نشر موقع "الإيكونوميست" مقالا بعنوان "المصريون يتوقون لرئيسهم المخلوع حسنى مبارك"، وذلك في الثاني والعشرين من أغسطس 2019. ويبدو أن عنوان المقال قد أثار فضول المعنيون بالشأن المصري لا سيما المحللون والمراقبون السياسيون، كما تناولته بعض وسائل الإعلام العربية بالترجمة والعرض وإعادة النشر. وكان من المتوقع أن يسهب المقال في تحليل أسباب ومؤشرات حنين المصريين لمبارك، لا سيما بعد معاناتهم من كل ما فعله بهم على مدار ثلاثين عاما من الحكم الديكتاتوري لدرجة دفعتهم إلى الثورة عليه في الخامس والعشرين من يناير 2011 والإطاحة به. فهل قدم المقال تبريرا أو أسبابا أو أشكالا لذلك الحنين المزعوم؟
يبدأ المقال بعرض قصة من أسماه "أكبر داعمي مبارك على وسائل التواصل الاجتماعي" ومدير صفحة "أنا آسف يا ريس" السيد / كريم حسين، والذي ألقى القبض عليه في التاسع من يوليو 2019 لاتهامه بنشر أخبار كاذبة. ثم يعقد المقال مقارنة سريعة بين سياستي الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي فيما يتعلق بارتفاع الأسعار وحقوق الإنسان. ومن الجدير بالذكر أن السيسي قد أصبح رئيسا لمصر عقب قيامه بانقلاب عسكري عام 2013 ليس فقط ضد الرئيس المدني المنتخب محمد مرسى، بل على تجربة ثورة يناير 2011، والانجازات التى حققتها على طريق الحرية والديموقراطية. ثم يتطرق المقال إلى عرض كثير من التفاصيل المتعلقة بالظهور الجماهيري لكل من مبارك ونجليه علاء وجمال، وتأثير هذا الظهور المتكرر في إثارة غضب السيسي ونظامه.
ويحتوي المقال على نقاط جيدة وموضوعية متفق عليها كوصف مبارك بالديكتاتور، ووصف سماحه بهامش متواضع من حرية الرأي كصمام أمان له ولنظامه لا سيما أمام الغرب، والقول بأن رد الفعل الحكومي المبالغ فيه على الظهور الجماهير لمبارك ونجليه إنما يدل على ضعف نظام السيسي لا على قوة مبارك.
معركة المصريين الحقيقة هى معركة وعى في المقام الأول، ذلك الوعي الذي ينمى قدرتهم على اتخاذ القرارات السليمة، ويرسخ فيهم قواعد منطقية للاختلاف أو الاتفاق ومن ناحية أخرى فإن المقال يشوبه عدد من أوجه الاختلاف. فالبدء بالإشارة إلى أكبر داعمي مبارك على وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون إيحائيا وموجها، لاسيما في ضوء ذكر أن عدد متابعي صفحته "أنا آسف يا ريس" يبلغ 3 ملايين متابع. حيث أن هذا الرقم مثير للشك خاصة في ظل أعداد متابعي صفحات أخرى مماثلة كصفحة "آسف يا ريس" والتي يبلغ عدد متابعيها 17 ألف فقط، وصفحة "آسفين يا ريس" والبالغ عدد متابعيها 42 متابع فقط. وحتى مع افتراض صحة عدد متابعي صفحة "أنا آسف يا ريس"، فإن هذا العدد أقل من نسبة 3 في المائة من المصريين البالغ عددهم 104 مليون نسمة في 2017. كما أن متابعي الصفحات المناهضة لمبارك أكبر من ذلك بكثير، مثال ذلك صفحة "معتز مطر" وحدها البالغ عدد متابعيها حوالي 9 ملايين متابع. الأمر الذي يعكس حجم كل من تأييد ومناهضة مبارك على السواء.
كما أن وصف الظهور الجماهيري لمبارك ونجليه بأنه "آثار حنين المصريين لمبارك" ليس بالضرورة أن يكون حقيقيا، وإنما الأقرب للواقع وفقا لثقافة المصريين وتاريخهم أن يكون قد أكد إيمانهم بحتمية زوال كل طاغية مهما طال الزمن، وكذلك قد يكون دعم بداخلهم الثقة بالنفس وبقدرتهم على الإطاحة بالسيسي ونظامه كما فعلوا بمبارك بعد ثلاثين عاما من حكمه الديكتاتوري. علاوة على أن المقال يعتريه استدلال غير منطقي يتمثل في الحكم بحنين المصريين لمبارك على الرغم من أن قصة كريم حسين، والمقارنة بين مبارك والسيسي، والظهور الجماهيري لمبارك ونجليه وتأثيره على نظام السيسي لا تعد مقدمات تؤدى إلى استخلاص مثل تلك النتيجة غير المتوافقة معها.
وبالمثل تضمن المقال مغالطة منطقية أخرى تمثلت في اتخاذ انخفاض الأسعار في زمن مبارك كمبرر لحنين المصريين له. وفى ذلك تجاهل لتزايد معدلات البطالة والفقر والمرض، وبالطبع انتهاكات حقوق الإنسان تحت حكمه. كما أن في ذلك إغفال لمطالب ثورة 25 يناير 2011 والتي كان أولها العيش ثم الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وكذلك إغفال فترة ما بعد هذه الثورة حتى 2013 حين كان يمكن تحمل الأسعار والاستمتاع بالحرية معا -لا سيما تحت حكم مرسى-، وحين كان نطاق الحرية متسعا ليشمل التظاهر والنقد بل وسب الرئيس نفسه علنا دون ملاحقة أمنية أو خوف من اضطهاد.
خلاصة القول إن ذلك المقال لم يقدم دليلا على ادعائه أن المصريين يتوقون لمبارك كما جاء بعنوانه. فالواقع المعاش بكل مؤشراته يؤكد أنهم يتوقون للحرية والديموقراطية والحياة الكريمة. إن خيار المصريين الحقيقي ليس بين مبارك والسيسي ولا حتى مرسى، بل بين الديكتاتورية والعبودية من ناحية، أو الحرية والديموقراطية والكرامة من ناحية أخرى. كما أن معركة المصريين الحقيقة هى معركة وعى في المقام الأول، ذلك الوعي الذي ينمى قدرتهم على اتخاذ القرارات السليمة، ويرسخ فيهم قواعد منطقية للاختلاف أو الاتفاق، ويدعم قدرتهم على النضال الجمعي من أجل حياة كريمة ومستقبل أفضل. ذلك الوعي الذي يمكنهم من القيام بثورة جديدة مماثلة ليناير 2011 لينهوا حكم العسكر إلى الأبد، ويقيموا بدلا منه دولة مدنية تضمن الحقوق والحريات والعدل لكل مواطنيها، وتكفل لهم تعليما جيدا، وإعلاما موضوعيا نزيها، وخدمات تليق بإنسانيتهم. هذا هو ما يتوق له المصريون حقا وليس مبارك.