اللَّهُ أَمَرَ بِمِنْبَرٍ وَخَطِيبٍ لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِمَسَاوِي الْحُسَيْنِ وَعَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا) وَمَا فَعَلَا ، فَصَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا) وَأَطْنَبَ فِي تَقْرِيظِ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ لَعَنَهُمَا اللَّهُ ، فَذَكَرَهُمَا بِكُلِّ جَمِيلٍ .
قَالَ فَصَاحَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ : وَيْلَكَ أَيُّهَا الْخَاطِبُ اشْتَرَيْتَ مَرْضَاةَ الْمَخْلُوقِ بِسَخَطِ الْخَالِقِ فَتَبَّوأْ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ .
ثُمَّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَا يَزِيدُ ائْذَنْ لِي حَتَّى أَصْعَدَ هَذِهِ الْأَعْوَادَ ، فَأَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ لِلَّهِ فِيهِنَّ رِضاً وَلِهَؤُلَاءِ الْجُلَسَاءِ فِيهِنَّ أَجْرٌ وَثَوَابٌ ؟
قَالَ : فَأَبَى يَزِيدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
فَقَالَ النَّاسُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ائْذَنْ لَهُ فَلْيَصْعَدِ الْمِنْبَرَ ، فَلَعَلَّنَا نَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً .
فَقَالَ : إِنَّهُ إِنْ صَعِدَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا بِفَضِيحَتِي وَبِفَضِيحَةِ آلِ أَبِي سُفْيَانَ !
فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا قَدْرُ مَا يُحْسِنُ هَذَا ؟!
فَقَالَ : إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ قَدْ زُقُّوا الْعِلْمَ زَقّاً .
قَالَ : فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ خَطَبَ خُطْبَةً أَبْكَى مِنْهَا الْعُيُونَ وَأَوْجَلَ مِنْهَا الْقُلُوبَ .
ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، أُعْطِينَا سِتّاً وَفُضِّلْنَا بِسَبْعٍ ، أُعْطِينَا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالسَّمَاحَةَ وَالْفَصَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَفُضِّلْنَا بِأَنَّ مِنَّا النَّبِيَّ الْمُخْتَارَ مُحَمَّداً ، وَمِنَّا الصِّدِّيقُ ، وَمِنَّا الطَّيَّارُ ، وَمِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ ، وَمِنَّا سِبْطَا هَذِهِ الْأُمَّةِ ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي أَنْبَأْتُهُ بِحَسَبِي وَنَسَبِي .
أَيُّهَا النَّاسُ ، أَنَا ابْنُ مَكَّةَ وَمِنَى ، أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَالصَّفَا ، أَنَا ابْنُ مَنْ حَمَلَ الرُّكْنَ بِأَطْرَافِ الرِّدَا ، أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنِ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى ، أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنِ انْتَعَلَ وَاحْتَفَى ، أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنْ طَافَ وَسَعَى ، أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنْ حَجَّ وَلَبَّى ، أَنَا ابْنُ مَنْ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ فِي الْهَوَاءِ ، أَنَا ابْنُ مَنْ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، أَنَا ابْنُ مَنْ بَلَغَ بِهِ جَبْرَئِيلُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، أَنَا ابْنُ مَنْ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، أَنَا ابْنُ مَنْ صَلَّى بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ ، أَنَا ابْنُ مَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ الْجَلِيلُ مَا أَوْحَى ، أَنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى ، أَنَا ابْنُ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى ، أَنَا ابْنُ مَنْ ضَرَبَ خَرَاطِيمَ الْخَلْقِ حَتَّى قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، أَنَا ابْنُ مَنْ ضَرَبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ بِسَيْفَيْنِ ، وَطَعَنَ بِرُمْحَيْنِ ، وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ ، وَبَايَعَ الْبَيْعَتَيْنِ ، وَقَاتَلَ بِبَدْرٍ وَحُنَيْنٍ ، وَلَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، أَنَا ابْنُ صَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَوَارِثِ النَّبِيِّينَ ، وَقَامِعِ الْمُلْحِدِينَ ، وَيَعْسُوبِ الْمُسْلِمِينَ ، وَنُورِ الْمُجَاهِدِينَ ، وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ ، وَتَاجِ الْبَكَّائِينَ ، وَأَصْبَرِ الصَّابِرِينَ ، وَأَفْضَلِ الْقَائِمِينَ مِنْ آلِ يَاسِينَ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَنَا ابْنُ الْمُؤَيَّدِ بِجَبْرَئِيلَ الْمَنْصُورِ بِمِيكَائِيلَ ، أَنَا ابْنُ الْمُحَامِي عَنْ حَرَمِ الْمُسْلِمِينَ وَقَاتِلِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ ، وَالْمُجَاهِدِ أَعْدَاءَهُ النَّاصِبِينَ ، وَأَفْخَرِ مَنْ مَشَى مِنْ قُرَيْشٍ أَجْمَعِينَ ، وَأَوَّلِ مَنْ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَوَّلِ السَّابِقِينَ ، وَقَاصِمِ الْمُعْتَدِينَ ، وَمُبِيدِ الْمُشْرِكِينَ ، وَسَهْمٍ مِنْ مَرَامِي اللَّهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ، وَلِسَانِ حِكْمَةِ الْعَابِدِينَ ، وَنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ ، وَوَلِيِّ أَمْرِ اللَّهِ ، وَبُسْتَانِ حِكْمَةِ اللَّهِ ، وَعَيْبَةِ عِلْمِهِ ، سَمِحٌ سَخِيٌّ بَهِيٌّ بُهْلُولٌ زَكِيٌّ أَبْطَحِيٌّ ، رَضِيٌّ مِقْدَامٌ هُمَامٌ صَابِرٌ صَوَّامٌ ، مُهَذَّبٌ قَوَّامٌ ، قَاطِعُ الْأَصْلَابِ ، وَمُفَرِّقُ الْأَحْزَابِ ، أَرْبَطُهُمْ عِنَاناً ، وَأَثْبَتُهُمْ جَنَاناً ، وَأَمْضَاهُمْ عَزِيمَةً ، وَأَشَدُّهُمْ شَكِيمَةً ، أَسَدٌ بَاسِلٌ يَطْحَنُهُمْ فِي الْحُرُوبِ إِذَا ازْدَلَفَتِ الْأَسِنَّةُ وَقَرُبَتِ الْأَعِنَّةُ طَحْنَ الرَّحَى ، وَيَذْرُوهُمْ فِيهَا ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمِ ، لَيْثُ الْحِجَازِ ، وَكَبْشُ الْعِرَاقِ ، مَكِّيٌّ مَدَنِيٌّ ، خَيْفِيٌّ عَقَبِيٌّ ، بَدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ ، شَجَرِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ ، مِنَ الْعَرَبِ سَيِّدُهَا ، وَمِنَ الْوَغَى لَيْثُهَا ، وَارِثُ الْمَشْعَرَيْنِ ، وَأَبُو السِّبْطَيْنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ، ذَاكَ جَدِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
ثُمَّ قَالَ : أَنَا ابْنُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ ، أَنَا ابْنُ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ .
فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ أَنَا أَنَا حَتَّى ضَجَّ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ ، وَخَشِيَ يَزِيدُ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةٌ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَقَطَعَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ ، فَلَمَّا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ .
قَالَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : لَا شَيْءَ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ .
فَلَمَّا قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : شَهِدَ بِهَا شَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي .
فَلَمَّا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) .
الْتَفَتَ مِنْ فَوْقِ الْمِنْبَرِ إِلَى يَزِيدَ ، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : مُحَمَّدٌ هَذَا جَدِّي أَمْ جَدُّكَ يَا يَزِيدُ ؟ فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ جَدُّكَ فَقَدْ كَذَبْتَ وَكَفَرْتَ ، وَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ جَدِّي فَلِمَ قَتَلْتَ عِتْرَتَهُ ؟!
قَالَ : وَفَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَتَقَدَّمَ يَزِيدُ فَصَلَّى صَلَاةَ الظُّهْرِ .
*
المصدر : (البحار : ج45 ، ص137 . )