السلام عليكم
في مثل هذه الأيام يوشك موسم "جني التمر" في العراق على الإنتهاء، إن لم يكن قد إنتهى فعلاً، فأولى زخات المطر التي تسقط على المناطق الجنوبية بين شهري تشرين الأول وتشرين الثاني عادة، تغسل بقايا التمور الساقطة على الارض والتي تكون قد تحولت إلى ما يشبه الدبس بتأثير الوقت وحرارة الشمس. ومع زوال آخر آثار الموسم المملوء بالإثارة والبهجة والعطاء، خاصة بالنسبة لسكان المحافظات الجنوبية من العراق، تكون النخلة الباسقة قد أوفت بدينها لمن رعاها وأعطت ما في وسعها، ويكون الفلاح الذي كدّ وشقى جنى ثمار تعبه وإستمتع بمردود جهده.
ورغم إنحسار دور النخيل في حياة العراقيين الجنوبيين بسبب الإنخفاض الكبير في أعدادها، وقلة المردود الإقتصادي الذي يوفره ثمرها، فلا زال موسم جني التمر محتفظاً بالكثير من متعته وحيويته، ولا زال يثير نفس المشاعر والأحاسيس اللذيذة التي كان يثيرها أيام زمان، أيام كان الفلاحون ينتظرون قدومه بفارغ الصبر ليعلَن عن موعد مكافأتهم على جهودهم ويسبغ عليهم من الخير ما يبعد عنهم شبح الحاجة والعوز ويغمرهم بشعور الإطمئنان طيلة عام كامل، حتى موعد الجني المقبل.
يبدأ موسم جني التمر عادة منتصف شهر تموز، ويسميه العراقيون "موسم الثمرة"، وكانت له مراسيم وطقوس عند أصحاب بساتين النخيل خاصة في مناطق البصرة وأبي الخصيب وشط العرب، التي تعتبر موطن النخيل في العراق وكانت تضم أكثر بساتينه كثافة. فما أن تنضج أولى عذوق التمر، والتي يطلق عليها الفلاح إسم "البشير" لانها تبشر ببداية موسم الجني، حتى يبادر صاحب البستان إلى الإعلان عن الحدث للآخرين ويتسلق أكبر الفلاحين سناً النخلة الباسقة ليقطف أولى الثمرات الناضجة ويهديها إلى أحب الناس إلى قلبه. ويسمى التمر في مراحل النضوج الأولى "بالرطب"، ويتحول لونه إلى الأصفر الذهبي ثم الأصفر الغامق بعد أن كان أخضر اللون.
ومع ظهور الرطب تبدأ قوافل النساء بالمجيء من المناطق الأخرى إلى أماكن بساتين النخيل لجنيه. ويطلق عليهن البصريون إسم "الطواشات"، وهن اللواتي يمزجن مشاعر الفرح بجني الحاصل، لدى زوجات الفلاحين، بمشاعر الغيرة والقلق لخوفهن على أزواجهن من جمالهن وإحتمال تعلقهم ببعضهن، لكن مشاعر السعادة هي التي تنتصر في النهاية. وفي هذه الفترة يتهيأ الفلاحون لطبخ نوع من التمور يسمونه "الجبجاب"، وهذا النوع يجنى قبيل أن يتحول إلى رطب ويطبخ في قدور كبيرة ثم ينشر على حصران ليتعرض إلى أشعة الشمس إلى أن يجف ويتحول إلى ما يشبه الشوكولاته. وتتهيأ العوائل لإستخراج عصير التمر "الدبس". وكانت العملية تتم بطريقة بدائية، حيث تعلق سلال التمور وتوضع تحتها أواني لجمع ما يسيل منها من عصير، أما التمر المتبقي فيكدس ويكبس في أوعية مصنوعة من سعف النخيل تسمى "حلانات"، أو في أوانٍ معدنية، ويضاف إليه الدبس والهيل وأحيانا الجوز والسمسم وحبة الحلوة، ويطلق عليه إسم "المعسل".
وطيلة موسم جني التمر الذي يستغرق حوالي أربعة أشهر، تتحول المنطقة إلى خلية نحل دؤوبة، حيث تبدأ سلال الرطب بإكتساح أسواق المدن الجنوبية خصوصاً البصرة، وتفتح مئات المكابس، والتي يسميها المحليون بالـ"جراديغ"، أبوابها لتمتلئ بالعمال الذين يفدون أيضاً من محافظات الناصرية والعمارة والمناطق الأخرى للعمل في جني التمر وتنظيفه وكبسه.
كان في العراق قبل الحروب التي جره إليها النظام السابق، حسب مصادر وإحصائيات عديدة، أكثر من 30 مليون نخلة، منها أكثر من تسعة ملايين في البصرة وحدها، أما الآن فعدد نخيل العراق لا يتجاوز الثلاثة عشر مليون نخلة وفي البصرة أقل من ثلاثة ملايين. وكانت الحرب مع إيران أكثر العوامل تأثيراً على عدد النخيل، إذ قطع النظام السابق أعداداً كبيرة منها خصوصاً على الشريط المتاخم لإيران وحوّل بساتين كثيرة إلى معسكرات، كما أن تجفيف الأهوار وزيادة نسبة الملوحة في التربة بسبب الإهمال وظروف الحرب كانت عوامل إضافية.
وتزيد أنواع التمر العراقي على 600 نوع، أشهرها إضافة إلى أنواع الرطب، الديري والزهدي والخستاوي والحلاوي والبرحي والساير والخضراوي. وكان العراق يصدر في السبعينات أكثر من 500 ألف طن من التمور سنوياً إلى أكثر من ثمانين دولة مغطياً حوالي 80% من التمر المستورد إلى هذه البلدان.
وتعمل السلطات المختصة والمؤسسات العلمية حالياً على وضع خطط ودراسات للتعويض عن الخسارة الجسيمة التي لحقت بهذه الثروة الإقتصادية المهمة، ويقدر الباحثون أن العراق بحاجة إلى عشر سنوات ليعوض عن خسارته في هذا المجال. ومن ضمن الوسائل المقترحة، إتباع نظام الزراعة النسيجية التي تختلف جذرياً عن طريقة التكثير بالفسائل وتشبه عملية الإستنساخ، وأيضاً توزيع الفسائل مجاناً على الفلاحين بشرط أن يوزعوا بدورهم الفسائل التي تنتجها نخيلهم للآخرين مجاناً.
ان الإهتمام بالنخيل ومحصول تمورها يوفر للعراق دخلاً مادياً مهماً، يساهم إلى جانب الثروات الأخرى، ومنها النفط، في إنعاش إقتصاده والإرتقاء بمستوى حياة شعبه، إضافة إلى إعادة الإعتبار للنخلة الباسقة التي كانت هي والعراق رديفان منذ قديم الزمن، والتي تغنى بها الشعراء والأدباء ووصف شاعر البصرة الكبير بدر شاكر السياب عيون حبيبته بغابتها عندما قال : "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر".