كان أبو نصر الفارابي رحمه الله بارعًا في الكلام والمنطق والموسيقى، وفيلسوفًا كاملًا وإمامًا فاضلًا، أتقن العلوم الحكمية وبرع في العلوم الرياضية، كما كان زكي النفس قوي الذكاء يسير سيرة الفلاسفة المتقدمين، وكانت له قوة في صناعة الطب، وقد عظم شأنه وظهر فضله واشتهرت تصانيفه وكثرت تلاميذه حتى صار أوحد زمانه وعلامة وقته.
نسب أبو نصر الفارابي ومولده
هو شيخ الفلسفة وأحد الأذكياء[1]، أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي التركي الحكيم المشهور، وهو أكبر فلاسفة المسلمين[2]، وطبيب وموسيقي ورياضي، عارف باللغات التركية والفارسية واليونانية والسريانية[3]، ويعرف بالمعلم الثاني، وهو تركي الأصل، ولد في مدينة فاراب سنة 260هـ= 874م[4]، وهي كانت من بلاد الترك في أرض خراسان[5]، وتسمى الآن أطرار وتقع ضمن جمهورية كازاخستان[6].
رحلة أبو نصر الفارابي في طلب العلم
خرج الفارابي من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي فتعلمه وأتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة[7]، وأدرك ببغداد الفيلسوف المنطقي متى بن يونس[8] فأخذ عنه، ثم سار إلى حران فلزم يوحنا بن جيلان[9] فأخذ عنه، ثم سار إلى دمشق، وإلى مصر، ثم عاد إلى دمشق[10]، وكان يحسن اليونانية وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره[11]، ويقال: أن نسخة وجدت لكتاب النفس لأرسطو وعليها بخط أبي نصر الفارابي قرأت هذا الكتاب مائتي مرة وكان يقول قرأت السماع الطبيعي لأرسطو أربعين مرة وأنا محتاج إلى معاودته[12]، وقد اشتهر الفارابي بشرحه لكتب وآراء أرسطو وتتلمذ على يده العالم الشهير ابن سينا[13].
وللفارابي العديد من الكتب التي شغلت معاصريه ومن بعدهم، ومن أبرزها كتاب الفصوص وقد ترجم إلى الألمانية، وكتاب إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، وكتاب الآداب الملوكية، وكتاب إبطال أحكام النجوم، وكتاب أغراض ما بعد الطبيعة، وكتاب السياسة المدنية، وكتاب جوامع السياسة، ويقال: أن الآلة المعروفة بالقانون من وضعه، ولعله أخذها عن الفرس فوسعها وزادها إتقانا فنسبها الناس إليه[14].
مكانة أبو نصر الفارابي العلمية
كان الفارابي رحمه الله بارعًا في الكلام والمنطق والموسيقى[15]، وفيلسوفًا كاملًا وإمامًا فاضلًا، أتقن العلوم الحكمية وبرع في العلوم الرياضية، كما كان زكي النفس قوي الذكاء يسير سيرة الفلاسفة المتقدمين، وكانت له قوة في صناعة الطب وعلم بالأمور الكلية منها ولكنه لم يباشر أعمالها، وقد عظم شأنه وظهر فضله واشتهرت تصانيفه وكثرت تلاميذه وصار أوحد زمانه وعلامة وقته واجتمع به الأمير سيف الدولة أبو الحسن الحمداني وأكرمه إكرامًا كثيرًا وعظمت منزلته عنده[16].
يقول تلميذه ابن سينا: قرأت كتاب الفارابي ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه والتبس عليّ غرض واضعه حتى قرأته أربعين مرة وصار محفوظًا وأيست من فهمه وقلت لا سبيل إلى فهمه، وبينما أنا في يوم بعد صلاة العصر، وإذا برجل ينادي على مجلد فعرضه علي، وقال اشتره فاشتريته، فإذا هو من تصانيف أبي نصر في أغراض ذلك الكتاب، فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، وفهمته وفرحت فرحًا شديدًا[17].
ذكاء أبو نصر الفارابي وبراعته في العلم
بعد أن عاد الفارابي إلى دمشق وأقام بها وكان سلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان، وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فدخل عليه الفارابي وهو بزي الأتراك، فقال له سيف الدولة اجلس: فلم يجلس الفارابي وتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، فقال سيف الدولة بلسان غريب لمماليكه: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرقوا به، فقال له الفارابي بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه وقال له: أتحسن هذا اللسان فقال: نعم أحسن أكثر من سبعين لسانًا.
ثم أخذ الفارابي بعد ذلك يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل فقال: لا، فقال: فهل تشرب فقال: لا، فقال: فهل تسمع فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار المهرة في صناعة الموسيقى، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه الفارابي، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئًا فقال: نعم، ثم أخرج من سوطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيدانًا وركبها، ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبًا آخر وضرب بها فبكي كل من في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نيامًا وخرج[18].
وفاة أبو نصر الفارابي
كان الفارابي يحب الوحدة يميل إلى الانفراد بنفسه، وكان يتزهد زهد الفلاسفة[19]، فلا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم من بيت المال أربعة دراهم، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في سنة 339هـ= 950م بدمشق، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه، وقد ناهز حينئذ ثمانين سنة، ودفن بظاهر دمشق خارج باب الصغير[20].
[1] الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ= 1985م، 15/ 416.
[2] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م، 5/ 153.
[3] عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنى - بيروت، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 11/ 194.
[4] الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002م، 7/ 20.
[5] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص603.
[6] Rico Isaacs; Film and Identity in Kazakhstan: Soviet and Post-Soviet Culture in Central Asia, p. 100.
[7] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/ 153.
[8] متى بن يونس القنائي، مترجم وفيلسوف نصراني عاش في بغداد في زمن الخليفة الراضي بالله. ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/ 153- 156.
[9] يوحنا بن جيلان أو يوحنا بن حيلان: وهو حكيم نصراني توفي في زمن الخليفة المقتدر بالله. ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/ 154.
[10] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 7/ 731.
[11] الزركلي: الأعلام، 7/ 20.
[12] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، 1420هـ=2000م، 1/ 103.
[13] الموسوعة العربية العالمية، ص1.
[14] الزركلي: الأعلام، 7/ 20.
[15] الذهبي: تاريخ الإسلام، 7/ 731.
[16] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص603
[17] الصفدي: الوافي بالوفيات، 1/ 103.
[18] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/ 155، 156.
[19] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 15/ 417، 418.
[20] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/ 156، والزركلي: الأعلام، 7/ 20.
قصة الإسلام