إنّ القرآن حرَّك عواطف الأغنياء والأثـرياء ونبّه الوجدان والأحاسيس، بكلّ الطرق، واستدر عطفهم واستمال قلوبهم على الفقراء والمساكين، تارة بالتّرغيب {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وما تُقدِّمُوا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه}، وتارة بالتّرهيب {وويلٌ للمشركين الّذين لا يؤتون الزّكاة}.
بدأت هذه الحملة التوعوية، وهذا الحضّ على إطعام المسكين في يوم ذي مسبغة، في أولى الأيّام الّتي التقى فيها أمين السّماء جبريل عليه السّلام مع أمين الأرض محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم، نلمس ذلك واضحًا في ذِكر كثير من الآيات المكية للزّكاة حتّى قيل إنّها -الزّكاة- فُرِضَت في مكة إجمالاً، وبُيّنَت في المدينة تفصيلا.
وبعد أن استتب الأمر للمسلمين بعد الهجرة وتهيّأت النُّفوس للقوانين والنّظم، وضع القرآن للفقراء حقوقًا كمورد مالي دائم، وضعه في الكفّارات وفي الأجزية على الأخطاء، ووضعه في الزّكاة فرضًا وحقًّا، ووضع لهم حقًّا في الغنيمة، وحقًّا في التركة إذا قُسّمَت بحضرتهم، وجعل لهم حقًّا في كفّارة اليمين، وحقًّا في جزاء الصّيد للمحرم وفي الهدي للمتمتّع بالعمرة للحجّ، وفي كفارة الظّهار، وفدية الإفطار في رمضان، وفدية الأخطاء في الحجّ، ووُضع لهم حقًّا في الذهب والفضة، وفي البضائع التجارية، وفي المواشي والزروع، بنسب عادلة ومُحْكَمة، لا ترهق الغني ولا تجحف بحقّ الفقير والمسكين، هذه النِّسب، وهذا الجزء من المال، يقلّ بكثير عن مجموع ما يصرفه أغنياؤنا وأثرياؤنا في ترفهم وبذخهم في البلاد الأجنبية، وعلى موائد مشبوهة كلّ عام، من غير فائدة تعود عليهم وعلى أمّتهم ودينهم.
لقد كان للزّكاة، في صدر الإسلام، نظام خاص، وكان للحكّام بها عناية خاصة في جمعها وصرفها، كانوا بها يجهّزون الجيوش، وبها يدفعون المغارم، ويؤلّفون قلوب الضعفاء، ويعينون المحتاجين، ويقيمون المصالح.
فهل لأغنياء الجزائر اليوم أن يُخرجوا هذه الزّكاة الواجبة عليهم ويصرفوها في مصالح الفقراء، فيطفئوا بها حقدهم وغضبهم ويصير عونًا لهم، فينشئون بها المصانع والمستشفيات لكي يطهرّوا الأمّة من جراثيم المرض، ويخفّفوا من عناء هذا الجيش العاطل الّذي تبدو كتائبه في المتسوّلين الّذين يجوبون الشّوارع والطرقات، ولينشئوا لهؤلاء المتشرّدين، الّذين لا مأوى لهم، مراكز تأويهم، فإنّهم يهدّدون الأمن ويقلقون راحة الجميع. هذا نداء للأغنياء أن يخرجوا زكاة أموالهم ليصلحوا من شأن هؤلاء، ويوجدوا لأمّتهم رجالاً عاملين في الحياة يشعرون بالعزّة والكرامة، ويشعرون بأنّهم أعضاء حيّة في أمّة حيّة، لها يعملون وعنها يسألون.
هذه هي مكانة الزّكاة والصّدقات في الأمّة المتماسكة والمترابطة، والّتي هي كالجسد الواحد، وهذا هو موقف الإسلام من المال {لكي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم}.
ومَن مَنَع الزّكاة فقد عطّل رُكنًا من أركان الإسلام الخمسة وخرج عن نظام الإسلام، ويعتبر هذا منه تحدّيًا بشعًا لذي الحاجة والمسكنة، ومبارزة للّه بالمعصية، ودليلاً على عدم الصّدق في دين اللّه، وإن صلّى وملأ الدنيا تسبيحا وتهليلا، فما أسهل أن يكون من المصلّين، وما أصعب أن يكون من المزكّين، لأنّ الصّلاة لا تكلّف نقيرا ولا قطميرا، أمّا الزّكاة فعضّة في قلب البخيل وجرح في صدر المنافق.

*إمام مسجد عمر بن الخطاب عين الدم ـ جندل ـ عين الدفلى