أماني شِعريّة
**
فيما يلي بعض القصائد النبطية، التي قيلت في التمني والأماني، ولكن قبل أن نبدأ بسردها، سأورد تعريفاً مبسطاً لمعاني الأماني 0
==**==
الأماني: جمع الأُمنيّة، ولها معاني منها:
1- الكَذِب: لأن الكاذب يقدِّر في نفسه الحديث ثم يقوله 0 قال تعالى: { وَقَالُواْ لَن
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } البقرة111، أي: قال اليهود: لن يدخل الجنّة إلا من كان يهودياً، وقال النصارى: لن يدخل الجنّة إلا من كان نصرانياً 0
2- البُغية: ما يُتمنى، أي الشيء يحب المرء أن يصير إليه 0
وفعلها تمنّى فلانٌ كذا: أراد أن يكون له 0 قال تعالى: ( ولا تتمنوا ما فضّل اللهُ به بعضَكم على بعضٍ، للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبنَ، وسئلوا اللهَ من فضله، إن اللهَ كان بكُلِّ شيئٍ عليماً ) النساء 32 0 قال الشاعر متمنياً معشوقته ( سلمى ):
وناديت يا رباه أولُ سَألتي = إليكَ سُليمى ثم أنتَ حسيبها
والأُمنية من معنى المَنًَى أي القَدَر، وهو قَدَر الله، الذي يُقدِّره للإنسان من الخير 0
وفعله مَنَى اللهُ الخيرَ لفلانٍ: قدّره له 0
قال الله تعالى: { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } الحديد14 0
وقد أورد الشاعر عبيد بن الأبرص لغزاً، يسأل امرئ القيس عن معناه، فأجابه امرؤ القيس قائلاً:
تِلكَ الأمَانيُّ يَترُكنَ الفَتى مَلِكـاً = دُونَ السّمَاءِ وَلم تَرْفَعْ لَه رَاسَا
بعد هذا التعريف المختصر لمعاني الأماني، وما تؤّل إليه عادةً، بأنها غالباً تكون كذباً يقولها المتمنّي، ثم يمنى بالفشل، وحدوث ما لم يتوقعه، كأن يقول أتمنى أن تقع حرب بيننا وبين أعدائنا، لأفعل كذا بهم وكذا، معتقداً أنه لن تقع بينهم حربٌ، فيقع ما لم يكن له بالحسبان، حيث تقع بينهم وبين أعدائهم حربٌ كما تمنّى فيفشل 0 قال الله تعالى: ( فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين ) البقرة 94 0
==**==
سأورد بعض القصائد الشعبية، التي يغلب عليها طابع الأماني، بل هي خاصة بالأماني، ومن أشهر هذه القصائد قصيدة الذلول لشاعرٍ من قبيلة قحطان، وهي قوله:
يالله أنا طالبـك حمـر هـوى بالـي = لا روح الجيـش طفـاح جنايبـهـا
وان روح الجيش حاديه أشهب اللالي = لا هي تورد وسيـع صـدر راكبهـا
اللي على كورهـا واللـي بالحبالـي = واللي على المردفه واللـي بغاربهـا
لا روحت مع سباريت الخلا الخالـي = كن الذيابـه تنهـش مـن جوانبهـا
تزهى السفايف وتزهى الخرج وحبالي = ومجـرب لسـراب الليـل صالبهـا
مع بندقٍ رميها مـاضٍ لـه أفعالـي = مخضبٍ عقبها من ضـرب شاربهـا
الله يرحمك يـا عـود شراهـا لـي = من واحـد جابهـا للسـوق جالبهـا
شريتها بالدهر يوم ارخـص الغالـي = بميه وخمسين مـا يمهـل يغايبهـا
حديدهـا وأذكـر الله كنـه ريـالـي = كن الحيايـا تلـوى فـي مقاظبهـا
أضرب بها الوعـل لا منـه تهيالـي = ابـو حنيـه كبيـر الـراس شايبهـا
لا ثـار بارودهـا للعـود منهالـي = منهـا الريايـا مقطعـة نشايبـهـا
والى لفونا مـن المقنـاص زعالـي = احـدٍ مـدح بندقـه واحـدٍ يعذربهـا
بشرتهم بالعشاء من عقـب مقيـالي = القايده مـع مـرد الكـوع ضاربهـا
==**==
في ليلة من ليالي السمر بمجلس الفارس : بنيّه بن قرينيس الجربا ( 000 - 1230هـ ) . فتمنى شاعر شمر بصري الوضيحي، في قصيدةٍ له، يتحدى بها الفارس الدريعي بن شعلان ومجول جد ال مجول من الشعلان، شيوخ الرولة، من قبيلة عنزة، فقال:
أبا اتمنى كـان هـي بالتمانـي = صفرا صهاو اللون قبـا طليعـي
تسمع قظيع احنوكهـا بالعنانـي = قظيع هرشٍ مقتفٍ لـه قطيعـي
وسروال تومان ومثل الشطانـي = ومصقلٍ مثل الثغب لـه لميعـي
أبي ليا لحق الطلب لـه غوانـي = والخيل معها (مجول) و(الدريعي)
اردها وان كـان ربـي هدانـي = من المعرقه ياتي على الخد ريعي
اردها لعيـون صافـي الثمانـي = بيض النحور مهلكات الرضيعـي
قدام شمر مثل زمـل الصخانـي = اللي يخلون المخالـف يطيعـي
فقال له: الشيخ بنيه الجرباء بس هذي منوتك؟ ابشر بالفرس والسيف ..!!، وفي الغد سنغزو على الشعلان ! ، ونأخذ إبلهم، واحتمالاً كبيراً أن تلحق بنا خيل طلبهم، ولنرى ماذا ستفعل، تردها تدافع عنا أم ماذا تفعل ؟
فأعطاه فرسه، وسيفاً له، واصطحبه في الغد معه، كما واعده، ضمن غزية من قومهم من قبيلة شمر، فاغاروا على إبلٍ للرولة، وأخذوها، فلحقت بهم خيل الرولة، وكان فاطاروا رأس أحد فرسان شمر، فلما رأى بصري هول الأمر اصابه الهلع، فترك
الغزو، وفر هارباً عائداً إلى أهله، فسألته النساء عما وراءه فقال: أنا شريدة من ورائي 0
قيل: وربعك ؟ قال: ذبحوهم كلهم، ما سلم منهم أحد !!
قالوا: فلان ؟ قال: ذبح 0
وفلان ؟ قال: ذبحوه 0
وفلان ؟ قال: ذبح 0
وفلان ؟ قال: ذبح 0
قال شايب جالس: يا جفا المحن (يعني يا كافي المصائب العظيمة!)
قال بصري: والله العظيم، شوفي بعيني، إن حتى جاف المحن معهم ( أي مع الطلب الذي لحق بهم ) 0
فعلم الرجل المسنّ ان بصري، قد أرهبه الموقف، ويحاول تأكيد هول الموقف، دون وعي بما يقول من شدة الروعة ! فطمأن من عنده، وأشار عليهم بأن لا يصدقونه 0
وعندما وصل قومه، سألهم بصري، قائلاً: هذا أنتم ؟ !!
قالوا: شوفة عينك ( ها نحنُ كما ترى ) 0
قال: والقوم اللي لحقوكم ؟ ! ( والقوم الذي لحقو بكم، ماذا فعلوا بكم، ألم يقتلوكم ؟ ) 0
قالوا: القوم تركنا لهم إبلهم، فتركونا 0
قال: والله إنني أحسبني أنا الشريدة، ( والله إنني كنت أعتقد إنني الوحيد الذي نجى من القتل ) 0
وكان الشيخ بنيه الجرباء غاضباً على بصري الوضيحي، لهروبه، وعدم وفائه بوعده، وهو ما تمناه، من أخذ إبل شيوخ الرولة وفرسانهم، رغماً عنهم، فأمره بأن يغسل فرسه، سبع غسلات، تأنيباً له على فعله، فقال بصري هذه الابيات:
أنا بلايه لابسيـن القطانـي = اللي يخلون المخالف يطيعي
من فوق قب مكرمات سماني = يشدن شياهين تخطف مريعي
ولبصري الوضيحي قصيدة أخرى، في فرس بنيه الجرباء، منها قوله:
تبي مراكيضٍ عليها مضراه = وأنا عليها مقعيٍ كني البوم
==**==
ومثل ما تمنى بصري ملاقاة الدريعي بن شعلان ومجول الشعلان، تمنى ولده شخيـّر البصري الوضيحي، ملاقاة دهام بن قعيشيش شيخ ضنا ماجد من الفدعان، و دلي الاميّر، وهو فارس معروف من الفدعان نخوته ( راع الحيزا )، وتمنى هذه الأمنية، والتي هي طلب فرسٍ من عبد الكريم الجرباء تقريباً، رداً على قائلٍ قال له: سيّر لِمَ لا تسير يا شخير ؟ ّ! فقال:
قالوا تسيّر قلت مانـي مسيّـر = يكفون بالمسيار فتخان الايـدي
وان كان ولد الشيخ يبغان اسيّر = يعطيني اللي مثل عنق القريدي
وان ماذبحت دهام والا الاميّـر = يحرم علينا لبسنـا للجديـدي
==**==
فرد عليه احد شعراء الفدعان، قائلاً:
يا راكب اللي ما لهجها الحويّـر = حمرٍ زواها القفل عقب الفديـدي
عليها من يوصل سلامي شخيّر= اللي بدع بالشيخ قافٍ جديـدي
بالك عن القلطات قلطة عفيّـر = حاول يصيد وحبّلوا له وصيـدي
ابوك قبلك ما ذبـح كـل خيّـر = ولا ذكر بكم غير القصايد حميدي
كانك وصلت الشيخ قلـه يهيّـر = عليه مـردود النقـا لا تحيـدي
دهام شيخ الروم ما هو صغيّـر = طلعه عليكم يالوضاحـا بعيـدي
عدونا بالكـون عمـره قصيّـر = ناتيه بسيوفٍ تقـص الوريـدي
نركب على مثل الحمام المطيّـر = ياطن حديد ولبس اهلهن حديدي
كم واحدٍ خلّـي باثرهـن متيّـر = عليه عكفان المخالـب تعيـدي
من رازنا عن نـو بالـه يغيّـر = يرتاح عن وجهه لقانا يهيـدي
==**==
يروى إن الشاعر/ عمعوم العسكري الرويلي، وهو أحد الفرسان المعدودين، والشعراء المجيدين، طلب من ابنه دغيّم أن يتمنى لكي يعرف رغبته، وهو في مطلع شبابه فذهب دغيم يتمنى الأمنية التي جاءت على باله، فيقولها في الأبيات التالية:
يا بوي واوجدي على كـور حـرّه = بعيدة المرواح لو درت أنا الـورك
تشرب حثاث من القلص ما تكـرّه = وتضرم ليا صار الركايب لهن عرك
وتفر ليا سمعت من الروض فـرّه = فرّة قطاةٍ حرّكـت بيضهـا حـرك
==**==
فلم تعجب أُمنية الابن دغيّم والده، عمعوم العسكري، فقال القصيدة الآتية، يحذر ابنه من ممارسة تناول دخان التبغ، لما في تعاطيه من الضرر على صدر المتعاطي له، كما يؤنبه على أن اقتصر في أمنيته على الذلول، ولم يتمنّى زوجة باهرة الجمال، وبيت كبير، وإبل لا تعد ولا تُحصى، وفرس أصيلة سابق، وعشيرة عزيزة، ذو بأس وشجاعة، ينصرونه عند ساعات الضيق، ويعزّونه، وأن يكون على يقين من أن الذلول وسيلة غزوٍ فحسب، ولا ترد ما كتب الله له من خيرٍ أو شرٍ، حيث يقول الأب الشاعر عموم مخاطباً ابن دغيّم، رداً على أبياته السابقة:
ياللي طلبك من المنى بـس حـرّه = بيني وبينك سامك العرش يقهـرك
تبي عليها بـس صوتـك تجـرّه = سلّط عليك غليّم ول مـا اقشـرك
وتاخذ على كوره من العظم كـرّه = حذراك يا دغيّم ترى التتن ينحـرك
لا تشربه واحذر بردنـك تصّـره = اللي عزّاني عنه يقـدر يصبـرك
ما تطلب اللي مثل عـود المـدرّه = تفتن طواريد الهوى وانت تسحرك
وبيتٍ كبيرٍ من زمـا لـه يمـرّه = مشتوح كسره والمسايير تنحـرك
وذودٍ كثيرٍ مثـل نجـوم المجـرّه = متخالفات عيالهن وسطهن بـرك
وبنت العبيّـه مـن حليبـه تبـرّهومشنشلٍ عود البلنزا على ابهرك
لا تطلب اللي لا حضر يوم شـرّه = ربعٍ ليا جت ساعة الضيق تنصرك
ربّك ليـا منّـه نوالـك مضـرّه = لو كنت في روس الشواهيق حدّرك
وربك ليـا منّـه نوالـك مسـرّه = حدّر عليك سلوك الأسباب واظهرك
==**==
ومن المعروف إن الأماني تكون طلب معشوقة، أو ذلولٍ أصيلة، أو سلاحٍ عملاق، أو قتل الأعداء والتشفّي منهم، أو طلب دخول الجنة، في الآخرة، أو غير ذلك عادةً، ولكن ربما لا تقف الأماني عند هذا الحد بل تتكاثر بتكاثر المتطلبات التي تفرضها ظروف الزمان، وما يتعلق به الإنسان مما يراه من المتمنيّات، والمطالب التي تهواها نفسه، بعد أن تعرّف عليها، وأشتاقت إليها نفسه، فنرى أن للمداهل نصيبٌ من الأماني، كما لها نصيب وافرٌ من الحنين والشوق، مثل هذه الأماني الشعرية للشاعر/ زيد بن نغيمش من الراشد من الفردة من حرب:
عزالله اني تقل للبيت حجـاج = لوتنتقل ضيده شمال الزبيـره
وعيال راشد كنهم زور الأفلاج = عقب الطنايا حودر للجزيـره
رد الخبر يا طارشٍ يم هجـاج = بلّغ سلامي جعله لك سفيـره
==**==
والتي سمعها الشاعر/ حمود بن شلاح من الطرفاء من بني علي من حرب، والمتوفى سنة 1368هـ، وكان وقتها مقيظاً، مع بعض قومه في العراق أيضا، أنشد قصيدةً مجاراةً لها، على نفس المقصد، والقافية، منها قوله:
حنا بحلنـا مالنـا كـل منهـاج = يا الله يا المطلوب كيف البصيـره
حنا نحرنا السيف و العم محتـاج = والبشك يظمي والموارد عسيـره
في فيضة أم عشر نطلبك هـداج = إلا وتنـزل كابـده لـه جسيـره
ياما حلا من فوق كان السلف راج = كـن الظعايـن مزنـةٍ مستديـره
في مرتعٍ فيه الظباء تلعج لعـاج = تطرب له الوضحاء على كل ديره
حطن خباري عون للنيب مسهاج = ترعى مع الصمان وضحاءٍ ظهيره
أولاد علي كأنهـم زرع الأفـلاج = تشفق على عج الدخن و المغيره
من فوق صفرٍ باللقاء يجنك أزراج = وسلاحهم خضر النمش والقصيره
مشو على الصابور والكل ما ماج = بالدبدبه شبعـو اعداهـم كسيـره
أميرهـم جـلال للهوش ينعـاج = لا ثوّر الدخان يضـرب عسيـره